النعيم الزائف: المدن التي تضحك على شعوبها وشعوبها التي يضحك الزمان عليها.. كيف ومتى يسترد البحر مدن الرماد والملح!
المهندس خالد شــحام
مساء الأمس كنت في زيارة لأحد الأصدقاء في زيارة خاطفة عقب عودته من سفره لإحدى عواصم العرب حيث يعمل هنالك بعقد مؤقت ، راح الرجل يتغنى ويبدي شديد إعجابه من البنايات والأسواق والبضائع والرفاه ونعومة العيش في هذه المدينة وتفاصيل العناية بها وغناها بالمعالم السياحية والترفيهية وكثرة السيارات الفاخرة والباهظة ، وفيما كنت أتأمل في عباراته بكل بلاهة دارت في مخيلتي كالعادة أسئلة كثيرة .
عندما يحدث أن تتجول في مدن عربية من العواصم الحديثة التي نعاصرها يسهل أن تلاحظ جملة من القواسم المشتركة الظاهرية ، كل شيء يبدو حديثا ومتفقا مع معطيات العصر والصور التي تنقلها الشاشات للعالم في القرن الحادي والعشرين من جمال ورفاه وتمكن ، بنايات ومنشـآت يتضافر فيها الزجاج والحجر مع المعدن والهندسة لتوحي بالقوة والاناقة ومتعة الحياة ، شوارع متعددة ومزودة بخدمات ، متاجر ومبيعات ، كافيار وسوشي ، أصناف مستوردة لا تخطر على البال ولم يكن لأبائنا أو امهاتنا أن يحلموا بمثل هذا الفيض والطوفان الناعم من الإختيارات والأصناف في كل ما يمكن التفكير به من طعام وشراب ومشتريات وملابس وكهربائيات وسيارات وبذخ من كل صنف ولون ، نحن الان في بلادنا ومثل دول أخرى كثيرة نعيش على ما يسمى بنعم العولمة أو ما يعرف باقتصاد العولمة الذي نقل المنتوجات المادية من شعوب إلى أخرى ونقل بمعيتها الثقافات وأنماط التفكير والحياة وحواف الصراعات السياسية.
في بعض الأحيان حينما أقف أمام مبنى تجاري وأشاهد نوع وكم السيارات الباذخة التي تصطف على البوابة أسأل نفسي : أين أنا ؟ ……..وحين أتامل في الملابس المستوردة والعطور والبذلات الفاخرة وأصناف الأطعمة العجيبة التي تعرض على الواجهات وفي الإعلانات أسأل نفسي أكثر : هل تشكل هذه النعم خطرا علينا أم أنها فعلا منحتنا الشعور بالمشاركة الحضارية والوجودية وصرنا أقرب إلى الشعوب الأخرى ؟ ……..الفكرة الوحيدة التي تخطر في بالنا جميعا أننا امام حالة من النعيم الزائف الذي نعيش ونتعايش معه منذ سنوات طويلة حتى تغربنا وتباعدت بنا السبل ، تبدو الأسئلة بسيطة وتائهة ولكن عندما نتأمل جيدا سنجد أن هنالك ما هو أعمق بكثير مما تبدو عليه الأمور .
إذا زرت بلدا مثل اليابان أو الصين أو أي من بلدان أوروبا يمكنك ان تجد ضمن جولاتك أماكن ومواضع للخدمات والسياحة من شتى الأصناف التي ترضي ذائقة أيا كان ، تتعجب أحيانا من تغلغل الرغبات البشرية إلى حدود من الرفاه المتقدم جدا والتي جاءت كنتيجة طبيعية لتطور ونهضة النشاط الإنساني في كل مجالات الحياة ، في هذه البلدان تشعر أن الأمور في مواضعها وتتناسب رحلة العمل مع قطاف الثمار مهما كانت ، في المقابل وعندما تسمع عن أو تزور بعض البلدان العربية وتشاهد الرفاه المستورد والنعم المزيفة التي أستحضرت لخلق إيحاء كاذب بالسعادة والفرحة المعيشية تدرك فورا بان هذه النعم لا تليق بهكذا مكان ولا محل لها من الإعراب لأنها طارئة وليست أصيلة .
عندما يكون المرء حيا بشكل ســري في عالم الضمير المتواري سيكتشف هنالك أشياء كثيرة ، منها مثلا ثمة ميزان ملائكي فائق مصنوع من ذهب الحكمة وفطرة الله النقية التي أودعها في نفوس البشر ، هذا الميزان غائب عن العيون لكنه حاضر في البصيرة ، هذا الميزان يتدخل فورا في أي مكان تلجه أو تشاهده أو تزوره كي ينطق ببعض الحق بشأن الأشخاص والزمان والمكان ، إنه مقياس تضع على كفته الأولى ما لدى المكان أو الشخص من ذخيرة إحسان أو ( جهد وعمل ومنتوج فكري وعلمي وأدبي وحضاري وصناعي نافع ) وتضع في الكفة الثانية ما هو موجود من مكتسبات مادية وشكلية ، وبالتالي فأنت تقارن بين الدخل والخرج أو بين التعب والنتيجة ، وبسبب هذه المقارنة الفورية وهذا القياس يمكنك إصدار الحكم على المكان أو الزمان أو الكيان : من انت وكم تساوي وما هي قيمتك الوجودية ! وهل تستحق أم لا تستحق هذه المكتسبات والنعم ؟
بعد فترة ستجد بأن هذا الميزان يقول لك بأن هنالك نوعان من النعمة ، نعمة أصيلة كسبتها عن جد واجتهاد وتضحية وعطاء وبرامج حقيقية ، ونعمة مزورة او مزيفة إما كسبت بأوجه غير مشروعة ( مال حرام ) أو أنها جاءت مكافأة كاذبة مستحقة لجهود عبثية أو عدمية أو ميكروية القياس واستعراضية.
وباستخدام هذا الميزان الملائكي يمكنك أن تميز النعم المستحقة أو المزيفة فورا ، فإذا دخلت مثلا منزلا لبيت وزير أو مسؤول سابق كرس حياته للنهب وسرقة المال العام ووجدت أن بيته وسيارته وثروته وصلت إلى ملايين الدولارات بينما وصلت قيمة جهوده وإنجازاته إلى خمسة قروش فأنت هنا ترى تجليات النعيم الزائف والكاذب وغير الذي في محله ، وعندما تزور مدينة عربية وترى فيها سيارات لا تراها في عواصم أوروبا التي تصنع أفخر السيارات وتتذكر في وعيك أن هذه المدينة لا تصنع برغيا ولا تتقن إنتاج إبرة خياطة ولا تحسن جمع النفايات صباحا ، فانت ترى نعيما زائفا وكذابا وفي غير محله وترى مدينة كاذبة مخادعة تضحك على سكانها وسكانها يضحكون عليها وعلى زيف حياتهم الهشة ، وعندما تدخل جامعة عربية وترى الوجاهة والشهادات والشعارات المعلقة على الجدران واوسمة العمادة والرفاعة ودرجة الاستاذية ثم تقارن ذلك بنتاج الجامعة من الأبحاث والنهضة الصناعية والمساهمة في حل مشاكل واقعها الوطني فأنت هنا في نعيم زائف خادع ولا قيمة لكل هذه الجامعات ولا كل هذه المعرشات ، وعندما تدخل متحف التاريخ العربي الحديث فأنت هنا تلمس زيفا ماديا ومعنويا يراد به وضعك في رتبة الخديعة وضلالة العيش وأكذوبة البقاء تحت قبة كبيرة اسمها النعيم الزائف !
النعيم الزائف هو شعوب بأكملها تلبس وتأكل وتتداوى وتعيش مثل الطفيليات في مسامات الشعاب المرجانية على شقاء وتعب الشعوب الأخرى و تؤمن تماما بأن الإسلام أعزها وجعلها خير أمة للعالمين …. النعيم الزائف هو مدن و بنايات ومجمعات بناها العمال والمهندسون الكوريون والصينيون والهنود والأوروبيون ودفعنا ثمنها لأننا نبيع القار والقرار ونتفرج عليهم وهم يحرثون ويبدعون فيما نحن نتعاطى شيشة المجد وتمباك العظمة …. النعيم الزائف هو تلفاز يبث ألف محطة غواية تم وضعه في البيت لتكريس متعة تفريغ العقل وتعاطي مهلوسات الغربة الاجتماعية واعتزال الفضيلة وتأثيث الروح بالرذيلة والبقاء في حالة تطبيل وتزمير ورقص إلى الأبد ….. النعيم الزائف هو أن تشتري الكرامة على شكل صفقات و تبتاع أوسمة الجنرالات التي تزين صدر جيشك على شكل سهرات ، النعيم الزائف هو أن نتباهى بالبذلة التي صنعت خيوطها الصين وصممها خياط ايطالي وباعها متجر فرنسي … النعيم الزائف هو أن تشتري شامبو الشعر لمكافحة القمل المتشبث بتاريخك وشعر هزائمك وأنت عاجز عن حكه أو الدوس عليه ….. النعيم الزائف هو أن تعتقد أن عروبتك أو دينك أيا كان هو الكفيل بوصولك إلى المجد دون العمل والتعب والتواضع والتضحية ….. النعيم الزائف هو ان تتمتع بشبكة الماء والكهرباء والانترنت والاتصالات وكل تقنياتها محكومة بين أصابع الأمم الأخرى …….. النعيم الزائف هو اعرابي قادم من كهف التاريخ يقود جحشا ميكانيكيا من شركة ميرسيدس أو فورد أو تويوتا تطلبت صناعته مائة سنة من تضافر الهندسة الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية والكيمائية وجهود ألوف من علماء العالم وملايين العمال المهرة لكي يركبها كائن حي يدعي أنه من جنس الإنسان !
في الثقافة العربية الإسلامية هنالك مصطلحات أكثر دقة من مبضع الجراح لتصف سيكولوجية الموضوع بأكمله وتختصر أطنانا من التفاصيل والأوصاف ، عندما يتضافر النعيم المادي المتخم والفائض عن الحاجة الفعلية الحقيقية من مولات ومهرجانات ومسابقات وسيارات واستيراد راقصات وبارات وتقنيات فاجرة يتولد معامل نفسي مستحضر من مكر الشيطان نفسه اسمه البطر ، والبطر في ثقافتنا هو وليد سيكولوجي – مادي منحرف جينيا وملعون سماويا يكتسح الذات البشرية مثل الإدرينالين ويضخ فيها ثقة زائفة بأنها متمكنة وقادرة وباقية ويكسبها نفورا واستعلاءا على الله و ما منح من النعم ، و في مرحلة متقدمة من التورم الداخلي عندما تتعزز ثنائية ( البطر – التنعم ) نحصل على الصفة القصوى لردة الذات عن ذاتها وهي الترف ! والترف في ضمير الكون ليس إلا شيئا يثير رعبه ويبعث أشد أحزانه لأن هذا الكون يعلم ويفهم بأن الله مهلك لا محالة … للمترفين !
لماذا تعد النعم الزائفة مدخلا للترف ؟ وما الذي يفعله هذا الشيء بالشعوب العربية تحديدا ؟
أولا : إن تشخيص الانظمة العربية للشعوب المغرقة إما في الفقر المدقع أو الترف الفاجرهو أساس تصرفها بثقة في كل خطوط الاستسلام والتسليم لانها تدرك تماما تبعيات الغرق في النعيم المزيف وكيف يمكن صنع اجيال وطبقات اجتماعية يمكن اذلالها بقطع بعض المؤونة الغذائية او جعلها تتسول العطف والرحمة من مجرد رفع الاسعار واللعب على محور الغلاء ، المواطن الذي تربى على النعم المزيفة مستعد ان يقف على طابور السوبرماكت لثلاث ساعات في سبيل طعامه وشرابه ابان أي مهزلة ، والمواطن الذي تربى على النعم الزائفة سوف يركع ويقبل الارض اذا منعت عنه وجبات كنتاكي وماكدونالز ورقائق الكورن فليكس ، ان النعم المزيفة هي نهج تكاملي من الاغراق المتعمد الذي لا يهدف الا لخلق شعوب عاجزة كسولة عديمة الممانعة وعديمة القدرة على المواجهة ، يمكنكم دراسة تجليات هذا الأثر في مناسبات كثيرة لتفهموا هندسة الشعوب وعجنها لتكون عدمية وعدوة لنفسها .
ثانيا : إن حالة التردي السلوكي القومي والوطني والعروبي لأمتنا ناجمة عن تعلقها بالنعم الزائفة والتصاقها المباشر بالمكاسب السطحية الناجمة عنها ، إن الشعوب ترفض الاستيقاظ لأنها وجدت النعم الزائفة بديلا جيدا للغضب والتعطيل والتعرض للمضايقات الأمنية ، والشعوب التي تغلق فمها عن المطالبة بحقوقها تفعل ذلك لأن لذة البسكويت المستورد وبذاخة السيارة المستوردة ونعمة الهاتف الخلوي الذكي أفضل ألف مرة من كل قصة الصحو ، إنها شعوب مدمنة على الهزيمة لأن الهزيمة مقترنة تماما بالملذات ، إن أكبر عملية تخدير لعبها العدو ضد من يقاوم بأن منحه السيارة الدبلوماسية والجواز الحمر وفتح له من كل الملذات بابا ولهذا السبب سقطت المقاومة .
ثالثا : إن النعم الزائفة هي مصدات التطوير والنهضة وأفضل وأسرع وسيلة لتعطيل قوى العقل والروح والدافعية الحياتية ، إن الشعوب التي نهضت من الرماد هي تلك الشعوب التي بنت وأنشأت وصنعت كل ما يلزمها بيديها كي تمنح الشعوب غاية و للحياة معنى وطريقا تمشي فيه الأجيال وترى فيه النتيجة الحتمية للبذل والعطاء ، تمثل الصين النموذج الأقوى والأقرب والأوضح للعلاقة السحرية بين البذل والبناء ، بين التعب الذي يصنع الوطن والراحة التي تأكل لحم الوطن ، بين اليد التي تعمل والأشجار التي تنمو في اليوم التالي ، بين الصانع الذي ينتج وتحسن حال البلاد في العام التالي ، إن أحد أسباب تدمير النهضة الصناعية العربية هو إغراق المجتمعات بالنعيم الزائف .
رابعا : هنالك علاقات تاريخية وثيقة بين الشعوب المنعمة والهزيمة ، الشعوب المرفهة والمرض الحضاري ، الشعوب الناعمة و الانهيار الطبيعي مع السن ، الرفاه الأكثر – زيادة نسب الأمراض ، الشعوب المرفهة – الجرائم الجنسية المنحرفة ، الشعوب المرفهة -التفكك الاسري ، الشعوب المرفهة ونسب الكفر ومذاهب الالحاد المرتفعة ، الشعوب المرفهة الانهيار الشامل في الصحة ، النظافة ، الانتاج الغذائي والامني لو صار أي طارىء ، الشعوب المرفهة والعزلة عن مشاهدة ومحاسبة النظم القيادية والادارية في البلاد .
خامسا : لا يوجد أي انفصام بين الترف كنهج حياة وهبوط القيمة الآدمية وسهولة هدرها واحتقارها ، وهذا ما يفسر نسب الجرائم العالية في المجتمعات التي يسيطر الترف على ثقافتها المعيشية وأسلوبها في حياتها ، الترف يذهب بالنفس إلى الاستعلاء بذاتها واحتقار ما عداها ولهذا السبب لا يمكن لأمة يسودها الترف والتنعم إلا أن تذهب برجليها إلى فنائها وذوبان قوتها ، لأن الترف يمسح التواضع والطاعة وروح التعاون ويحل مكان ذلك الكبرياء المزيف ويضع البشر في سجون الفرقة والنفور من بعضهم البعض.
الشعوب التي تمعن في النعم الزائفة تتحول إلى قطعان مدمنة وتصبح عالة على الزمان والمكان والموارد وتصبح متطلباتها أكثر وزوالها أسرع ، الشعوب التي تمعن في جلب كل مورفين النعم وفاكهة التقنيات ولذة الحضارات كي تنعم بها وتتلذذ بها مجانا تتحول عاجلا إلى طفيليات وأبواغ فطرية لا يمكن أن تنمو إلا في ظلال الحضارات وبرودة الأزمان ورطوبة الأحداث ، والشعوب التي تدمن النعم التي ليست من غرس يديها ولا من تعبها ولا من جهدها تتحول إلى أكذوبة حضارية مصنوعة من رماد وبعض الغراء السكري و لا تنتظر سوى العاصفة الكبرى التي سترمي رمادها بين المدن والقرى الباقية بعد الحدث الأكبر ، الشعوب التي تدمن النعم الزائفة وتعيش من أجل غد أكثر متعة وأكثر لذة إنما تفقد قرارها الذاتي ومكانتها الحقيقية وتتحول إلى مرتع للضعف والهلع والتنازلات الكبرى والوساطة بين الجلاد وضحاياه وبين ظلمة التاريخ ولصوص الليل الذين يسرقون الأنوار.
لا يمكن أن نربي أبناءنا على الاستقامة وسط نعيم زائف ، لا يمكن ان نجد مسوغات النهوض والقدرة على الوقوف فيما نحن نجلس على مقاعد الترف الزائل والزائف ، لا يمكن أن يحدث أي نوع من التطور أو التحسين أو اكتشاف الأخطاء في كل نظم المجتمع والدولة أو وضع اليد على مواضع الخلل ما دام النعيم الزائف يغشى كل شيء لأن الترف هو الإسم الحركي للفساد ، لا يمكن ان يتقدم التعليم لدينا من خلال اللوح التفاعلي ولا الهاتف الذكي ولا الحاسوب السريع ولا الانترنت بسرعة مليون جيجابايت ولا القاعات المزودة بشاشات عملاقة وبراقة لأن كل هذا نعيم تعليمي زائف ما زادنا إلا هما وكربا ، لا يمكن أن يعاضد هذا المجتمع بعضه البعض ولا يحب بعضه البعض ما دام النعيم الزائف يتغلغل في معايير الأب والأم والصبية والشاب ، لا يمكن لسيارة الدفع الرباعي أن تكون مصدرا لجمع القلوب عندما تكون غايتها المباهاة بل هي موضع للنفور والبغض والحسد والمكايدة ، عندما تعيش النعيم الزائف فأنت تتحول إلى دعاية مجانية للآخرين وتقر بخضوعك الحضاري وعجزك التاريخي أمام جهودهم وحضارتهم وإنجازاتهم ولن تكون لا شريكا ولا مساهما ، عندما تعيش الأمة بأكملها او الدولة بأكملها في الرفاه الزائف والنعيم الزائف نصبح كلنا عبيدا للعولمة الأمريكية ومجرد خدم أكثر أناقة على عتباتها المقدسة وأهرامها التقنية .
يجب أن يكون هنالك تناغم عظيم وناعم بين ما نبذل وما نتنعم ، بين ما ننتج وما نستحق ! منذ اللحظة التي تركنا فيها فطرة الإنسان في العمل والبناء والعمارة والعلم والنتاج الجمالي خسرنا كل طريق الحضارة ، المدن والشعوب التي تلعب لعبة الرفاه دون وجه حق إنما هي حدث طارىء ومؤقت وعالة على التاريخ والسجل الأحفوري للأحياء ، إنها مدن وشعوب مسجلة كضحية للبحر الذي عادة ما يغسل هذا العار الزماني ويرجعه إلى أصوله من حصى ورمال وفتات تلهو به الأمواج على شواطىء الشعوب التي تريد الحياة وتعمل لأجلها ، لعبة الترف ليست مجرد نزوات بشرية عابرة للتاريخ والأحداث ، بل هي اليوم في عالما أداة هندسة شعوبية سياسية تقوم على مذهب الإلهاء والإلتهاء وإذهاب البأس والإنتاج والقوة الجماعية ، وهي أيضا فخ رباني محكم ليفسر لعباده كيف يهلك قوم دون قوم وكيف يمحق قرية دون قرية ، لو كانت لدينا قيادات عربية تتمتع بمهارة التوازن والعقلانية والفهم العميق لإدارة نوع وكم الرفاه الذي يغزو بلاد العرب لكان حالنا غير حال في كل شيء من القوة والمناعة والحصانة ضد أحداث الزمان ! وما من حديث أبلغ ولا أشد قولا مما تذكر فيه الآيات :
{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}