دولة فلسطين بين الممكن والمستحيل
منذ توقيع اتفاق أوسلوبالأحرف الأولى في شهر اب أغسطس عام 1993 ورسائل الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل, لا تزال القضية الفلسطينية تزداد تراجعا وتعقيدا0
وبطبيعة الحال لم يكن الاتفاق كاملا ووافيا, وهذا واضح من الاسم الذي أطلق عليه (اتفاق اعلان المبادئ) وكان اتفاقا لايمتلك الآلية لتنفيذه 0 خطواته متعثرة منذ البداية فلا احترام لمواعيد التنفيذ, ولا التزام بنصوص الاتفاق, وكلنا يذكر ماقاله رابين بأن المواعيد ليست مقدسة في اشارة منه لتشريع التلكؤ بالتنفيذ وفيما بعد التغاضي نهائيا عن الالتزام بما تم الاتفاق عليه وتقاعسه عن اتخاذ القرار في اللحظة المناسبة0 فلو قام مثلا باجلاء الأربعمائة وخمسين مستوطنا اسرائيليا مباشرة بعد المذبحة التي نفذها اليهودي الارهابي غولدشتاين في الخليل وذهب ضحيتها ثمانية وعشرون مدنيا فلسطينيا أثناء أدائهم للصلاة, لكان اقتلع وللأبد هذه البؤرة السرطانية التي تزداد وتكبر كل يوم0
وقبل اتفاق اعلان المبادئ هذا بقليل, بدأ البيت الأبيض باستخدام تعبير دولة فلسطينية, خاصة بعدما أعلن الرئيس الراحل أبو عمار ادانته للارهاب واعترافا مقبولا باسرائيل وجرى تكرار هذا التعبيربشكل مستمر بعد التوقيع على رسائل الاعتراف, الى أن وصلنا في عهد الرئيس بوش الابن الى تعبير من نوع آخر اخترعه اعلاميو البيت الأبيض وفيه شيئ من الرومانسية السياسية ان جاز التعبير ألا وهو,(رؤية الرئيس بوش) لدولة فلسطينية وتحقيق رؤية الرئيس, واصراره على حق الفلسطينيين بدولة وما الى هنالك من هذه الصيغ الجميلة والبراقة, حتى بدت وكأنها حبوب مهدئة اعتاد أبو مازن على سماعها والفرح بها بل وتكرارها خاصة كلما عاد من البيت الأبيض خالي الوفاض الا من رؤية الرئيس بوش بينما يعود شارون من ذات المكان بحق الاحتفاظ بالمواقع الاستيطانية وحق اسرائيل بالجدار حفاظا على أمنها وحقها بأن تكون وتسمى وطنا يهوديا بغض النظر عن الاثنيات الأخرى التي كانت ولازالت موجودة هناك منذ آلاف السنين, بل كانت هي التي تمتلك هذه الأرض0
وبدورها, التقفت أوروبا هذا التعبير الرومانسي, وأصبح جزءا من ادبيات الاتحاد الأوروبي السياسية, بل ولم يتوان سياسي أوروبي واحد عن استخدامه وعلى رأسهم العبقري سولانا, حتى كدنا نشعر وكأن من لا يستخدم تعبير (رؤية الرئيس بوش) يرتكب خطأ سوف يعرضه للمساءلة0 كما أن هذا التعبير دخل الى مواقع الحكمة في قاموس اللغة السياسية للنظام العربى, ليستخدم مسكنا لآلام الفلسطينيين0
وهنا لابد لي من الاشارة الى أن كل من قرأ اتفاق أوسلو أو كما اصطلح على تسميته (اتفاق اعلان المبادئ), يدرك تماما أن الاتفاق لم يستند أصلا الى الشرعية الدولية, بل استند الى شرعية الذين اجتمعوا سرا وأقروه , ليتم فيما بعد تعميده في البيت الأبيض بحضور أبطاله ومحرريه يوم الثالث عشر من أيلول سبتمبر لعام 01993 وبما أن الاتفاق افتقد آلية التنفيذ, فان تعليق الرئيس الراحل حافظ الأسد بخصوصه كان دقيقا حينما سئل عن رأيه بالاتفاق فأجاب: ان من يقرأ الاتفاق سوف يجد أن كل فقرة فيه تحتاج بحد ذاتها الى اتفاق جديد0
واذكر فيما أذكر من خلال عملي عشرين عاما سفيرا لمنظمة التحريرالفلسطينية في كل من النرويج والدانمارك, انه مساء الثاني عشر من أوكتوبر تشرين أول للعام 1993 أي بعد توقيع الاتفاق بشهر واحد0 جمعني لقاء بوزير خارجية النرويج الأسبق الراحل, يوهان يورجن هولست, خلال حفل استقبال أقامه سفير سويسرا لدى النرويج على شرف الوزير الراحل تكريما لجهوده الحثيثة في ابرام الاتفاق, وأذكر أن هولست ألقى كلمة مقتضبة لكنها سياسية من العيار الثقيل وفتح الباب للأسئلة أمام السفراء الحاضرين حيث وجه اليه السفير البرازيلي السؤال التالي: ألا تعتقد يامعالي الوزير أن ياسر عرفات أخطأ عام 1977 بعدم مرافقته الرئيس السادات الى اسرائيل, ولو فعل ذلك لكان الأمر انتهى بتوقيع اتفاق فلسطيني اسرائيلي لانهاء الصراع0 أجابه هولست قائلا: نعم لربما, ولكني لو كنت مكان عرفات لفعلت ما فعله لأن عرفات كان يستند في النهاية الى مايمليه عليه شعبه, كما أن الاتحاد السوفييتي كان حليفا قويا لعرفات والحرب الباردة في أوجها, فضلا عن أن مصر دولة عظمى في المنطقة أما فلسطين فهي دولة لم تولد بعد, فلماذا يقدم على انتحار سياسي.
ولما انتهت الأسئلة اقتربت من الوزير الذي كانت تربطني به علاقة طيبة منذ أن كان مديرا لمركز بحوث العلاقات الخارجية النرويجية وسألته هامسا: معالي الوزير, مارأيك بما توصلنا اليه, مارأيك بالاتفاق؟ أجابني هامسا : كان بامكانكم أن تأخذوا أكثر.
مضى على توقيع الاتفاق اليوم أكثر من ثُلاثة عشر عاما خسر خلالها شعبنا الفلسطيني خيرة مناضليه من نساء ورجال وأطفال وأسرى, وتراجعت الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعاد الاحتلال بأبشع صوره وقضمت الأرض بالمستعمرات وتم تهويد القدس جغرافيا وازدادت الحواجز وانهار الاقتصاد الفلسطيني ونمت طحالب فئة متنفذة داخل منظمة التحرير وحركة فتح, فئة لم يكن الراحل عرفات راض عنها, بل وتشرذمت الحركة الى عدة فصائل عسكرية متناحرة, ويقف شعبنا الآن على مشارف الحرب الأهلية ولازلنا نسمع الحديث ذاته عن رؤية الرئيس بوش باقامة الدولة, و تردد الجوقة الأوروبية ذات الأسطوانة.
هذه هي أوروبا التي تحولت بعد 11 أيلول سبتمبر 2001 من كتلة اقتصادية وسياسية قوية, محركة للأحداث, الى قوة تبعية لأميريكا, فكلما حاول أحد زعمائها التمرد على المركز جلده سوط 11 أيلول كي يعود الى رشده وهذا ماحصل وللأسف مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك0
فما اكبرها كذبة رؤية الرئيس بوش تلك, وما أكبر نفاق أوروبا التي تردد هذه الكذبة وهي تعرف أنها كذبة, لا بل أكثر من ذلك ,لأن أوروبا تعرف جيدا أن الرئيس بوش يكذب حينما يتحدث عن دولة فلسطين وتعرف أنه يدرك في قرارة نفسه أن هذا الأمر مستحيل, ولكن نظرية الانفعال التي يحدثنا عنها سارتر قد تقمصته بحيث أنه وبسبب تكراره الدائم للكذبة وصل الى مرحلة الايمان بها, كايمانه بأن الله أرسله لانقاذ العالم من الأشرار0
أي دولة هذه التي يتحدثون عنها اليوم, وهم يعرفون أن أرض فلسطين لاتتسع لدولتين, لاسياسيا , ولا جغرافيا, ولا ثقافيا, ولا اجتماعيا, ولا حتى دينيا0 لأن التعايش لايمكن أن يستمر الى الأبد في ظل ظلم وقع على شعب بأكمله, وشرد بعيدا عن وطنه ليحل مكانه شعب آخر. ولاأبالغ حينما أقول ان هذه الأرض لا يمكن أن تكون الا دولة واحدة لشعب واحد متعدد الديانات, لأن الدين وحده لايمكن أن يصنع شعبا, وليس بالضرورة أن تكون فلسطين دولة واحدة عن طريق القوة فقط0 ويخطئ من يظن أن دولتين متجاورتين تفصلهما حدود دولية , ونظام غير متجانس, وثقافة لاتستند الى العلمانية الصحيحة, والتسامح الديني, وشعور بالتفوق من طرف على الطرف الآخر,وتاريخ حافل بالعداء والكراهية, يمكن أن يؤسس مناخا حقيقيا لاقامة دولتين وتحقيق رؤية الرئيس بوش.
ان معظم الدول الأوروبية تعرف ذلك, وكلهم ساهموا في انشاء الدولة كي يتخلصوا من المسألة اليهودية, لأن المسألة اليهودية كانت مشكلة لهم, فعداؤهم للسامية كان نشيطا منذ القدم, فالكاتب والشاعر العظيم وليام شكسبير, هو صاحب المسرحية المعادية لليهود والتي أسماها (تاجر البندقية)0 انها لكاتب من انجلترا مؤسسة بريطانيا العظمى0 هذه العظمى التي منحتهم أرض فلسطين0 انها مسرحية عنصرية, كتبها الانجليزي وليام شكسبير, ولم يكتبها الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا, أو رشاد أبو شاور, أو المسرحي العربي السوري الراحل سعد الله ونوس.
أستحضر هذا المثل للمقارنة التاريخية ليس الا, بين تعامل أوروبا مع اليهود وتعاملنا نحن العرب مسلمين ومسيحيين معهم, حيث لم يعرف اليهود حياة طبيعية آمنة في أوروبا الا خلال مرحلة الوجود العربي للدولة الأموية في الأندلس,ولولا ذلك لما ازدهرت ثقافتهم روحيا وانسانيا ولما عرف شعراؤهم وفلاسفتهم أمثال ابن
ميمون (ميمونيدوس) وبن هاليفي, وبن جابيرول, وأفيسبرون وكلهم حصلوا على الأمان والرعاية في ظل الخلافة العربية الأموية مابين القرن الحادي عشر والخامس عشر0
واليوم, يدفع الشعب الفلسطيني ثمن الخطايا التي اقترفتها أوروبا عبر التاريخ فتمنحهم الأخيرة فلسطين بدعوى الحق التوراتي, الا أن الحقيقة هي أنهم تخلصوا بذلك من المسألة اليهودية الى الأبد, وأصبحوا القضاة الشرعيين لتحديد من هو المعادي أومن هو غير المعادي للسامية, وكأنهم هم السامييون ولسنا نحن العرب, وهكذا يمنحون أنفسهم صك البراءة من دم ابن يعقوب الذي أكله الذئب وهم عنه غافلون0
تأتي أوروبا اليوم لتبرئ نفسها من هذا العداء لتضع (الطاقية) على رؤوسنا وتؤمن الحماية التامة لاسرائيل وشعبها المختار, فاذا ماقتل أو أسر جندي اسرائيلي من هذه الدولة العنصرية تقوم الدنيا ولا تقعد, فيجهد كل صاحب تأثير في الحدث بالعمل على فك أسر هذا الجندي وعودته لأهله سالما معافى, بدءا من الأمين العام للأمم المتحدة وانتهاءا بوساطة التجار0 وكلنا يعرف ماهي الحال حينما يقتل الفلسطيني بضرورة العمل على ضبط النفس وتخلي اسرائيل عن الاستخدام المفرط للقوة وضرورة العودة للحوار, ولخارطة الطريق ورؤية الرئيس بوش0
أي عهر هذا الذي نراه ونشهده كل يوم, وأي مسخرة وضحك على لحى هذه الأمة وشواربها0 لأن قتل العربي أصبح مشاعا وعادة يومية تتكرر مع كل نشرة للأنباء, مثلها مثل أي حدث جديد أو عابرفي العالم 0
نفاق أوروبا كان واضحا عام 1948 لاعترافها باسرائيل, وقبل ذلك من خلال قرار التقسيم الذي منح للأقلية اليهودية 56% من أرض فلسطين التاريخية بينما حصل الفلسطينييون على 44% وكانوا يملكون وفق وثائق أوراق الملكية (الطابو) 93% من أرض وطنهم فلسطين0 وبالرغم من هذه الحقائق الدامغة صوتت أوروبا المنافقة دائما الى جانب اسرائيل, ثم حملت الشعب الفلسطيني كل الوزر التاريخي الذي مارسته ضد اليهود مئات السنين وتخلصت كما أسلفنا من المشكلة اليهودية مبررة تصرفها بعقدة الذنب تجاههم وتاركة للشعب الفلسطيني مهمة التعويض عن هذا الذنب, ثم حملوا لنا خارطة الطريق ورؤية الرئيس بوش ولايزالون يلوحون لنا بها كمن يسرع ركض الحصان خلف الجزرة, ويضحكون على لحانا, فليتوقفوا عن هذا النفاق وليجدوا طريقة أخرى فيها احترام لذكائنا