لم تغتنم "إسرائيل" فرصة السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، التي كان يمكن أن تعيدها إلى بداياتها، إلى فتوّتها والمحرقة التي بنت عليها. السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، لأمر يتعلّق بسخرية التاريخ وربّما سحره، أعاد من دون أيّ وجه شبه، إلى الميدان ذكرى الهولوكوست. لا نفهم كيف حلّت "حماس" التي لا تملك طيراناً ولا سلاحاً نووياً مكان النازية، وكيف رجعت "إسرائيل" القوية إلى حيث كان اليهود المستضعفون آنذاك في سجون النازية. حدث ذلك حرفياً، إذ لم يجد الغرب غضاضة في أن يهبّ لمساعدة "إسرائيل" للدفاع عن نفسها، وتزويدها بالمال والسلاح في سبيل ذلك. جازت اللعبة وتبنّتها العواصم الغربية، ولم يلتفت أحد إلى الفرق الغريب بين الظرفين وأطرافهما. كانت تلك كذبة تقبّلها الجميع من دون سؤال. استُعيد التاريخ بلا أيّ استدراك، ورجع الجميع، في لحظة واحدة، إلى الوراء توّاً، وجاز ذلك على الكل. استعيد الهولوكوست من أعماق ذاكرة كانت بدأت في التقلقل والمراوحة. الهولوكوست بعد أن انطوت أجيال على الحرب الثانية، لم يعد ما كانه عقب الحرب. لم يعد العالم ما كانه ذلك الحين، أي لم يعد، من قريب أو بعيد، شريكاً في الذنب.
كانت النازية بدون شكّ نتاجاً غربياً، ولم يتبرّأ الغرب تماماً منها. كانت "إسرائيل" هي حجّته للغفران والعفو عن نفسه. أجيال توالت، ولم يعد هذا التذنيب سائداً تماماً. لم تعد الأجيال التالية تحمل، بالدرجة نفسها، هذا الإثم العالمي والتاريخي. "إسرائيل" صارت مع الوقت أمراً واقعاً، أكثر منها مناسبة للتكفير والصفح. كأمر واقع كان كثيرون بدأوا يلاحظون أنّها معتدية، وقريبة من أن تكون عنصرية، ومستعمِرة وشبه إمبريالية. لا بدّ أنّ هذا وضعها في جانب من الصراع، وجعلها مكروهة من الجانب الآخر ومحلّ نقده.
لكنّ المسألة لم تكن بعدُ صارت إلى حلّ، ولم تتطهّر الذاكرة تماماً منها، ولا تزال قائمة في الإرث العالمي، لا تزال، على نحو ما، طرية في البال وقابلة للاسترجاع. ربما لأنّ العالم المتحيّر إزاء نتائجها، أي إزاء "إسرائيل" أبقى لها بعض هالتها التاريخية. لا تزال تحمل، على الأقلّ، العنوان الذي صاحب ولادتها. لا تزال، ولو من بعيد، وريثة المذبحة. لا يزال هذا، على الأقلّ اسمها وفي مقدّماتها. ربما لذلك انساق العالم فوراً إلى استذكار الهولوكوست. مقتلة 1400 شخص، وهو العدد الذي شاع يومذاك، مع ما تنوقل من صور وما بُني عليها، كان كفيلاً بأن يُحيي، فوراً، ذاكرة الهولوكوست، وأن تبدو "حماس" لذلك آتية من وراء التاريخ، بل ومعيدة للجريمة النازية.
- اقتباس :
- كانت تلك كذبةً تقبّلها كثيرون في الغرب من دون سؤال
كان يمكن لذلك أن يتمّ بكامله لو أنّ "إسرائيل"، العائدة هي أيضاً من وراء التاريخ، تصرّفت فعلاً كضحية للهولوكوست. ما جرى بعد ذلك إنّ "إسرائيل" كانت هي الأُولى المبادرة إلى نسيان الهولوكوست، إلى طرحه خارجاً. ما فعلته بدا، بكلمة واحدة، انتقاماً بربرياً. تدمير غزّة، ساعة بعد ساعة، وهدم مبانيها على رؤوس أهلها، جعل أهلها يبدون ضحايا بعيدين كلّ البعد عن أن يكونوا مُحرقين، ومدبّري حرائق. ما رشح هذه المرّة، وبالصور والعدد، من استهداف المدنيّين، وما لحق ذلك من جرائم ضدّ الأطفال، مع ما رافقه، وكان سبقه، من عنف المستوطنين والقتل الحرّ والقصف الجنوني. كلّ ذلك كان مناسبة لافتضاح "إسرائيل"، ولتبيان أنّها هي التي الآن تُعذِّب وتضطهد، مناسبة لقلب الصورة، التي استُرجعت بعد السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، عليها.
إذا كان مناسباً استذكار الهولوكوست، في هذا الوقت، فإنّ هذه الذكرى التي علقت في المخيلات، واستعيدت من وراء التاريخ، لم تناسب الآن أحداً أكثر من مناسبتها لـ"إسرائيل" نفسها. لقد ابتعثت "إسرائيل" صورة الهولوكوست، ولعبت بها، لكن سرعان ما انقلبت هذه الصورة عليها.
منظر الفلسطينيين يزحفون بالآلاف في الطريق من الشمال إلى الجنوب، ووراءهم قتلاهم بالآلاف مع الأطفال المقتولين، والمباني في مساواة الأرض. هذا المنظر يتّحد، من قريب أو بعيد، بالهولوكوست، ويصحّ أن يكون ترجمة له.
هكذا غدا الهولوكوست عنواناً للطرف الآخر. هكذا بدا الفلسطينيون هم الخارجون من المحرقة. هكذا بدا أنّ شعباً بكامله تحت قصف الطائرات، الذي لم تنج منه المشافي، هو الآن في المحرقة. إنّ ما تفعله الطائرات الاسرائيلية بمئات ألوف الجائعين، المرضى، النازحين، ليس هذه المرّة سوى الحريق، ليس سوى نوع آخر من الهولوكوست.
ليس الفلسطينيون مسؤولين بالطبع عن عذاب اليهود، لكنّهم، هذه المرّة، ورثة هذا العذاب. هُم مع الإسلاموفوبيا والمجازر الإسرائيلية، في هولوكوست، هو مع ما يجري في الضفّة الغربية يُغطّي كلّ فلسطين المحتلّة. غزّة هي الآن وربما فلسطين كلّها في الهولوكوست. إنها المحرقة الفلسطينية.