منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Empty
مُساهمةموضوع: تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار   تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Emptyالجمعة 02 فبراير 2024, 8:27 pm

تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار
صدر حديثاً كتاب “أيام.. كلام وخُطا (رحلتي)”، لمؤلفه الدكتور خالد جميل مسمار- رئيس اللجنة السياسية في المجلس الوطني الفلسطيني، وعضو المجلس الاستشاري لحركة فتح.
ويحتوي الكتاب المصنف كـ”سيرة ذاتية”، ثلاثة فصول وملحقين، حيث يتناول الفصل الأول الأسباب التي أدت بالمؤلف للالتحاق بحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وقبوله بالدولة الديمقراطية رغم فكره ونشأته الدينية، ليبدأ الكاتب من خلال الفصل الثاني بسرد أحداث حياته ومسيرته التعليمية واختياراته الإعلامية والسياسية من خلال مشاهد ولقطات، كان محورها الأبرز مساهمته في إنشاء إذاعة صوت العاصفة في القاهرة وصنعاء ودرعا وعمان وأحداث أيلول المؤسفة، وبيروت التي عانت من حصار عام 1982، ليروي لنا الكاتب خروج الثورة منها عبر سفينة كانت تبحر نحو تونس. هذه النقاط والمحطات المهمة في تاريخ الثورة، تجعل الكتاب يؤرّخ لمراحل مهمة للثورة الفلسطينية المعاصرة، كما يؤرخ لفترة ما بعد قيام السلطة الفلسطينية في التسعينات من القرن الماضي، من خلال عمل الكاتب في هيئة التوجيه السياسي والوطني في قطاع غزة ثم في الضفة الغربية، والمجلس الوطني الفلسطيني والمجلس الثوري لحركة فتح, إضافة لما يعبر عنه الكتاب بالبعد الإنساني لمسيرة الثورة، فهو يرصد ويحاكي معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وبذلك يصلح هذا الكتاب ليكون مادة تثقيفية وتوجيهية للأجيال القادمة التي يعوّل الكاتب عليها للاستمرار في النضال والكفاح حتى يتحقق الهدف المنشود بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. كما يحتوي الكتاب على عدة مقالات وخواطر للكاتب في عدد من مواقع وصحف محلية فلسطينية.
يُذكر أن هذا الإصدار يعتبر الإصدار الثالث في مسيرة الكاتب، حيث صدر له كتاب (الكلمة البندقية) بالاشتراك مع عدد من رموز الإعلام الفلسطيني، وكتاب (الكلمة الأمينة).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار   تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Emptyالجمعة 02 فبراير 2024, 8:44 pm

الحلقة الاولى: أيام.. كلام .. وخُطا (رحلتّي)
الكاتب: خالد جميل مسمار




لا يوجد فلسطيني على وجه الأرض إلا ومرّ بذكريات طويلة، حلوة ومرة، لكن الذكريات المريرة هي الاكثر أما الحلوة فلها مذاق يبقى صامدا لقلّتها!
وأهم ما علق بذهني وما يزال حتى اللحظة وكان له التأثير القوي على مسيرة حياتي هو مأساة الهجرة في العام 1948م حين كان عمري لا يتجاوز السنوات الست.
كان للهجرة تاثير كبير على اتجاهي السياسي فيما بعد..
كنت أرى الأفواج القادمة من أنحاء فلسطين إلى مدينتي نابلس بالشاحنات مهاجرة إلينا وعقلي الصغير يتساءل لماذا جاءت هذه الافواج وتركت منازلها، وفي المقابل أرى سيارات الجيش العراقي وهي متجهة شمالا والناس على جانبي الطريق تهتف لها وأهتف معهم، ولكن أتساءل ما الذي يجري؟
المعروف أن الكبار يدّعون أن الاطفال في مثل سني لا يستوعبون أو يفكرون فيما يجري حولهم، ونعامل أطفالنا بهذا الاسلوب! ولكن أطبق ذلك على نفسي وأقول إن للطفل تفكيره ورؤيته وهذا ما أثر في مسلكي فيما بعد!
سيارات كبيرة تأتينا يوميا، شاحنات أو ما كان يطلق عليها (تركّات) مليئة بالأطفال والنساء والشيوخ والشباب، كنت أسكن وأسرتي أمام مدرسة اسمها مدرسة النجاح الوطنية على درج عند المنشية التي أصبحت فيما بعد بلدية نابلس ثم تحولت إلى مكتبة، امتلأت المدرسة باللاجئين، ورأيت ساحة المدرسة وقد امتلأت بالخيام.
قادتني قدماي الصغيرتان إلى داخل المدرسة، فحب الاستطلاع لدى الطفل قوي، كان اللاجئون يفصلون ما بين الأسرة والأخرى بفاصل من الشاش أو البطانية التي كانوا يتغطون بها أو يلتحفونها، ولم تكن البطانيات تكفيهم، الأسرة من الزوج والزوجة والاولاد في مكان واحد يفصلهم عن أسرة أخرى شرشف أو بطانية! يا إلهي كم كان المنظر بالنسبة لطفل في سني مؤلماً، ما جعلني أفكر بعمل أي شيء، هذا التفكير كان في عقلي الباطني تفجر فيما بعد عند بلوغي.
ومما زاد في ألمي أن حصل في نفس عام الهجرة عاصفة ثلجية أهالت الخيام فوق ساكنيها، ورايت أمام ناظري طفلاً يخرج من الروضة التي أمام منزلنا قرب " مدرسة النجاح" وقد بهره كما بهرني منظر الثلج الأبيض الذي يغطي الأرض وكأنه سجادة بيضاء كبيرة. فتح الطفل، وأنا أراقبه، باب الروضة وهو مذهول مما يرى، ومشى خطوة باتجاه البساط الأبيض خطوة خطوتين وثلاث خطوات وهو حافي القدمين ثم وقف وبدأ بالصراخ من ألم الثلج، هذا المنظر ما زال في مخيلتي حتى اللحظة.
وبدأنا السنة الدراسية ودخلت الصف الأول الابتدائي في مدرسة الخالدية في نابلس وصارت لنا علاقة حب وجوار مع أسرة هذا الطفل، وأذكر انني كنت عائداً مرة من مدرستي فوجدت باب منزلي مغلقاً حيث لا أحد في البيت، وكانت شقيقة ذلك الطفل تنتظرني حسب وصية والدتي لها التي كانت قد غادرت البيت لأمر ما، وأطعمتني تلك السيدة رغيف خبز وفجلة، وما زال طعمها اللّذيذ في فمي حتى الآن! وتشاء الأقدار أن نلتقي في عمان وقد أصبح الطفل رجلاً وشقيقتة امرأة عجوزاً -رحمها الله -.


كان جدي الحاج سعيد فارساً من فرسان مدينة نابلس وكان له أراض كثيرة بعضها في قرية قريبة من نابلس هي عصيرة الشمالية وقد سكن القرية وتزوج منها. وأثناء ركوبه فرسه في أحد الأيام وقع عن ظهرها وانكسرت رجله، فأصبح لا يقوى على ركوب الخيل، فبدّل الفرس بركوبة أصغر هي حمارة بيضاء، وكم هو صعب على الفارس أن يفعل ذلك.
كان جدي يذهب يومياً لصلاة الظهر إلى الجامع الكبير في نابلس وكان يحب أن يرافقه واحد من أحفاده ليساعده في الركوب والنزول عن حمارته البيضاء وكنت واحداً منهم، أذهب معه إلى الجامع وأستمع إلى حديث الكبار ونقاشاتهم وكلي آذان صاغية، ومذهول مما أسمع! وعقب الصلاة نرى عدة حلقات من الدروس، حلقة هنا وحلقة هناك ومع مرور الوقت تتنازع هذه الحلقات فيما بينها وتكاد أن تضرب بعضها بعضاً وعقلي الصغير يتساءل مستنكراً لماذا يفعلون ذلك أليسوا كلهم مسلمين؟! أين أخلاق الإسلام؟ علمت فيما بعد أن هذه الحلقة تتبع جماعة الإخوان المسلمين وتلك تتبع حزب التحرير الاسلامي، من هنا صار بيني وبين الفئتين حاجز بسبب ذلك.
في تلك الفترة وأنا أسير في أزقة نابلس كنت أستمع من خلال مذياع بعض المحلات التجارية ما تقوله إذاعة القاهرة أيام الملك فاروق، وكنت أسمع أحاديث الشارع أن الملك فاروق ملك فاسد وأنه في آخر أيامه، وعندما كنت ذات مرة عند الحلاق سمعت أن الثورة المصرية قامت وعمّ الفرح الشارع النابلسي مما انعكس عليّ أيضاً بالرغم من عدم معرفتي بما يجري لكنني أحسست بالفرح الغامر حيث أن الملك الفاسد فاروق قد انتهى حكمه، وهذا قادني فيما بعد ليكون اتجاهي ناصرياً، وأن أكمل دراستي في مصر، وكان أيضاً للسينما المصرية تأثير كبير في حبي لمصر، واذكر أن أول فيلم مصري شاهدته كان في سينما على مسرح المنشية (مكتبة البلدية حالياً) من بطولة أسمهان ويوسف وهبي.
بدأت علاقتي مع أطفال اللاجئين في المدارس، كانت مدارسهم في خيام قبل أن تبني لهم الاونروا مدارسهم الخاصة وتوزع عليهم الحليب الساخن، ويطلق عليه بالعامية (حليب البودرة). وهنا تذكرت طفل الثلج الذي مشى عليه، وربما كان يتصوره حليب أطفال، خاصة أن الأطفال كانوا بحاجة إلى الحليب في بداية الهجرة.
كان الطالب الذكي والمتقدم في دراسته حينها يكافأ بنقله من مدرسة الخيمة إلى المدرسة الحكومية ليرفع من مستوى المدارس الحكومية. أذكر يوماً ونحن في الصف الرابع الابتدائي أن جاءنا مدير المدرسة بصحبة طالب طويل القامة أُدخل مدرستنا الخلدونية لتفوقه وانشدنا بصوت قوي وجميل وحزين أنشودة أبكتنا جميعا يقول مقطعها الأول: "عليك مني السلام يا أرض أجدادي ففيك طاب المقام وطاب إنشادي...!؟" نسمعها ونجهش بالبكاء، كيف ضاعت الأرض واحتلت مدن فلسطين! وهذه أيضاً كانت حافزاً شديداً وقوياً عندي لاتجه اتجاهي الوطني وأعمل أي شيء من أجل مقأومة المحتلين.
كنت كما ذكرت سابقاً استمع إلى بعض الإذاعات أثناء مروري في أزقة وشوارع نابلس أو عند الحلاق، وكان عند جدي الحاج سعيد راديو كبير بحجم الخزانة عبارة عن موبيليا خشبية جميلة أطول مني بمرتين في تلك الفترة. وكان يحضر إلى ديوانه الجيران والاصدقاء كل مساء وكنت أحشر نفسي بينهم واستمع إلى ما يبثه ذاك الجهاز الجميل وكنت أتصور أن المذيع يجلس داخل هذه الخزانة الخشبية فأتسلل وراء المذياع لأبحث عنه فلا أجد سوى لمبات كهربائية وبطارية كبيرة وشناكل تمسك بالبطارية التي تشبه بطارية السيارة في هذه الأيام.
في إحدى الجلسات ضحك جدي وقال، عندما كان مطرب سوداني يغني في (محطة ركن السودان من القاهرة): هدول قرايبك يا سيدي! كنت أسمر اللون نتيجة تحركي تحت الشمس كثيراً وانا صغير ما أضحك جدي واعتبرني سودانيا.
راديو جدي شجعني لمتابعة الإذاعات وأخبارها مما اضطرني الالحاح على والدي لشراء راديو خاص بنا، وكان والدي موظفا (على قد حالو)، وأسعدني يوما بإحضاره راديو مستعملاً ليس جديدا ولكنه كان شغلي الشاغل، انتقل من محطه إلى أخرى على الموجة المتوسطة وعلى الموجات القصيرة من ضمنها محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية (فيما بعد محطة لندن)، ومرة توقفت إبرة الإذاعة على محطة تيرانا وهي عاصمة (البانيا) كان يحكمها "أنور خوجه" زعيم الحزب الشيوعي هناك، يذكر أن اهلها غالبيتهم من المسلمين. لذلك أصبح عندي حس العمل الإذاعي والرغبة في ذلك إضافة إلى رغبتي الكبيرة في العمل الوطني من أجل التحرير.
كان والدي يعمل في عمان ونحن نسكن نابلس، حيث كان يزورنا كل خميس وجمعة ثم يغادرنا فجر السبت إلى عمله.
غياب والدي عنا ساعدني للتحرك خارج البيت بعيداً عن رقابته خاصة أن الاطفال عادة ما يتمتعون بالحيوية والنشاط فوق الطبيعي، فزاد احتكاكي بالناس وكيفية التعامل معهم والاستفادة من تجاربهم.


بعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956م حيث اشتركت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في الهجوم على مصر للقضاء على نظام الرئيس جمال عبد الناصر الذي أممّ قناة السويس وتحدى الاستعمار الغربي، ما جعل والدي -رحمه الله -يفكر في نقلنا إلى عمان حيث عمله وخوفاً أن تنقطع الصلة بيننا نتيجة الحرب. وهذه الحرب العدوانية جعلتني أتابع المحطات الإذاعية بشغف خاصة صوت العرب الذي تعلمت منه الكثير.
وصلنا إلى عمان وكنت قد أنهيت الصف الأول الإعدادي (السابع حالياً) من مدرسة الجاحظ في نابلس إلى مدرسة رغدان في عمان ودخلت الصف الثاني الإعدادي (الثامن)، جو الدراسة في عمان يختلف عما كنا فيه في الجاحظ.
وأحسست في البداية، بالغربة! حيث تركت مسقط رأسي وشعرت أن قلبي بقي هناك عند زملائي في المدرسة وأبناء حارتي والجيران. كان هذا إحساسي حتى أن أحلامي وما كنت أراه في المنام كلها تكون هناك وتأكدت من مدى حبي وتعلقي بمدينتي وحارتي!
في عمان تعرفت على زملاء جدد في المدرسة، والمرحلة الإعدادية هي مرحلة نمو الوعي لدى هذا الجيل، وشاءت الأقدار أن أحد زملائنا وإخواننا الطلبة الذين كانوا يدرسون في الخيام بداية الهجرة ينتقل أيضاً إلى عمان و إلى نفس المدرسة ونفس الصف الدراسي! وكان دائما في المركز الأول في الصف وبقينا أصدقاء سوياً حتى ذهابنا إلى مصر للدراسة الجامعية حيث لم يكن في الأردن بعد جامعات، واستمرت علاقتنا حتى الآن.
أثناء الدراسة في مدرسة رغدان التحق بنا زميل جديد في العام 1957م من اللاجئين الذين يسكنون مخيم الحسين وكان تأثير إخواني اللاجئين عليّ تأثيراً كبيراً، بسبب معاناتهم وشعوري الحاني تجاههم، ولحسن الحظ تقربت من الطالب الذي لم أره منذ ذلك الحين واسمه عبد الرحمن الشلختي، كنا ندرس سوياً طلب مني ذات يوم أن ندرس في بيته، رحبت فوراً وذهبت إلى المخيم فوجدته يسكن في بيت من الزينكو مكون من غرفه واحدة وأرضية ترابية هو ووالدته وأخوته الاطفال مما كان له الأثر المؤلم جداً علي.
عبد الرحمن هذا هو أول من فاتحني بالكفاح المسلح ضد إسرائيل، وهنا تظهر ولأول مرة حركة فتح قبل الإعلان عنها، حدثني عبد الرحمن عما يجب أن نقوم به وأنه لا بد أن نتحرك وان نأخذ زمام أمورنا بأيدينا، لكن في ذلك الوقت كان عبد الناصر ملئ وجداني وأذكر أنني قلت له: عبد الناصر سيحرر فلسطين ولا أحد غيره، فقطعت عليه الطريق، وتشاء الأقدار أن التحق فيما بعد بحركة فتح لكنني ولم أره منذ ذلك الحين، إلا في العام 2014 في عمان، وكان لقاء حارا جدّدنا خلاله ذكرياتنا، بعد ذلك بعامين توفاه الله. رحمه الله رحمة واسعة.
في تلك الفترة عمّت عمان المظاهرات الحاشدة التي تقودها الأحزاب ضد حلف بغداد، خاصة أثناء حكومة سليمان النابلسي: حزب البعث والقوميون العرب، والشيوعيون، والإخوان المسلمون وحزب التحرير. عندما كنت أصحب جدي الحاج سعيد إلى الجامع في نابلس تعرفت على الاخوان وحزب التحرير وحسمت أمري معهم وابتعدت عنهم. أما في عمان فهناك شيء جديد اسمه البعثيون والقوميون والشيوعيون. عرفتهم من خلال الجبهة الوطنية التي كانت تخوض الانتخابات في نابلس وكان عادة من يترشح عنهم عبد القادر الصالح وكان صديقاً لوالدي ويعطيه صوته. كنت أحتج على والدي، كيف تنتخب حزباً كافراً؟ فيجيني -رحمه الله -هدول يابا وطنيين. لكنني بقيت بعيداً عنهم بحكم تديّني.
أما البعثيون والقوميون العرب فكان لهم نشاط قوي في المدرسة هم والإخوان المسلمون، وكانوا يتسابقون على جذبنا إلى أحزابهم ويوزعون علينا بطاقات العضوية التي كانت تساعدنا في دخول السينما بتذكرة مخفضة!
كانت معظم المدارس تخرج في مظاهرات صاخبة ضد حلف بغداد وتتجمع كلها في ساحة المسجد الحسيني الكبير وسط البلد، وهناك للأسف كانت تحدث مشادات بين أفراد الأحزاب تتطور إلى اشتباكات بالسكاكين (وكل حزب بما لديهم فرحون) مما أقنعني بالابتعاد كلياً عن هذه الأحزاب التي ترفع شعارات هامة ضد الاستعمار ومن أجل تحرير فلسطين ولكنها لا تفعل شيئاً ملموسا لصالح فلسطين، القضية المركزية لكل هذه الأحزاب!
لكن في الواقع، كنت أحس بانتمائي للقوميين العرب الذين لم أكن اعتبرهم حزباً، خاصة أن "أحمد سعيد -صوت العرب" كان يدافع عنهم، وكان جيلي متأثراً جداً بصوت العرب.
في العام 1959م أنهيت دراسة "المترك" في كلية الحسين بعمان وهي نهاية الفترة الثانوية في تلك الأيام وعليّ إكمال دراستي الجامعية خارج الأردن، كانت مصر ما تزال في مخيلتي وهي بلد عبد الناصر. وكان والدي-رحمه الله -يريدني أن أذهب إلى دمشق فهي قريبة ومصاريفها أقل.
ذهبت مرتين إلى دمشق وهاجسي أنهم قوميون عرب (بعثيون) وأول ما رايته على الحدود في الرمثا العلم الفلسطيني بألوانه الأربعة يرفرف فوق المباني الحكومية السورية، مما شرح صدري واعتبرت أن حبّهم لفلسطين وتحريرها جعلهم يرفعون العلم الفلسطيني ولم أكن اعلم أن هذا العلم هو علم الحزب ليس إلا! كنت أرى شباب الحزب في الصالحية يومياً يتسكعون ويعاكسون الفتيات وصعقني أحدهم عندما رأيته يلبس قميصا يزينه العلم الاميركي! كيف هذا؟ تساءلت وأنا مذهول! كيف من الممكن أن تحتوي منظومة مكونة من حكومة بعث وقوميين عرب وعلم فلسطين ومهاجمة أميركا والإمبريالية الأميركية، تضم شابا يتبختر وعلى ذراعه علم أميركا؟! كانت صدمة بالنسبة لي ما شجعني للذهاب إلى مصر لإكمال دراستي هناك.
كانت مصر في وجداني منذ الطفولة، إذاعة القاهرة ثم صوت العرب والأفلام المصرية عندما كنا نخرج من المدرسة الخلدونية عند العصر فنسارع إلى سينما العاصي أو غرناطة والتذكرة بقرشين ونصف القرش! كنت أحلم بالقاهرة ومصر عبد الناصر فوافق والدي وسافرت إلى قاهرة المعزّ وفيها توسعت مداركي حيث انها المرة الأولى التي أعيش فيها وحيداً بعيدا عن والدتي وأهلي حيث الراحة والمأكل وعدم المسؤولية.
وهنا بدأت معركة جديدة وحياة جديدة.. حتى أدخل الجامعة كان لا بد من الحصول على التوجيهي (الثانوية العامة المصرية) حيث أن شهادة المترك الأردنية لا تكفي، لذلك دخلت إحدى المدارس الحكومية المصرية وهي مدرسة الفسطاط في مصر القديمة، هنا لاحظت بكل وضوح الاختلاف والفارق الكبير في التعليم بين نابلس وعمان والقاهرة.
في نابلس، كل الاحترام للمعلم الذي كان يتفانى في تعليم الطلاب والانضباط الكامل في المدرسة، بعكس مدارس عمان ولكن الكارثة كانت في القاهرة حيث لا احترام للمعلم ولا للنظام وكان التعليم في فلسطين يتميز عن التعليم في غيرها.
بعد حصولي على الثانوية العامة في القاهرة كان قبولي في كلية التجارة في جامعة الاسكندرية، يومها جاءني صديق طفولتي (صدّيق السيد) الذي كان يدرس في الأزهر الشريف واقترح عليّ دخول كلية المعاملات والإدارة في جامعة الأزهر بعد التطوير، والسكن في المدينة الجامعية هناك واسمها مدينة البعوث الإسلامية والحصول على منحة دراسية ولكن بفارق سنة دراسية زيادة عن جامعة الإسكندرية، وافقت فوراً حتى أخفف عن والدي عبء مصاريفي. التحقت بالمدينة الجامعية التي كانت تضم أكثر من 73 جنسية وكنت وكأنني أعيش بين الأمم من آسيا وإفريقيا وأميركا وأميركا اللاتينية والكثير من الجنسيات المختلفة من الدول الإسلامية وغير الإسلامية.
في هذه الفترة ونحن في سن الدراسة صار الحديث عن تحرك ما في رابطة الطلاب الفلسطينيين وأن هناك عملا يتبلور لم تظهر فية ملامح " الفتح" بعد. شكلنا نحن مجموعة من الطلاب في الأزهر وجامعة القاهرة (15 طالبا) تجمعاً نبحث خلاله عما يجب (علينا فعله). كنا نجتمع كل أسبوع عند واحد منا ونذهب في رحلات داخلية، ولاحظت من خلال تحركنا هذا أن أجهزة المباحث المصرية كانت تتابعنا، كنا نشعر بهم ولكن لا نهابهم لأننا لم نبلور بعد شيئا ما. كل ما في الأمر أننا نناقش ما كان الحديث يجري عنه حول تحويل مجرى نهر الأردن وروافده، الذي بحثته القمة العربية وصدر عقبها قرار بانشاء منظمة التحرير الفلسطينية. وهنا أردنا التوجه نحو الشقيري، ولكننا صرفنا النظر عن ذلك خاصة وكنا نعتقد أن الشقيري الذي كان يمثل بعض الدول العربية في الامم المتحدة فكان إحساسي أن إنشاء المنظمة هو لعبة من الأنظمة العربية ولكن لم نقنع أنفسنا أن تكون هذه اللعبة من الرئيس جمال عبد الناصر لأنني كنت وما زلت أعتقد أن عبد الناصر ما زال الأمل في تحرير فلسطين.
أسقط في أيدينا بعد هزيمة حزيران 1967م. فبعد أن كان عبد الناصر هو الأمل الوحيد بتحرير فلسطين، هزم عبد الناصر ولم نر أثراً لصواريخ الظافر والقاهر. فوجئنا بالفجيعة وكانت نكبة جديدة لنا نحن الفلسطينيين ناهيك عن العرب كلهم، ولكنا عندما سمعناه يعلن تحمل المسؤولية عن الهزيمة ويستقيل في خطاب متلفز ومذاع مباشرة صرخت في وجه المذياع والدموع تنهمر من عيني (وين رايح وتاركنا؟!). يومها خرجت المظاهرات الحاشدة في القاهرة خاصة حتى يتراجع عبد الناصر عن قراره ويستمر في تحمل مسؤولية تحرير ما احتل من الأرض العربية، فلسطين كلها احتلت بالإضافة إلى سيناء في مصر والجولان في سوريا.
هنا حسمت أمري بالالتحاق بحركة " فتح " التي انتشرت أخبار عملياتها الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي وخاصة من جهة نهر الأردن، كمقاتل مع مجموعة من الشباب في مدينة البعوث الإسلامية من ضمنهم أحد زملائنا الذي تبوأ فيما بعد موقعاً متقدماً في قوّات الجولان كقائد كتيبة، ثم نائب قائد القوات وهو الأخ سليم أبو علي (سعد نجيب شاكر) بعد أن ترك دراسته الجامعية والتحق بدورات عسكرية في مصر.
أما أنا فبقيت بالتنظيم الحركي في مدينة البعوث مع الطيب عبد الرحيم وخالد شريم وعبد الله حجازي وبكر مؤنس، وفي تلك الأثناء فازت فتح بقيادة رابطة الطلاب الفلسطينيين في القاهرة، ثم جرت معركة الكرامة في 21/3/1968م، والانتصار العظيم والكبير الذي تحقق على أيدي فدائيي فتح وقوات التحرير الشعبية والجيش العربي الأردني.
بعد النصر في معركة الكرامة التي رفعت معنويات الجيوش العربية المنهزمة في حزيران ورفعت معنويات شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية زحف الشباب الفلسطيني والعربي للالتحاق بالعمل الفدائي وأعلنت حركة فتح ناطقاً رسميا باسمها هو ياسر عرفات ونشرت صورته في العالم وفي الصحف المصرية، وكنا فخورين في ذلك وخرجنا من تحت الأرض دون خوف وأعلنا عن أنفسنا خاصة بعد أن دعت مصر أبو عمار لزيارة القاهرة لأول مرة وأصر عبد الناصر يومها أن يصطحبه إلى المواقع العسكرية المقابلة لقوات الاحتلال الاسرائيلي ليظهر للقوات المصرية جرأة الفدائي الفلسطيني حامل قاذف الآر بي جي الذي يفجر الدبابة عن بعد أمتار قليلة فقط. ما أعطى المعنويات العالية للجيش المصري. وقد عمل عبد الناصر على تغيير بنبة الجيش وفرض التجنيد على الطلاب الجامعيين وتحسن أداء هذا الجيش وانقلب حاله إلى الأصلح.
كانت إذاعة منظمة التحرير ما زالت تعمل وهي التي أنشئت مع إنشاء المنظمة التي فشلت باستقطاب الجماهير الفلسطينية لعدم قيام جيشها بالعمل ضد المحتل الصهيوني كما تفعل قوات الفدائيين، لذلك استقال الشقيري فيما بعد ودعا عبد الناصر الفدائيين إلى تسلم زمام المنظمة.
قلت بأنني أكملت دراسة الثانوية العامة في مصر قبل التحاقي بالجامعة هناك وكانت العادة أثناء حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن تنظّم رحلات للمتخرجين من الثانوية العامة سنوياً إلى المحافظات المصرية وخاصة في جنوب البلاد كالأقصر وأسوان حيث الاثار الفرعونية القديمة.
ركب الخريجون زملائي من مدرسة الفسطاط في مصر القديمة قطار الرحلة وكان قطاراً قديماً استغرق وصولنا إلى هناك (18) ساعة مرهقة، ولكنها رائعة رأيت خلالها مالم أره في مصر من القرى والمدن والحقول الخضراء الغناء مما خفف من تعبنا.
كانت وسيلة التنقل ما بين الاقصر وأسوان وآثارهما هي الحافلة وكان الطلاب يحبون المرح والفكاهة في معظمهم، مما أبهج القلوب وانسانا طول الرحلة وتعبها. إلا أن أحد الطلاب كان هادئاً على غير عادة الطلبة المصريين المشاغبين في كثير من الأحيان.
جلسنا في الحافلة استعداداً لتقلنا إلى الآثار الفرعونية و الهرج والصخب والغناء يعم الحافلة التي ما زالت متوقفة فاذا بأحد الطلاب المشهور عنهم اللهو والمشاغبة يصرخ من شباك الحافلة على أحد الصعايدة المارّين في الشارع هو وجواميسه ينادي عليه بكلمة جعلت الصعيدي يستشيظ غيظاً ويتقلّب كانه قطّ على صفيح ساخن يريد أن ينتقم ممن ناداه بتلك الكلمة، فأخذ يبحث عن شيء يقذف به الحافلة التي خرج منها ذاك الصوت، فلم يجد غير روث الجاموسة الطازج وبكل قوة وعزيمة قذف الروث الساخن فدخل من شباك ذلك الطالب الهادئ فأصابه في وجهه وامتلأت الرائحة التي تزكم الأنوف كلّ الحافلة..
حزنت على ذلك الطالب الهادئ الذي أخذ يمسح الأذى عن وجهه والكل يقهقه لما حصل! واصلنا رحلتنا إلى معبد "ابو سمبل" الشهير والأعمدة العملاقة التي تمّ فيما بعد نقلها من أماكنها عند البدء ببناء السدّ العالي.


بعد تسلّم الفدائيين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.. طلبت حركة فتح من الحكومة المصرية إنشاء إذاعة للفدائيين تقودها حركة فتح، وافق عبد الناصر فوراً ودون مقابل، كلفت القيادة أحد قادتنا الإعلاميين المختصين في هذا المجال وهو الأستاذ فؤاد ياسين (ابو صخر) والذي يملك خبرة عشر سنوات في إذاعة دمشق ثم أبعد عن سوريا وعمل في إذاعة صوت العرب في القاهرة وإذاعة فلسطين من القاهرة كلف بالإعداد لإذاعة الثورة.
كان تفكير الأخ أبو صخر اختيار مجموعة جديدة من الإذاعيين الجدد الذين لم يسبق لهم أن عملوا في هذا المجال، وأن تخرج أصوات جديدة تعطي المصداقية بعد أن ظهر كذب الإذاعات العربية أثناء المعركة التي أصبحت عنوانا للهزيمة حتى المذيع القدير أحمد سعيد، ولم يعد المواطن العربي يثق بهم وبما يذيعون.
عمّم الأخ فؤاد ياسين على التنظيم لاختيار عدد من الدراسين للغتين العربية والانجليزية في مصر للعمل في الإذاعة الجديدة، ولما سألته فيما بعد عن سبب اختيار المتخصص في اللغة الإنجليزية كان جوابه أن من يتقن الإنجليزية لا بد أن يتقن العربية.
اختار التنظيم أكثر من 15 عضوا من الطلاب الدارسين في مصر وكان معظمهم من الأزهريين من كلية اللغة العربية وكنت الوحيد المتخصص في دراسة اللغة الإنجليزية.
اصطحبنا الأستاذ فؤاد ياسين والأخ أبو الهول (هايل عبد الحميد)، وكان معتمد الإقليم لحركة فتح في مصر، إلى مبنى الماسبيرو حيث إذاعة صوت العرب ليختبروا أصواتنا، وبعد التصفية تم اختيار أربعة هم، بالإضافة لي، عبد الشكور التوتنجي وكان يدرس الطب في جامعه القاهرة، والطيب عبد الرحيم (الازهر) ويحيى العمري (الازهر-لغة عربية) وكما قلت سابقاً تخصصي في اللغة الإنجليزية.
نجحنا كخامة صوتية بحاجة إلى صقل، وكانت مسؤولية الأستاذ فؤاد ياسين الخبير الوحيد في هذه المجموعة التي اعتبرت الخلية الأولى للإذاعة ومن ثم القاعدة الأولى للإعلام الفلسطيني.
لم تكن هذه المجموعة تعلم شيئا عن الإذاعة أو الميكروفون سوى شغفي الشخصي وحبي للإذاعة والعمل الاذاعي، ما ساعد على سرعة تدريبي فيما بعد.
بدأ أبو صخر يدربنا، ولكن لا أحد منا يعرف طريقة الأداء في الإذاعة، كنا نقرأ الخبر أو التعليق كما نقرأ النصوص في المدرسة، ثم أخذنا الأخ أبو صخر إلى الأستاذ أحمد حمزة كبير المذيعين في "صوت العرب"، طلب الأخ أبو عمار والقيادة من الأخ فؤاد ياسين أن يبدا البث في 1/5 قبل ذكرى النكبة 15/5، وبدوره طلب الأخ أبو صخر من الأستاذ أحمد حمزة تجهيزنا خلال أسبوع! فوجئ حمزة بهذا الطلب وقال: مش ممكن، هذا جنون. أن أي مذيع يحتاج إلى ستة أشهر من التدريب حتى يسمح له أن يقول على الهواء: هنا القاهرة فقط دون أن يقدم شيئا غير ذلك، لكننا أظهرنا للأستاذ حمزة استعدادنا للتعلم بسرعة لحماستنا لهذا العمل. وخلال الأيام الاربعة التي كانت أمامنا تدربنا عدة ساعات فقط بشكل سري، حتى أن مدربنا الأستاذ أحمد حمزة لم يعرف هوية الإذاعة أو اسمها حتى يدربنا على كيفية نطقها، ولم يخبره الأخ أبو صخر بعنوان الإذاعة إلا يوم انطلاقتها، فأخذ يدربنا على كيفية نطقه ونحن نصعد درج ماسبيرو دون أن يسمعنا أحد: صوت العاصفة، صوت فتح، صوت الثورة الفلسطينية. ليس أمام أستاذنا فؤاد ياسين (أبو صخر) إلا أن يكمل بنا المشوار ويستمر في صقل خاماتنا، كنت أسجل الآية القرانية التي سنفتتح بها الإذاعة عدة مرات بل عشرات المرات إلى أن ننجح في ذلك.
كان الأخ أبو الهول معتمد الاقليم -رحمه الله- يراقبنا مع الأخ أبو صخر وطلب مني أن أعطي الكلام قوة أكثر، وقال: تخيل نفسك في معركة الكرامة وتصفها للمستمعين بما فيها من بطولة وشهادة وإقدام وفعلاً نجحت في ذلك وكاني مشارك فيها: قوة في الصوت -دون صياح- هدوء ولكن بقوة وآخراج الكلام من البطن وليس من الحنجرة كما يطلب منا الأخ أبو صخر.
انتقلنا إلى مبنى الشريفين حيث الإذاعة في شارع الشريفين في القاهرة، وكانت إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية في الطابق الذي يعلونا وتحتنا كانت وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ.ش.أ) الوكالة الرسمية المصرية. يومها دخل علينا في مبنى الإذاعة شاب عادي من شباب فتح ولكن لا أعرفه يلبس (سترة كاكي) متواضعة وسأل الأخ أبو صخر هل أنتم جاهزون؟ أجابه أبو صخر بالإيجاب وسننطلق الليلة. وسأل هل أرسل خبراً إلى (أ.ش.أ) حول هذا؟ قال: نعم! فتساءلت متعجباً ومستنكراً: من هذا وما دخله فينا؟ حيث أننا نعمل بسرية تامة ولا أحد يعرف ما يجرى عندنا...؟!
فقال الطيب: ألا تعرفه.. أنه أبو جهاد أحد قادة فتح الرئيسيين. كانت قيادتنا شابة ومتواضعة في كل شيء حتى في لبسها.
عملنا الخبر وأرسل إلى "أ.ش. أ" أن إذاعة صوت العاصفة ستنطلق اليوم 11/5/1968 في الساعة السابعة والنصف مساءً على الموجه كذا.. الخ. وخرجنا من المبنى نحن كادر الإذاعة الجديدة مع الأخ أبو جهاد والأخ أبو اللطف مشياً على الأقدام إلى ميدان التحرير (وهل القيادة تمشي اليوم على الاقدام؟!)، كنا نسمع رأيهم وكان الطيب أثناء ذلك يوجز لي معلومات عن الأخ أبو جهاد الذي لم أكن أعرفه. ثم ركب كل واحد منا مواصلته وذهب إلى وجهته.
وفي المساء انطلقت الإذاعة في 11/5/1968 وكان شيئاً رائعاً.
انطلقت في شهر النكبة التى حلت بفلسطين وشعبها حيث قررت القيادة الثورية الفلسطينية، قيادة حركة" فتح" أن تعلن عن ذلك أي بعد حوالي ثلاث سنوات من انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة حركة"فتح" وبعد أقل من شهرين على الانتصار العظيم في معركة الكرامة الخالدة التي جرت في 21/3/1968 حيث حقق الفدائيون الفلسطينيون وبتلاحمهم مع الجيش العربي الأردني أعظم وأروع انتصار على الجيش الصهيوني " الذي لا يقهر " بعد هزيمة مدوية للأمة العربية في حزيران العام 1967م وفي إشارة واضحة من قيادة " فتح " سنحول ذكرى النكبة إلى عمل ثوري يعيدنا إلى فلسطين من خلال الكلمة الامينة المعبرة عن الطلقة الشجاعة.


ودائما إذا كانت البداية ناجحة فالعمل يكون ناجحا على المدى البعيد، وكان الفضل بعد الله يعود لأستاذنا الكبير فؤاد ياسين (أبو صخر) الذي علّمنا ألف باء الإعلام، والذي لم تنصفه الحركة طيلة سنيّ عمله المتواصل حتى وفاته رحمه الله عندما بلغ الثمانين من عمره، ولم يتجاوز موقع السفير في حين أن تلامذته حصلوا على مواقع حركية متقدمة ومواقع متقدمة في السلطة الوطنية فيما بعد.
تعلمنا منه أصول الكتابة السياسية والوجدانية بل أن شعراءنا كانوا ينصاعون لملاحظاته الفنية في إضافة أو حذف بعض الكلمات من أناشيد الثورة قبل أن يتم بثها عبر الأثير الاذاعي، فقد كان الإعلامي الوحيد بيننا وكان في البداية يكتب كل شيء من مواد الإذاعة اليومية وكنا كمذيعين نتسابق على قراءة ما يكتب لرشاقة فقراته وكلماته ولجمال خطه، فكتابته رشيقة ومرتبة ومنمقة، حتى التنقيط والتقطيع وموقع الفاصلة لها فنيتها عنده..!
كان يجلس مع الشاعر ساعات طوالا حتى يخرج النشيد على أصوله كالشعراء (فتى الثورة) أبو هشام المزين، وأبو الصادق الحسيني، ومحمد حسيب القاضي، الذين كانت أناشيد الثورة في بدايتها بأقلامهم، وكان يطلب منهم ألا يتعدى النشيد الدقيقة الواحدة كما التعليق أو المنطلق الثوري، وكانت كل فقرات الإذاعة قصيرة لكنها تفي بالغرض المطلوب.
وقبل أن يخرج النشيد على الهواء يتناقش مع الملحنين في كيفية خروج اللحن، أمثال الملحن والموسيقار الكبير محمود الشريف وكامل الشناوي وطه العجيل ومهدي أبو سردانه، فالنشيد الذي لا تتجاوز فترة بثه الدقيقة الواحدة كان وراءه مجهود كبير وسهر الليالي حتى خرجت على الهواء إذاعة جديدة ومادة إذاعية جديدة وأناشيد ثورية وكلمات كالرصاص كانت تخرج من حناجر أربعة شباب بقيادة المايسترو أبو صخر، في زمن بث إذاعي مدته نصف ساعة تحوي كلاماً جديداً ومغايراً لكل كلام سابق واصواتاً عالية ومميزة، وبعد فترة وجيزة التحق بنا الأخ عماد شكور من داخل الـ48 وأضاف برنامجا باللغة العبرية، التي يتقنها موجهة إلى المستمع الاسرائيلي بلغته. وكان قبل عماد الاخ حمدان بدر ثم مكرم يونس.


يتبع..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار   تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Emptyالجمعة 02 فبراير 2024, 8:46 pm

الحلقة الثانية:
تعودت في نهاية كل عام دراسي أن أعود من القاهرة إلى عمان لقضاء الاجازة الصيفية في كنف أهلي، ولكن في العام 1968م، لم أستطع ذلك بسبب التحضير لانطلاقة الإذاعة والتدريب على يد الأستاذ أبو صخر والاستاذ أحمد حمزة. كيف أبرر غيابي عن عمان لوالدي؟ ذهبت إلى مبنى البريد في القاهرة وأجريت اتصالا هاتفيا بسيدي الوالد رحمه الله أعلمه انني سأستنكف هذا العام عن العودة إلى عمان. أراد أن يعرف السبب، لم أستطع أن أخبره الحقيقة لالتزامي بقسم فتح وسرية العمل. فادّعيت انني ملتزم برحلة مع الكلية، قال: إذا تأتي بعد الرحلة، حاولت إقناعه دون فائدة، أنهيت التدريب وانطلقت الإذاعة وعرف أستاذنا أبو صخر بمأزقي فسمح لي بالمغادرة لفترة اسبوعين.
أثناء وجودي في عمان شنت إسرائيل غارة جوية على أحد مواقعنا في السلط استشهد خلالها أحد قادة الحركة هو الرائد خالد رحمه الله وكان من القادة العسكريين الأوائل، كنا نجلس في منزل الوالد نتناقش ونتحاور حول ما يجري وتطرق الحديث إلى الإذاعة الثورية الجديدة، وكان أحد أبناء عمومتي ويعمل في الكويت في زيارتنا ادعى معرفته بالإذاعة والعاملين بها ومن أين تنطلق في الأرض المحتلة ويؤكد على ذلك! حاولت إقناعه بأن كلامه يحتاج إلى دليل، فأخذ يسمي بعض أسماء شباب الحركة من إقليم الكويت اذكر منهم الحاج سكيك، وعلا صوتنا ونحن نتناقش. حضر والدي يستطلع الخبر، وما زال ابن عمي يتمسك بأقواله. (طقّك معي)، قلت له وبكل قوة: كلامك غير صحيح لسبب بسيط. قال ما هو؟ هنا فجّرت المعلومه المدوية، قلت: لأنني واحد منهم.
سكت الجميع..
اختلست النظر إلى والدي، لاحظت ابتسامة عريضة تعلو وجهه والانشراح واضح في ملامحه، فقد عرف لتوَه لماذا تأخرت عن العودة إلى عمان، وعرف أنني من فتح، فارتحت لانبساط والدي، وعرف الأهل كلهم بالتحاقي بالحركة.

عندما خرجنا من مبنى الإذاعة ساعة انتهائنا من تسجيلها كاملة بصحبة القائدين أبو جهاد وأبو لطف إلى ميدان التحرير، جلست مع الزملاء في مدينة البعوث لنستمع سويا للإذاعة الجديدة دون معرفتهم أنني والأخ يحيى العمري من مذيعيها، انطلقت إشارة الإذاعة التي اختارها أبو صخر بفنية عالية، وما أن نطق عبد الشكور " صوت العاصفة"... ويحيى "صوت فتح".. وأنا "صوت الثورة الفلسطينية" حتى أحسست بقشعريرة بدنية جميلة وإحساس بالفخر والعزة، إننا نحن الشباب (طلع منّا شيء) نفخر به.
حدثتني إحدى شقيقاتي قالت إنها كانت في سيارة أجرة هي وزوجها في عمان وكان مذياع السيارة ينقل صوتنا، وما أن سمع السائق صوتي حتى بادر يقول لركابه: هذا المذيع راضع من بزّ إمه! قالت شقيقتي كنت أود أن أصرخ وأعلن له أن هذا الصوت صوت أخي، لكنني خفت أن ننكشف. كان انطلاق الإذاعة مدويا في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان ناهيك عن مصر، حالة معنوية قوية لدرجة أن عامة المستمعين، عامة الشعب كانوا يطلقون على الإذاعة اسم إذاعة البلاغات العسكرية، هنا تظهر عظمة الانجاز وعظمة أبو صخر، وشعراء الإذاعة أصحاب كلمات الأناشيد الثورية، التي أصبحت شعارات المتظاهرين في الوطن المحتل التي كانت تهتف بها: بلادي بلادي، أنا صامد صامد أنا صامد.

لم تؤثر الإذاعة في جماهيرنا الفلسطينية والعربية فحسب، بل كان لها تأثيرها الكبير على الكيان الصهيوني. كان الإعلام الاسرائيلي يسجل ما تقوله إذاعتنا ويأخذ بالتعليق على ما نقول وفي إحدى المرات نقلت إذاعة إسرائيل صوتي وعلقت على ما أذعت بقولها: "قال المذيع المخرب"، هنا شعرت بالفخر والاعتزاز لأنني علمت بانزعاجهم منا وبما نقول. صحيح أن كلمة مخرب شتيمة، لكنني فرحت بهذا اللقب من عدوي، فالكلمة أيضا تزعجهم وليس الرصاصة فقط.
لم نذكر أسماءنا.. كنا ننكر ذاتنا، ولم نعط أنفسنا أسماء حركية.. الكل متواضع أمام ما يقدم الفدائي المقاتل وامام ما تقدمه الجماهير في الأرض المحتلة. أحبّنا الناس دون أن يعرفونا ما ساعد على انتشار الإذاعة في كل الميادين والساحات الفلسطينية والعربية.
لكن لا بد من بعض النقد الذاتي، فعندما خرجنا في أيلول من عمان ونجاح الإذاعة (زمزم 105).. أرادت القيادة أن تكرمنا، فاختارت الرأس دون القوى الفاعلة وعينت الأخ ربحي عوض مسؤول الإذاعة عضوا في المجلس الثوري. وكررت نفس الأمر في لبنان وعينت الأخ نبيل عمرو عضوا في المجلس الثوري. طبعا هذا لا يعني الانتقاص من قدرة الأخوين ومحبتي لهما واعتزازي بهما فقد نسيت القيادة وللأسف أستاذنا جميعا فؤاد ياسين، ولم يعين لا في المجلس الثوري ولا في اللجنة المركزية، صحيح أننا لم نفكر يوما بالمنصب أو الموقع.. فهذا الأمر يعتبر تكليفا لا تشريفا.. ومع ذلك قررت أن أدخل انتخابات المجلس الثوري في المؤتمر العام الخامس، وانتخبت من قبل المؤتمر لدرجة أن الأخ الرمز أبو عمار عندما هنأني أنا وزملائي الآخرين قال بحب وإعجاب (يا سكر زيادة)، ما أسعدني وشجعني أن أكون على قدر المسؤولية.


في العام 1970 أعلن عن مشروع أميركي للحل في المنطقة سمي بمشروع روجرز نسبة إلى وزير الخارجية الأميركية آنذاك المستر روجرز، قبله الرئيس الراحل عبد الناصر ورفضته حركة فتح التي تقود الثورة الفلسطينية، كان مفوض الإعلام في حركة فتح والذي يزودنا بالخط الإعلامي اليومي من عمان عن طريق الهاتف هو القائد الشهيد كمال عدوان، وكانت التعليمات تقول لنا: افتحوا النار على مشروع روجرز ومن يقبل مشروعه! وهذا يعني عبد الناصر الذي نحن عملياً في حضنه حيث الإذاعة وكادرها يعملون من شارع الشريفين في القاهرة.

لم يكن أمامنا إلا الالتزام بالتعليمات الحركية، كان وزير الإعلام والثقافة المصري في ذلك الوقت هو الكاتب والصحفي المشهور والمقرب من عبد الناصر "محمد حسنين هيكل" زارنا في مقر الإذاعة مرتين محاولاً بكل أدب أن يثنينا عن ذلك قائلا للأخ أبو صخر: يا اخوانا ده عبد الناصر، انتو بتهاجموا الهرم، راجعوا سياستكم، دي مش طريقة ". لكن القائد الشهيد كمال عدوان استمر على إصراره بالالتزام بنفس الخط الاعلامي، ومما زاد الطين بلة أن إخواننا في الجبهة الديمقراطية سيّروا في شوارع عمان حماراً يحمل على عاتقه صورة لجمال عبد الناصر! وهو أسلوب غير حضاري وهو خطأ سياسي كبير أساء لنا فيما بعد.
وهنا قررت مصر إغلاق صوت العاصفة، ولكن بهدوء ودون شوشرة، فعندما كنا متوجهين إلى موقع الإذاعة لمباشرة عملنا اليومي فوجئنا قبل الوصول إلى الموقع بامتار قليلة من جاءنا هامساً: (النهاردة ما فيش إذاعة يا أستاذ خالد)، كان أسلوباً مخابراتياً هادئاً وحضارياً بالمقارنة مع الأسلوب الذي اتبع معنا فيما بعد عندما اختلفنا مع نظام حافظ الأسد في سوريا في عام 1973م حيث تم تحطيم أجهزة الإذاعة وسرقة كل ما فيها حتى ملابسنا واعتقال الكادر كله!

قبل إغلاق صوت العاصفة في القاهرة كان الأخ أبو صخر قد عرّفني على كادر حركي قادم من عمان هو المرحوم خطاب (عزت أبو الرب) وقال لي: أن الأخ خطاب من عمان ولديه هناك محطة إذاعية محلية يديرها وكان، وهو قائد الميليشيا هناك، يرغب في التدرب على الأداء الإذاعي، بذلت كل جهدي في سبيل ذلك بالرغم من ضعف الخامة الصوتية.
فلما أغلقت الإذاعة في مصر كان لا بد للأخ أبو صخر أن يبحث عن بديل فقام بتوزيعنا على عدد من الدول العربية، وكان نصيبي أن أرافقه إلى بيروت حيث الأخ حمدان عاشور معتمد الإقيلم هناك في ذلك الوقت أفادنا أنهم في الإقليم لديهم إذاعة قوتها ما بين 1 كيلو واط -3 كيلو واط.
وصلنا بيروت، وكانت المرة الأولى التي أزور فيها بيروت، وكنت في طفولتي لا أحب لبنان بسبب ما كنت أطالعه في مجلاتها من صور شبه عارية لسيدات المجتمع اللبناني أو الفنانات مما أعطاني انطباعاً أن المجتمع اللبناني فاسد!
استقبلنا الأخ حمدان وكادر الاقليم بالترحاب ونزلنا في أحد الفنادق - وكانت المرة الأولى في حياتي أنزل فندقا- وفي اليوم التالي تم اصطحابنا إلى موقع الإذاعة التي فوجئنا بانها لن توصل صوتنا إلى أي مكان. ما العمل إذا؟!
قال أبو صخر نتوجه فورا إلى عمان حيث المحطة التي تم تدريب الأخ خطاب عليها.
وصلنا عمان وتوجهنا إلى موقع المحطة وبدأنا العمل فيها، كان الموقع عبارة عن غرفة أرضية متواضعة تحوي جهاز الإرسال الصغير وبعض المسجلات والرسيفر وميكروفون كلها على طاولة واحدة يجلس على كرسي أمامها الأخ عطا خيري، الذي كان مراسلنا العسكري هو والأخ أبو الصادق الحسيني واللذان يوافياننا يوميا بالخط الإذاعي الذي يرسله لنا القائد الشهيد كمال عدوان، بالإضافة إلى البلاغات العسكرية الصادرة عن القيادة العامة لقوات العاصفة والإشارات المشفرة، التي كان يذيعها في البداية الأخ عبدالله حجازي، المعروف أن الأخ عطا هو الآن سفير فلسطين لدى الأردن.
تدرب عطا على الإرسال مع زميل آخر اسمه نجاح الذي عمل فيما بعد في إذاعتنا ببغداد، وفي تلك الفترة كان يحدث بيننا وبين الجيش الأردني بعض المشاكل وإطلاق نار شبه يومي.
كانت الإذاعة في الأشرفية وكنت أسكن في منزل والدي رحمه الله في الشميساني، وكانت معظم تحركاتنا مشيا على الأقدام، في تلك الأثناء وصلت إلى العبدلي قادما من الأشرفية باتجاه المنزل في الشميساني وكان في العبدلي مركز قيادي أو مجمع للقوات الأردنية (القيادة الأردنية)، لأول مرة أرى هذا المجمع ومقابله مخيم صغير للاجئين، جرى بشكل مفاجئ إطلاق نار كثيف وقريب مني جداً، دون شعور وجدت نفسي في الأرض!
وتساءلت بيني وبين نفسي: هل أنا خائف؟ لماذا (بركت) على الأرض)؟
عندها مرت سيارة أجرة استقليتها في اتجاه البيت وانا أفكر فيما جرى لي، (فدائي وخايف.. ليس هناك إحساس بالخوف لكن لماذا بركت على الأرض بالرغم من أن أعصابي قوية؟!)، كان ذلك قبل أحداث أيلول المؤسفة.
في عمان كانت الحركة تصدر جريدة يومية اسمها " فتح "، وكانت ذات تأثير قوي في الشارع وتوزع بأعداد كبيرة وعلمت انها كانت تطبع في مطابع الدستور حيث كان يعمل المرحرم حنا مقبل وبنت الشعب (سلوى العمد) -المحرران الأساسيان- في الجريدة بقيادة ماجد أبو شرار وصخر حبش (ابو نزار) رحمهما الله.

تفاقمت الأوضاع في عمان وتزايدت الاشتباكات وأصبحت يومية مما ينذر بخطر كبير، ومما زاد من التوتر خطف الطائرات من قبل الجبهة الشعبية إلى مطار المفرق الذي أطلق عليه اسم مطار الثورة، وفي تلك الفترة تمت تقوية الإذاعة، وشكل الأخ أبو صخر كادر الإذاعة وغادر إلى مصر واستلم إدارة الإذاعة الأخ ربحي عوض وكان محرر الاخبار الأخ عصام بسيسو، والكادر الإذاعي يتكون من خالد عزمي خميس، حنا مقبل، وبين الفينة والاخرى نزيه أبو نضال، ورسمي أبو علي، وصخر أبو نزار ومهندس البث عطا، ومهندس الإرسال رافع الخالدي، ومعه مجموعة جهاز اللاسلكي التابع للأخ أبو جهاد.
كان من المفروض أن نغلق الإذاعة عصر يوم السادس عشر من أيلول بعد انتهاء فترة البث وان نذهب إلى بيوتنا إلا أن الأوضاع توترت فجأة وأعلن الملك حسين تشكيل حكومة عسكرية وما لبث أن بدأ القصف المدفعي من قبل الجيش الأردني تجاه المواقع الفدائية فاضطررنا للبقاء في نفس المكان وإعادة البث من جديد مساء 16/9/1970، استمرت الاشتباكات العنيفة والمعارك بين كر وفر، وكنا ننقل تفاصيل ما يجري على الهواء مباشرة حيث كنا نرى رأي العين من مقر الإذاعة بالاشرفية، وهو مكان مرتفع يشرف على عمان، تقدم الدبابات مثلا في منطقة القلعة أو الهاشمي الشمالي ومن ثم التصدي لها وتراجعها، كل ذلك كان على الهواء مباشرة وأعتقد اننا الإذاعة الميدانية الوحيدة في ذلك الوقت التي كانت تبث المعارك بثا حيا ومباشرا على الهواء، وفي تلك الأثناء سقطت منطقة جبل الحسين والشميساني بسرعة بأيدي الجيش وتم أسر واعتقال الأخوين أبو لطف وابو أياد وهما أبرز قائدين في فتح بعد الأخ أبو عمار وأبو جهاد، مما أثر في معنويات قواتنا، خاصة عندما سمعنا صوتهما من الإذاعة الأردنية يومها صدر تصريح من قيادة الثورة أن الأخوين أبو اللطف وأبو إياد لا يعبران عن موقف الثورة بعد أسرهما وربما أجبرا على الحديث في الإذاعة.
مرّ أسبوع على المعارك الشرسة والمعنويات ساءت بعد حديث أبو اللطف وأبو إياد الإذاعي، وساد بعض الهدوء، تم إيقاف البث الإذاعي وأردت أن أستريح وكانت الساعة حوالي التاسعة ليلا فافترشت أرض غرفة البث، وكانت الفرشة عبارة عن كرتونة تحيط بي بعض الكتب، واستيقطت عند التاسعة والنصف على صوت نقاش عالي بين الأخوين أبو عمار وكمال عدوان، وأشعرتهما أنني استيقظت حتى لا يشعرا انني اتنصت على كلامهما، فقال الأخ كمال شو ازعجناك؟ قلت: لا، بس إذا بدكم تحكوا على مسمعي أنا صاحي، فابتعدا قليلا حتى لا يزعجاني لكني فهمت من كلامهما أن الأخ أبو عمار كان قلقا بسبب تفاقم الوضع وقلة الذخيرة ويبدو أن هناك من اقنع الأخ أبو عمار اننا إذا صمدنا اسبوعا سيتحول الامر إيجابيا تجاهنا!
وفي تلك الأوقات كان الأخ أبو جهاد يصلنا باستمرار حيث أن موقعنا هو موقع جهاز اللاسلكي الذي يتبع له بقيادة الأخ رافع الخالدي والذي كان يسمى زمزم 105 لذلك أصبح اسم الإذاعة في أيلول هو (زمزم105).
استمرت المعارك الشرسة وكان الأخ أبو جهاد على اتصال من خلال اللاسلكي مع الأخوين أبو علي إياد وأبو صبري عضوي القيادة العامة لقوات العاصفة اللذين تقدما على ما يبدو متأخرين من الشام وأنهما الآن في الزرقاء، ويبدو أنهما كانا موعودين بشيء من الجيش السوري ومما سمعته من الأخ أبو جهاد موجها كلامه للأخ أبو علي إياد "من آدم جلال إلى آدم أياد احمل عصاك وارحل" ولم أستفسر من الأخ أبو جهاد فيما بعد عن سر تلك العبارة ولكن على ما يبدو أن حضورهما كان متأخرا. دخل الجيش السوري المعركة لكن وزير الدفاع السوري في ذلك الوقت اللواء حافظ الأسد رفض إعطاء الأوامر للطيران السوري ليغطي دخول الجيش مما سهل ضربه من قبل الجيش الأردني وانسحابه إلى الأراضي السورية، ويبدو أن ذلك كان بسبب الخلاف في القيادة السورية الحاكمة في تلك الأوقات بعدها قام حافظ الأسد بانقلابه بما سمي في تلك الفترة بالحركه التصحيحية واعتقل كل رفاقه في الحزب وقاد الحزب والدولة حتى وفاته.
في إحدى فترات الهدوء وصل إلى موقع الإذاعة وهو قريب من مقر اللجنة المركزية لفصائل الثورة الفلسطينية الأخ أبو ماهر اليماني نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومعه عضو في المكتب السياسي للجبهة وهو عراقي من عائلة السامرائي نسيت اسمه الأول وعلمت منه أنه يبحث عن مقر اللجنة المركزية لأن الأخ أبو عمار دعاهم لاجتماع عاجل فلم يجد أحدا، وعندما رآنا جاء ليستفسر ولم يكن يعرف أن هذا المكان هو الإذاعة واستفسر عن سبب توقف الإرسال حيث أنه لم يسمع الإذاعة منذ فترة متسائلا هل تم ضربها؟! طبعا لم نخبره عنا ولكن مفاجأتي شخصيا أنه أثناء حوارنا سقطت قذيفة مدفعية قرب مقرنا فسارع أبو ماهر للاختباء تحت الطاولة! فاستغربت ذلك من نائب الأمين العام للجبهة التي تخيف العالم بعملياتها الجريئة وباختطاف الطائرات وبتصلبها الثوري.
كان الوضع في عمان مأساويا، خاصة في مستشفى الاشرفية حيث الجرحى بالمئات ناهيك عن الشهداء وخاصة المدنيين وتأتينا الأخت أم ثائر وهي زوجة حنا مقبل تطلب منا الإعلان عن التبرع بالدم حيث لم يعد هناك ما يكفي لعلاج الجرحى خاصة وأن المستشفى نفسه يتعرض للقصف ولا يوجد فيه كهرباء، وكان الناس يتوجهون إلى مسجد أبو درويش كونه في منأى عن قذائف الدبابات والمدفعية، ورغم ذلك كنا نشعر من حديث أم ثائر الواثقة من نفسها أن المعنويات ما زالت مرتفعة وكانت المأساة ظاهرة على الوجوه، الدماء في كل مكان، وفي إحدى الليالي كان نداء الله أكبر يتردد عبر سكون عمان كي يتوقف القتال.

استطاع الأخ رافع الخالدي مسؤول اللاسلكي لدى الأخ أبو جهاد أن يلتقط لاسلكي إحدى الدبابات وسمعت الحوار التالي بين الأخ أبو جهاد شخصيا وبين قائد الدبابة: قال أبو جهاد هل يعقل أن يسيل هذا الدم بينا وبينكم، نحن إخوان. كان الحوار طويلا بين الرجلين وربما خفّف من الاحتقان بين الجانبين. وقبل هذا الحواركنا نسمع حوارا بين اثنين من قادة الدبابات يستفسران عن الوضع واين وصلوا وتطرقا إلى الحديث عن الإذاعة إلى أن سمعنا أحدهما يقول للآخر: " ملعون ابوهم ما أحلى أغانيهم!".
أثناء حرب أيلول المؤسفة وافقت القيادة العراقية على افتتاح محطة للثورة الفلسطينية ذهب إليها من القاهرة الأخ الطيب عبد الرحيم وكان معه يوسف القزاز وعارف سليم وفيما بعد استلمها الأخ عزمي خميس، وعلمت أن الأخ حسن البطل قد عمل في بغداد معلقا سياسيا بقلمه الرشيق، وكانت إذاعة بغداد في تلك الفترة إذاعة مساندة لنا نحن بعمان، حيث أن إذاعتنا في عمان لم تكن مسموعة في العالم العربي لضعف إرسالها الذي يكفي عمان وما حولها فقط. أثناء استماعي إلى الإذاعة في بغداد في إحدى ليالي عمان علمت أن عددا كبيرا من القوات في الجيش الأردني التحقوا بالثورة وكنت أخشى على أخي نافذ الضابط في الجيش من أي مكروه، وكم كانت سعادتي وارتياحي عندما سمعت بوصوله امناً إلى قواعد الثورة وتم ذكر اسمه من الإذاعة هناك ضمن من التحقوا بنا. فسارعت للإعلان عن ذلك من (زمزم 105) بصوتي حتى يطمئن الأهل في عمان بالذات.
اتخذ الأخ الطيب من بغداد خطا هجوميا عنيفا ضد النظام المصري، خاصة وأنّنا كنا نتوقع تحركا من الرئيس عبد الناصر ليتوقف سيل الدم في الاردن، لكن عبد الناصر بقي ساكتا ربما لعدم رضاه عما يجري ولغضبه من قيادتنا لموقفها منه بخصوص مشروع روجرز، إلى أن تدخلت الجامعة العربية وأرسلت السيد الباهي الأدغم رئيس الوزراء التونسي إلى عمان لايجاد مخرج من المأساة، وتحرك الرئيس السوداني جعفر النميري الذي وصل إلى عمان، وكان الحديث عن كيفية لقاء الوفد العربي بالاخ أبو عمار، تم الاتفاق على أن يتم اللقاء في السفارة المصرية في جبل عمان ووضعت خطة التحرك للقاء حتى لا يتم ضرب المتحركين من قبل الجيش الأردني وليكون على علم باتجاه سير القافلة.
تم اختيار الأخ رسمي أبو علي لقراءة التعليمات وخريطة السير لتكون معلومة للجميع كي تصل بامان، وثم اختيار الأخ رسمي بسبب هدوء صوته ليقرأ سير الطريق من المكان الفلاني إلى الجبل الفلاني في الوقت الفلاني. وفي تلك الأثناء تم إخراج الأخ أبو عمار إلى القاهرة بأسلوب التخفي وعقدت قمة عربية بحضور الملك حسين والأخ أبو عمار وتوقف القتال وبدأ التحضير لخروج الفدائيين والجيش الأردني من عمان على أن يتجمع الفدائيون في دبين وأحراش جرش.
تم اختياري للخروج تحت الراية الخضراء راية الباهي الأدغم إلى سوريا مع من سيخرجون. وبقي الأخ ربحي عوض على أن ينقل الإذاعة إلى موقعها الجديد في أحراش جرش، طلبت أن أذهب لأودع أهلي الذين يسكنون في حي الشميساني والمسافة بين الاشرفية والشميساني ليست بقليلة خاصة وانني ساذهب مشيا على الأقدام. تطوع الأخ ثائر أبو المجد وكان أحد الأشبال الذين يقومون بحراسة الإذاعة في النزول معي بسلاحه إلى البلد. وهذا الشبل كان دائم التجول في شوارع المنطقة يتفقد الأوضاع ويأتينا بالاخبار قال لي: بينما أنا وبعض المواطنين نستمع إليك في الإذاعة، والمعنويات صعبة والوضع حرج، وإذ بك توجه نكتة ساخرة إلى المشير حباس المجالي الحاكم العسكري العام الذي كان قد أعلن في وقت سابق رصد مبلغ (40) ألف دينار لمن يأتي برأس جورج حبش حيا أو ميتا، وكان الأخ نزيه أبو نضال قد كتب كلمة قصيرة وساخرة حول هذا الموضوع كي اقرأها بأسلوبي الساخر الذي أجيده اذكر منها أن المواطنين في عمان ذهبوا إلى سقف السيل ليبحثوا عن ملابس داخلية بيضاء ليرفعوها علم استسلام أمام الجنرال حابس حابس المجالي (على وزن علي علي عامر) ليسلموا جورج حبش فلم يجدوها. فهل رقبة حبش رخيصة إلى هذا الحد، أي لحلحها شوية يا مشير! قال ثائر عندما سمعنا هذه النكتة أيقنا أننا في وضع جيد ورفعتم معنويات الناس.

أثناء المعارك كان الجيران حولنا يأتوننا بالطعام باستمرار من إفطار وغداء وعشاء دون أن يعرفوا ماهية عملنا سوى اننا من مكاتب الثورة، ولما اشتد القتال والحصار اعتذروا لنا حيث لم يعد لدى الجيران طعام أو خبز ولكن كان في الجوار دكان صغيرة صاحبها لم يحضر منذ بدء القتال فاستاذنونا بفتحها واستعمال مواد التموين التي بداخلها ففتحناها ووزعنا عليهم ما بها على أن نعوض صاحبها عند عودته وعودة الهدوء إلى ربوع البلاد.
وفي أحد الأيام فوجئنا بإحدى الدبابات في الشارع الذي خلف موقعنا ورأيناها رأي العين ولم نحرك ساكنا وفي وقت لاحق مر بنا الأخ أبو جهاد وعلم بذلك فطلب منا إغلاق الإذاعة والانتشار بعيدا. كان سلاحنا متواضعا وهو عبارة عن كلاشن بلغاري وجعبة ومدقة مع بعض المخازن نزلنا إلى الشارع الذي أسفل مقر الإذاعة وجلسنا تحت شجرة قريبا من المكان. مر بي، وأنا جالس مع رفاقي في المكان، إحساس غريب، وسألت نفسي هل أواجه الدبابة بهذا الكلاشن والمدقة الصينية، هل سأوجه سلاحى إلى الجندي في الدبابة ليقتلني أو اقتلة، الرسول صل الله عليه وسلم يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، وفي هذه الأثناء وانا سارح لا أدرى ما افعل ولكنني كنت اسحب أقسام الكلاشن ببطء، (روكب) الكلاشن وعلقت رصاصة في السبطانة ولم أصح إلا على صوت الأخ ربحي عوض يحذرني من أنني أصوب الكلاشن نحوه دون أن أدري! بعد قليل ونحن في هذه الحالة إذ بالاخ أبو جهاد يمر بنا، وهذا هو ديدن القائد، دائم التحرك ولا يمل، يتفقد المواقع وفوجئ بوجودنا مكشوفين قريبين من الإذاعة: بعدكم هون؟! قلنا: واين نذهب؟ قال: انتشروا. ادخلو البيوت بين الناس. وفعلا دخلنا أحد البيوت الذين رحبوا بنا وقدمت ربة المنزل الشاي الساخن لنا وتسألنا عن مصير الإذاعة التي لم تعد تسمع! وهي لا تدري أن ضيوفها هم طاقم هذه الإذاعة التي لا تبعد عن منزلها سوى أمتار قليلة، كانوا قلقين على الإذاعة. طلب منا الأخ أبو جهاد أن ننقل الإذاعة في الليل. ولكن في الليل كان القمر ساطعا ومنيرا بشكل غير عادي وكأنه قمر الحصادين، فاي تحرك في هذا الجو مكشوف خاصة وإننا قريبون من حاووز الاشرفية، وهو مكان عال ومشرف على المنطقة وبه مدفع 500 للجيش يستطيع أن يسيطر على المنطقة بسهولة. كيف ننقل جهاز الإرسال وهو ثقيل وطوله يقارب المترين؟ تطوع مقاتل شهم وطويل وحمل الجهاز ونزل فيه المنحدر متحاشيا ضوء القمر حتى لا ينعكس خياله على الأرض أو الجدران وكنا نمشي الهوينا ملتصقين بجدران البيوت حتى وصلنا مقر التصوير حيث هاني جوهرية وابو ظريف وطاقم التصوير بعد طلوع النهار.
وحتى الآن لم أعرف اسم ذاك المقاتل الشجاع الذي تجشم حمل جهاز الإذاعة طيلة ليلة كاملة دون شكوى أو ضجر ينزل منحدراً ويصعد مرتفعاً حتى وصلنا آمنين.
وبعد جهد جهيد وانقطاع دام ساعات طويلة استطعنا تشغيل الإذاعة من جديد، والفضل كله يعود بعد الله للأخ رافع وشاب سوري اسمة جهاد يعمل في اللاسكي ومد اسلاك الانتين على البنايات حولنا دون خوف، بالرغم من أنه يلبس المرقط وعند الظهر فوجئنا بمن حولنا يحتفلون بقدومنا بصينية مقلوبة ساخنة لكن اللحم فوقها كان علبة بولوبيف! ولأول مرة التقي المرحوم هاني جوهرية مسؤول قسم التصوير ذلك الرجل الهادئ والعامل بصمت ومثابرة كما النحلة.

وفي المساء قيل لنا اسمعوا إذاعة القاهرة، وإذا بالسادات يدعو إلى الصبر ويعلن وفاة عبد الناصر. كان الخبر كالصاعقة على الجماهير التي نسيت ما هي فيه من ألم ومأساة. ورغم أن هذه الجماهير غضبت في البداية من عبد الناصر الذي لم يحرك ساكناً لوقف الدماء التي تسيل في عمان، إلا انها رفعت الإعلام السوداء فوق منازلها حداداً على الراحل الكبير والكل يستمع لإذاعة القاهرة التي تبث القران الكريم.
كان حب الجماهير لعبد الناصر يملأ الوجدان، ما أدى إلى نسيان الدم ونسيان كل ما جرى.
شهر أيلول بالنسبة لي شهر مهم ففيه حصل الانفصال وانتهت الوحدة السورية المصرية ما سبب لي شخصيا ولكثيرين غيري ممن يحبون عبد الناصر، ألما كبيرا ونكسة لحلم الوحدة، ولكن يوم 26/9 قامت الثورة اليمنية ضد حكم أسرة حميد الدين التي آخرجت اليمن من عهد الظلمات فأعادت لي بعض الأمل، وفي 27/9 وهو يوم مولدي وهو أيضاً يوم استشهاد القائد الفارس سعد صايل، أما 28/9 فكان يوم وفاة الزعيم الكبير جمال عبد الناصر. وفي وقت لاحق من العام 1982 حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول أيضا، وقبلها كانت دير ياسين، واستشهاد عبد القادر الحسيني بطل معركة القسطل في بدايات شهر أيلول، ولكن فيه أيضاً أنني اصبحت جداً في 6 أيلول، ووُلد حفيد آخر جديد لي في نفس يوم مولدي 27/9!
فشهر أيلول بالنسبة لي شهر مميز فيه الحلو وفيه المر، ولكن لو تأملنا شهور السنة كلها بالنسبة للفلسطيني لوجدناها هكذا أيضاً!
بعد الاتفاق على وقف النار والانسحاب من عمان توجهت إلى وسط البلد للاستطلاع ومن ثم زيارة الأهل في الشميساني اصطحبنا الشبل ثائر أبو المجد بكامل سلاحه، وعند وصولنا ساحة الجامع الحسيني وسط عمان كان الجيش والشرطة في كل مكان بسلاحهم ودباباتهم التي تستعد للانسحاب قابلتنا امرأة عجوز وحذرتنا من الاستمرار خوفاً علينا، لكننا ركبنا رأسنا ورفضنا العودة مكابرين! أوقفنا ضابط شرطي قرب البنك العربي، قائلا: على فين يا شباب؟ أجبته لزيارة صديق لنا يقيم في فندق خلف البنك، دخلنا الفندق الشعبي لكننا لم نجد صاحبنا وعدنا أدراجنا، لكنهم اعتقلوا فيما بعد أصحاب الفندق الذي قمنا بزيارته! طلبت من الشبل ثائر أن يعود خاصة وأنه مسلح ومضيت في طريقي لزيارة اهلي كان واضحا من ملابسي المتسخة والتي لم اغيرها منذ المعركة في 16/9 وحتى 28/9 لدرجة أن القميص الأبيض أصبح أسودا وبهذا لا أستطيع مواصلة السير دون أن يعرف أحد من أنا فوضعي يدل على ّ. كانت إحدى أخواتي المتزوجات تسكن قريبا في شارع وادي السير بعد مبنى البريد، وصلت بيتها وكان اللقاء مؤثراً وأراد زوجها أن يخبئني عنده بالرغم من أن جيرانه عرفوا من أنا فأصريت على الذهاب لأرى أمي وأبي و اخواني واطمئنهم، فصاحت أختي، راح يعرفوك لحيتك طويلة وملابسك متسخة عندها أعطاني زوج اختي أحد قمصانه لكن كان عليّ مثل الفستان! حيث أن زوج أختي سمين بعض الشيء وأصر على مرافقتي إلى البيت خوفاً عليّ. مشينا من شارع وادي السير إلى جبل عمان فالدوار الثالث حيث كانت دبابات الجيش تتجمع وتتحرك للخروج من عمان حسب الاتفاق، احسست أن زوج أختي كان خائفاً اكثر مني خوفا من أيقافنا وسؤالنا عن وجهتنا وهويتنا، ثم مررنا من أمام دائرة المخابرات دون أن يسألنا أحد فالكل مشغول بالتحرك. وخوف زوج أختي مبرر لأنه كان ضابطا في الخدمات الطبية الملكية. وصلنا البيت في الشميساني وفرحت بلقاء والديّ، ولأول مرة أرى دموع والدي، كان اللقاء مؤثرا اطمأنوا عليّ وعلى أخي نافذ اخذت حماماً ساخناً وغيرت ملابسي بملابس أخرى نظيفة وأكلت طعاماً ساخناً من بين يدي الوالدة رحمها الله وأردت العودة إلى مقر عملي، فأعترضني الوالد رحمه الله قائلا وين رايح! قلت عندي شغل، وكنت وعدت زملائي بألا أغيب إلا ساعات قليلة أعود لهم بعدها. فاستنجد رحمه الله بوالدتي منادياً يا سهيلة تعالي شوفي خالد شو بحكي، هنا كان رد الوالدة رحمها الله كالصاعقة على والدي عندما قالت: الله يسهّل عليه. أسقط في يد الوالد وسكت لكنه استدرك والدمعة تفر من عينيه: روح يا ابني.. أنا وهبتك إنت وأخوك (نافذ) للثورة.
أصر أخي غسان الذي يكبرني بسنتين أن يوصلني بسيارته الصغيرة اخبرته أن الحاكم العسكري يمنع التحرك بالسيارات قال سنضع العلم الأبيض ونسير. ركبت سيارته الفوكس لكنهم أوقفونا عند المخابرات وقبل أن نصل المخابرات سألني أخي أن كنت أحمل هوية، أجبته نعم معي هوية فتح، صرخ بأعلى صوته وأخذ يشتم ارمها في أرض السيارة ولا تظهرها. لم أكن متخوفاً فإيماني بالله لا يتزعزع " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ". حتى وقت القصف لم أشعر بذلك الخوف الذي يعتري الإنسان في مثل هذه المواقف ولم أحس برهبة الموت لإيماني المطلق بالقضاء والقدر، لم أرد أن ألقي بهويتي التي تحمل شعار العاصفة شعار فتح في أرضية السيارة، فالشعار يوضع على الرأس لا يلقى على الأرض لكنني استجبت لنداء أخي خوفا عليه أيضا وهو موظف حكومي. قال رجل المخابرات: ممنوع المرور بالسيارة أكثر من هنا، أجابه أخي بأنني سأوصله إلى الحسين فقط، وافق الرجل لكن أخي استمر بنا حتى قصر رغدان، حيث أكملت طريقي مشياً على الأقدام إلى موقعنا.

يتبع-
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار   تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Emptyالجمعة 02 فبراير 2024, 8:48 pm

الحلقة الثالثة:

التقيت بالأخوة الزملاء ربحي عوض وعصام بسيسو في مقر الإذاعة أما بقية الأخوة فقد ذهب كل واحد منهم إلى أهله بعد هذا الغياب القسري أما ربحي وعصام فالأهل يقيمون في القاهرة.
الاستعداد يجري على قدم وساق، وطلب الشهيد الرمز أبو جهاد منا تجهيز أنفسنا لركوب شاحنات الباهي الأدغم للذهاب إلى سوريا. أمر الأخ أبو جهاد بصرف المخصصات للزملاء ورفضت أن استلم فلساً واحداً لإيماني المطلق أننا نحن من يجب أن يدفع للثورة. هذا أولاً، وثانياً لعدم وجود قيود لي لدى مالية الحركة بالرغم من إصرار الأخ ابوجهاد على ذلك. والحمدلله انني تذكرت جواز سفري وحملته معي وهو الشيء الوحيد الذي كان بحوزتي. أكرمني الشباب بالجلوس إلى جانب السائق في الشاحنة وهم اعتلوا ظهرها فلذلك وعند وصولنا الحدود السورية اعتقدت المخابرات السورية هناك ربما أكون أحد قادة هؤلاء الشباب! ولا أدري لماذا كان إصرارهم (السوريين) على أنني من الجبهة الديمقراطية رغم نفيي الحازم لذلك. وصلنا دمشق ونزلنا في فندق تدمر حيث استقبلنا شباب الحركة هناك وعلى رأسهم أستاذنا الكبير فؤاد ياسين. لم أكن أملك شيئاً، زارنا الأخ أبو مازن وكان المفوض المالي للحركة وأمر بصرف (200) مئتي ليرة سورية لكل واحد منا كي نشتري بيجاما وبعض الملابس الضرورية الخفيفة وأدوات الحلاقة. لم أحرك ساكناً نظر إليّ الأخ أبو صخر متسائلاً: شو يا أبو الخلد كمان هاي ما بدك تاخدها؟! أخذتها واشتريت ما أحتاجه وبقي بعضها بحوزتي. إلا أن الزملاء صرفوا المبلغ كله وتمحكوا بي كي نطلب زيادة، لكنني رفضت أن أطلب فما زال معي بقية!
وفي لقطة أثرت في نفسي فيما بعد حيث فوجئت بعد إصرار الأخ أبو صخر أن أحصل على مخصص شهري أسوة بزملائي في الإذاعة، بعد أن تخرجت من الجامعة استلمت أول مخصص مخصوم منه (200) ليرة، وأخبرني المندوب المالي أنها سلفة سابقة عليّ! بالرغم من أنني لم استلم مخصصا منذ إنشاء الإذاعة وحتى ذلك الوقت 1971م! لكن اتضح لي أنه المبلغ الذي أمر الأخ أبو مازن بصرفه لنا عند وصولنا دمشق!
بقينا فترة في فندق تدمر التقيت خلالها بالقوات التي التحقت بنا من الجيش وخاصة أخي نافذ الذي عرّفني على بعض ضباط تلك القوات كالرائد أبو موسى سعيد مراغة وآخرين، وكانوا جميعا شبابا مفعماً بالحيوية والسرور لالتحاقهم بنا.
لم يكن بعد قد بدأ العمل لإنشاء محطة إذاعة في سوريا لذلك غادرت إلى القاهرة لاستكمال دراستي وكنت ما زلت أقيم في مدينة البعوث الإسلامية. وفي نفس الوقت الذي أعلن فيه السادات قراره بإعادة فتح إذاعتنا وإذاعة المنظمة لكن كان شرطه دمج الاذاعتين بإذاعة واحدة.

فرحنا بالقرار وكلف الأخ أبو صخر بالعمل على دمج الاذاعتين فاختار من اسم إذاعة منظمة التحرير التي كانت تسمى: صوت فلسطين.. صوت منظمة التحرير الفلسطينية اختار صوت فلسطين. واختار من إذاعتنا التي كانت تسمى: صوت العاصفة.. صوت فتح.. صوت الثورة الفلسطينية: صوت الثورة الفلسطينية.
لذلك أصبح اسم الإذاعة الجديد: صوت فلسطين... صوت الثورة الفلسطينية.
واجهتنا هنا مشكلة الأناشيد، حيث أن كثيرا من أناشيدنا فيها اسم فتح فكان القرار إما شطب كلمة فتح من الأناشيد أو عدم إذاعتها مطلقا من الإذاعة الجديدة. جربنا الحل الأول فأصبحت الأناشيد (قرعة!) لا طعم لها ولا ذوق، وكم شعرت حينها بجمالية اسم فتح. لذلك تم استبعاد تلك الأناشيد ونحن في غاية التأثر.. كنشيد باسم الله باسم الفتح.. باسم الثورة الشعبية. ونشيد بلادي بلادي فتح ثورة عالاعادي، ونشيد أنا ابن فتح، وغيرها من الأناشيد. بدأنا مرحلة جديدة تتطلب أسلوبا جديدا.
في هذه الفترة من العام 1971م جاءنا صوت جديد قريب من صوتي لكنه صوت هادئ على غير ما اعتدنا عليه في صوت العاصفة. اعترضت عليه في البداية بسبب هدوئه، وهو دائما يذكرني بذلك ويقول إن الوحيد الذي رفضني هو خالد. وكان لي سابقة بهذا الخصوص، ففي السنة الأولى من بدء الإذاعة تقدم لنا أحد مذيعي صوت العرب وهو فلسطيني لجأ من دمشق إلى القاهرة قبل إنشاء إذاعتنا وإذاعة منظمة التحرير الفلسطينية، وافق عليه الأخ أبو صخر والأخ هايل عبد الحميد لكنه ليس بالصوت الجميل أو الاداء الجيد. فاعترضت بشدة واضعا نصب عيني شعار الأخ أبو صخر عدم استخدام أصوات سابقة معروفة لدى المستمع العربي أثناء هزيمة حزيران وارتبطت أيضا بتقديم الحفلات والسهرات المنوعة والأغاني ما اضطر الأخوين أبو صخر وأبو الهول الاعتذار للمذيع إياه، وعودتي إلى العمل بعد ذهابه.
انتهت مرحلة البلاغات العسكريه التي اشتهرت بها إذاعة صوت العاصفة وخفت العمليات العسكرية التي كانت تنطلق من الأغوار في الأردن بعد خروجنا من قواعدنا هناك إلى جنوب لبنان وسوريا، لذلك بدأ التفكير ببرمجة الإذاعة، حاولت في البداية الاعتراض لدرجة أن بعض زملائي أطلقوا علي اسم ليكود الإذاعة! طبعا كنت ضد اللقب ولكنني كنت متمسكا بأسلوب العاصفة.
كان من المفروض أيضا أن تتغير إشارة الإذاعة بعد الدمج فأراد الأخ أبو صخر أن تكون الإشارة الجديدة بصوت الأخ عارف وهو صاحب صوت قوي وجميل وأداء مميز، لكنني اصررت على بقاء صوت عبد الشكور متعللا أننا غيرنا الإشارة ولا اعتراض، فهل يعقل أن نغير أيضا الصوت الذي تعودنا عليه وتعودت عليه جماهيرنا، إلا عبد الشكور! ونجحت في ذلك من خلال التصويت، والكل يذكر صوته وهو يهدر: " هذا صوت فلسطين.. المعبر عن إرادتكم، يحييكم ويلتقي بكم.. الخ".
بدأت عملية البرمجة، والفضل في ذلك يرجع إلى الأخ نبيل عمرو وأعترف أنه صاحب بعد نظر، حيث أقنع الأخ أبو صخر بذلك إذ لا يمكن ملء الهواء إلا بالبرامج الثابتة، وعند أي حادث طارئ يمكن أن ينقلب الحال ونغير البرامج وننطلق على الهواء مباشرة كالسابق.
حديث الأرض المحتلة، أصبح برنامجا سياسيا يوميا يكتبه الشاعر محمد حسيب القاضي وغالبا ما يذيعه خالد، وبرنامج كلمات إلى فلسطين يكتبه يوميا يحيى رباح ويذيعه رسمي أبو علي ثم تتابع عليه كل من نبيل، خالد، بركات، ومريد البرغوثي. برنامج بلادنا فلسطين شاركتُ في كتابته بعض الوقت ثم تخصص فيه في وقت لاحق الأخ يوسف القزاز وبرنامج أناشيد الثورة والوطن وكان يعتمد على قصائد شعراء الوطن المحتل بشكل خاص وعلى شعر المقاومة وكنا أيضا نتاوب على إذاعته، وبرنامج خبر وتعليق كان الأخ الطيب يكتبه وهو يقرأ الخبر وأنا أعقب وفي كثير من الأحيان ما يكون التعليق فيه نبرة استهزاء محببة قيل لي أني برعت في أدائها.
انتشر عملنا إلى عدة بلدان عربية رحبت بتسليم موجات إذاعتها لصوت فلسطين، الإذاعة في بغداد تناوب على العمل فيها الكثيرون من مذيعين ومعلقين: يوسف القزاز، عزمي خميس، يحيى رباح، حسن البطل، نبيل عمرو بالإضافة إلى الكادر المحلي الذي تم تدريبه هناك. والإذاعة في الجزائر تناوب عليها أيضا بركات زلوم، يحيى رباح، يوسف القزاز بالإضافة إلى الكادر المحلي: أبو إبراهيم كنعان، يعقوب شاهين ثم عيسى عبد الحفيظ وزياد ابو الهيجاء. والإذاعة في صنعاء حيث كنت الوحيد فيها طيلة عام كامل تسلمها بعدي محمد الدرهللي وعصام عنان. والإذاعة في عدن التي أسسها المرحوم عبد المجيد فرعوني ومعه محمد الباز.

في العام 1973م وأثناء عملي في إذاعة الثورة الفلسطينية أعلن في القاهرة عن افتتاح كلية الإعلام في جامعة القاهرة للدراسات العليا ويحق للعاملين في أجهزة الإعلام في مصر ممن أمضوا ثلاث سنوات فما فوق أن يلتحقوا بقسم الدراسات العليا في الكلية. ومن حسن حظي أنني أمضيت السنوات الثلاث في عملي في الإذاعة مما يخولني للالتحاق بالدراسات العليا وكان معي من العاملين في الإذاعة ما ينطبق عليهم الشرط المرحوم محمد اسماعيل والأخت أسماء عرفات شقيقة الأخ أبو عمار، وبما أن جميع الملتحقين في هذه الكلية هم مذيعون ومذيعات ومخرجون ومخرجات في الإذاعة والتلفزيون اخترت تخصص الإذاعة والتلفزيون بالإضافة إلى السينما للدراسة التي ستسغرق سنتين قدمت خلالها بحثين أحدهما عن الإذاعة والتلفزيون والآخر عن السينما تمّت إجازتهما وحصلت عندها على دبلومي الدراسات العليا (الماجستير) بإشراف الدكتورة سهير بركات أستاذة الاعلام.
كان من أهم الأساتذة الذين أشرفوا على تعليمنا الخبير الإعلامي المصري الراحل محمد فتحي وكان أحد كبار المذيعين في فترة إنشاء الإذاعة المصرية وكان لطيفاً في تعامله معنا جميعاً. وبسبب خبرته الإعلامية الطويلة وعلاقاته المتشعبة في العالم اقترح أن نحتفل بتخريجنا بزيارة عدد من البلدان الاوروبية التي كانت له علاقات صداقة مع مسؤولي إذاعاتها وتلفزيوناتها وفعلاً تمّ ترتيب استضافة من هذه المؤسسات لنغادر عن طريق البحر في رحلة إلى روما وباريس ومدريد.
واجهتني مشكلة أن جواز سفري الأردني منتهية فترة صلاحيته بالإضافة إلى أن تكاليف الرحلة لم تكن بحوزتي!
حُلّت مشكلة الجواز الذي تمّ عن طريق السفاره الأردنية في القاهرة بواسطة أحد الأصدقاء المصريين، لكن السفينة كانت قد أبحرت من ميناء الإسكندرية تقل جميع الخريجين المصريين من مذيعين ومخرجين من الجنسين. فأسقط في يدي ثم أن تكاليف السفر ليست ميسرة إلا بالقليل الذي بحوزتي ولا يكفي للحاق بهم. ولكن الزميل والصديق ربحي عوض وكان وقتها معتمد الإقليم في جمهورية مصر العربية شجعني وساعدني في الحصول على تذكرة سفر بالطائرة إلى باريس للحاق بهم هناك وأعطاني رسالة لصديقه ممثل (م.ت.ف) في فرنسا الشهيد الراحل محمود الهمشري لتسليفى بعض النقود.
حملت الرسالة وجهزت شنطة ملابسي وكانت شنطة كبيرة وتوجهت إلى مطار القاهرة لاستقلّ الطائرة المتوجهة إلى باريس ومن حسن الطالع جلس إلى جانبي رجل عربي يتكلم الفرنسية بطلاقة عرفت أنه جزائري، عرف بوجهتي وأني أريد اللحاق بزملائي الذين سبقوني بالباخرة على أمل اللقاء بهم في باريس وسعدت أنه خبير في جغرافية باريس وسيساعدني للوصول إلى عنوان الهمشري هناك. ولكن كانت المفاجأة في مطار باريس أن جاء البوليس الفرنسي واعتقل هذا الرجل الجزائري باسلوب حضاري لدرجة أنني لم أعرف أنه اعتقال! إلا عندما أخبرني هو بنفسه بذلك، فاسقط في يدي ولم أدر كيف أصل إلى عنوان الهمشري لكنه أخبرني بسرعة أن لا أركب تكسي من المطار لأنه سيكلفني الكثير ودّلني على باص لايكلف إلا القليل، وفعلاً خرجت من المطار واستقليت الباص وكان قد ذكر لي أن استقل المترو إلى محطة سماها لي ومن هناك العنوان سيكون قريباً.
واجهتني مشكلة الشنطة الكبيرة والثقيلة التي أدخلتها الباص أولاً ومن ثم المترو وبعد ذلك حملتها وصعدت بها خارج نفق المترو، وكان الوقت قد قارب على المغيب وأحسست بتعب شديد خاصة لأنني غادرت القاهرة في الصباح والجو كان حاراً ونحن في شهر تموز (يوليو)، كنت أعتقد أن لغتي الإنجليزية ستساعدني في باريس، ولكن للأسف اتضح لي أنهم لا يتكلمون الإنجليزية فاضطررت أن أوقف تكسي رغم تحذير الجزائري لي بعدم استعمال التاكسي، إلا انني أردت شراء راحتي وليكن ما يكون، خاصة وأني قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى شقة محمود الهمشري الذي سيسلّفني المبلغ المطلوب لاتمام الرحلة وأظهرت العنوان المكتوب على رسالة الأخ ربحي عوض إلى الهمشري لسائق التاكسي الذي أوصلني إلى العنوان مباشرة وكان قريباً جدا إلا أنه كلفني مبلغا وقدره!
لم أجد البواب الذي من المفترض أن يكون داخل المبني ويطلقون عليه (الكونسيرج). انتظرت قليلاً وإذا بسيدة تدخل المبنى وكم فرحت عندما علمت أنها تتكلم الإنجليزية ودلتني على شقة الهمشري في الطابق الثاني وحملت الشنطة اللعينة والتعب يهدني طرقت الباب.. مرة واثنتين وثلاثة ولكن لا جواب! ماذا أفعل؟! ولا املك ما يكفيني للمبيت في باريس. وفي هذه الأثناء خرجت امرأة عجوز من الشقة المقابلة للهمشري وقالت إنه مسافر ولن يعود إلا بعد أيام. كارثة حلت بي.. ما العمل؟! حملت الشنطة وهبطت السلالم إلى الطابق الأرضي ومن حسن حظي أن السيدة التي تتكلم الإنجليزية أيضاً نزلت من شقتها خارجة إلى عملها قالت متعجبة أنت ما زلت هنا؟ اخبرتها بقصتي وبأنني أريد الالتحاق بزملائي الذين توجهوا إلى مدريد. قالت: الوقت متأخر واقترح عليك أن تنزل الليلة في أحد الفنادق ولا تضيع احتفالات باريس هذه الليلة في ذكرى الثورة الفرنسية في الشانزلزيه، واخبرتني أنها أمريكية متزوجة من فرنسي والاحتفالات جميلة. لكنها لا تدري أني لا املك ما يكفي لذلك وقد فقدت المصدر الغائب الذي كان سيعطيني المال. طلبت منها أن تدلني على القطار الذي سيقلني إلى مدريد وفعلاً ساعدتني في ذلك وركبت المترو والجوع والعطش والشنطة (بتهدّ الحيل).. تعرفت في المترو على زوجين شابين مع طفلهما حيث كنا وقوفأ داخل المترو فلا مكان للجلوس بسبب الازدحام. الشاب أسمر وزوجته بيضاء وكذلك طفلهما، سألت عن محطة القطارات التي ستقلني إلى مدريد، اتضح لي أنه من أوروغوي وزوجته فرنسية ولغته الإنجليزية مكسرة وقد لاحظ إرهاقي وتعبي فأعانني على الشنطة، وقال سادّلك أين تنزل من الميترو وكيف تصل محطة القطار فحمدت الله أن هذا الغريب في هذا المكان الغريب سيساعدني وفعلاً أشار لي أن انزل في إحدى محطات المترو ودلّني كيف التوجه إلى محطة القطارات.
ودخلت محطة القطارات وإذ بها ساحات واسعه تمتلئ بالقطارات التي تتوجه إلى مختلف المدن والبلدان ومنها إسبانيا. وقفت في طابور طويل لشراء تذكرة السفر ولم يكن معي من العملة الفرنسية ما يكفي وعندما وصل دوري بعد طول انتظار عرضت المائة دولار التي بحوزتي على الموظف لشراء تذكرة إلى مدريد لكنه طلب مني تغيير العملة وعدت مرة ثانية إلى شباك التذاكر بطابور آخر جديد! وحمدت الله على حصولي على تذكرة السفر. ولكن أي القطارات الذي سيقلني من هذه القطارات التي تملأ الساحة الكبيرة! لا أحد يرشدني فالإنجليزية لم تسعفني إلى أن صادفت شخصين يتناقشان باللغة العربية وباللهجة المغاربية. هل أنت عربي؟! سألت أحدهما نعم أنا من المغرب -أجابني- طلبت أن يدلّني على القطار الذاهب إلى مدريد وعلمت منه أن هناك عدة قطارات بمواعيد مختلفة، وطلب مني أن أريه تذكرتي فلما رآها ولاحظ موعد القطار قال أسرع قبل أن يفوتك القطار فهذا هو موعده حاولت جهدي بحملي الثقيل(الشنطة)، وبجوعي وعطشي فحمل المغربي عني الشنطة وأخد يركض وانا ألهث خلفه حتى أدركت القطار وما أن وصلت حتى انطلق بنا فوراً. فلولا هذا المغربي الشهم لضاعت التذكرة وخسرت ثمنها وبتّ ليلتها فى محطة القطارات جزاه الله عني كل خير جلست في إحدى القمرات داخل القطار وألقيت بجسدي المرهق بعد أن وضعت الشنطة جانبا وغلبني النوم. أثناء ذلك كان يمرّ مفتش التذاكر فسألته بالإشاره إن كنت أستطيع شراء الماء أو طعام أخبرني بان البائع يمرّ بين الحين والآخر داخل القطار تستطيع أن تشتري ما تشاء، مرّ البائع بالفعل وطلبت منه (aqua) ماء للشرب ولكن الذي كان معه مشروبات غازية المعروفة كالبيبسي وغيرها وهذه لا تروي ظمأ، وعلمت أن بائعاً آخر لديه طلبي فانتظرت حتى وصل وفتحت زجاجة الماء.. ويا للحسرة كانت صودا أي ماء غازيّ.. فلم أرتوِ بعد. كان القطار ينهب الأرض ويمرّ بمحطات ينزل ركاب ويطلع غيرهم إلى أن وصلنا إلى محطة نزل فيها الركاب كلهم ولكن لم يطلع أي راكب.. وبقيت في القطار وحدي أنتظر ركاباً جدداً وتَحرُّك القطار إلى هدفه في مدريد إلى أن فاجاني أحد العاملين الذين ينظفون القطار من الداخل بعد خروج الركاب مستغربا وجودي، وأخبرته أني ذاهب إلى مدريد فأشار عليّ أن أغادر القطار هذا لاستقلّ آخر. وكدت مرة أخرى أن أفقد قطاري المتوجه إلى مدريد حيث اتضح لي أن هذه المحطة هي آخر محطة للقطار الذي استقليته من باريس وهي مدينة ليون.

أخدت القطار الآخر وقد عضني الجوع والعطش واشتد ظلام الليل.. جلست في إحدى القمرات (الفلكونات) وإذ بشاب يدخل ليشاركني المكان وبيده رغيف فينو طويل ورول سلامي أومأ لي بابتسامة وجلس وأخذ يأكل أمام هذا الجائع العطش! آه على لقمة واحدة.. ثم دخلت سيدة ومعها طفلان سألت الشاب أن كان يعرف الإنجليزية هزّ رأسه بالنفي فكلّمتها بلغتها وأحسست بفرح أني وجدت من يفهم عليّ ويبدو أنها هي كذلك.. قالت إنها المرة الأولى التي تذهب فيها إلى مدريد وقلت لها وأنا كذلك، أرادت أن يدلها أحد على عنوان تريد الذهاب إليه قلت سنتعاون على ذلك عندما نصل. ودخل القمرة مجموعة من الشباب والفتيات فامتلأت واتضح لي أن هذه المجموعه هم من الإسبان. دخلنا يوماً آخر وكنت أغفو من التعب والإرهاق بين الفينة والأخرى. سألت أحد الشباب الإسبان أن كان يعرف الإنجليزية فانفرجت أساريره وعلمت أنه يتعلم الإنجليزية ولكنه لا يتقنها تماماً. المهم أننا استطعنا أن نتفاهم وأخبرته انني أريد أن اتوجه إلى السفارة المصرية حتى استدل على زملائي الذين سبقوني وكلهم مصريون لكني لا أعرف للسفارة رقم هاتف قال سنتدبر أمرنا عند وصولنا إلى كابينة الهاتف وبالفعل عند وصولنا مدريد ونزولنا من القطار توجه بي إلى كابينة الهاتف لكن السفارة لا ترد فوقت الدوام انتهى. ماذا أفعل؟ تذكرت أن أحد زملائي المقيمين معي في المدينة الجامعية مدينة البعوث الإسلامية التابعة لجامعة الازهر أعطاني رسالة موجهه إلى أخيه المقيم في مدريد، عندما علم أنني سأسافر إلى هناك. لذلك طلبت من الشاب الإسباني أن يدلني على العنوان فأرشدني إلى سيارة تكسي وهي ستقلّني إلى هناك وكنت قد حولت الفرنك الفرنسي إلى بيزيتة الإسبانية. اقلّتني السيارة إلى عنوان شقيق زميلي الذي يدرس في إسبانيا. وصلت الشقة وطرقت الباب وعرفت بنفسي وأنني حامل رسالة إلى فلان من أخيه هل هو موجود، علمت أن هذا العنوان ليس مسكنه وإنما هو مصلّى أو مسجد داخل شقة للطلاب العرب والمسلمين هناك. فدعوني للدخول وكان الجو حاراً خاصة ونحن في تموز وكانت فرصة أنني توضأت وصليت وشربت الماء البارد وأخبرت الشباب بقصّتي وأنني أريد الذهاب إلى السفارة المصرية فاقترح عليّ أحد الشباب أن أذهب إلى فندق صغير لامكث اليوم هناك ومن الفندق نتصل في اليوم التالي بالسفارة، كنت اطمع أن أجد شقيق زميلي الذي أحمل له رسالة ليساعدني ببعض النقود التي أعوضه إياها عند عودتي لأدفعها إلى شقيقه ولكن خاب فألي. تبرع الطالب الذي استقبلني في المصلّى أن يذهب بى إلى مطعم لا يوجد فيه لحم خنزير وحذرني من بعض المطاعم وساعدني بالسكن في بنسيون صغير ورخيص تمتلكه امرأة عجوز وقال لي سأمرّ عليك غداً صباحاً لنتصل أو ادّلك على السفارة المصرية حيث أنه يتقن اللغة الإسبانية وفعلاً ما إن وصلت السفارة المصرية، إلا وأجد زملائي وزميلاتي المصريين يخرجون من السفارة وكانت مفاجأة سارة لهم كيف أني استطعت اللحاق بهم، ولكن للأسف كانوا قد أنهوا زيارة مدريد ويريدون التوجة إلى باريس اليوم!! وقد زاروا قرطبة ومسجدها الشهير وشاهدوا قصور الاندلس التي كنت أُمنّي النفس أن أزورها معهم ولكن...!
نعود من حيث أتيت.. نعود إلى باريس ولكن هذه المرة مع المجموعة التي جهدت للالتحاق بها.

وصلنا باريس واستضافنا التلفزيون الفرنسي وأقام لنا مائدة غداء وكنت الفلسطيني الوحيد بين الإعلاميين المصريين.. تجولنا في المحطة الفرنسية وكل ذلك بفضل علاقة الأستاذ فتحى رحمه الله. نزلنا في بنسيون رخيص وقمنا بجولة داخل باريس حيث أن الأستاذ فتحى يعرف بعض الأماكن الشهيرة هناك منها متحف اللوفر وبرج أيفل وكنت أحاول الاقتصاد ما استطعت في شراء الأكل البسيط بسبب (القروش) القليلة المتبقية معي، حسب وصف الأستاذة سهير بركات أستاذة الإعلام والمشرفة على رسالتي في دبلومي الإذاعة والتلفزيون ودبلوم السينما التي شاركتنا رحلتنا، بحيث رتبها الأستاذ محمد فتحى.
من باريس توجهنا إلى روما وكان الأستاذ فتحى قد رتب لنا الإقامة في الأكاديمية الإيطالية ووفر علينا بذلك مصاريف السكن في فندق.. زرنا مبنى الإذاعة والتلفزيون الإيطالي والكولوسيوم وتجولنا في شوارع روما والأماكن الشعبية وسوق (بورتا بورتيزي) الشهير والرخيص ثم توجهنا إلى نابولي لنستقل البآخرة إلى الاسكندرية في طريق عودتنا في رحلة استمرت أسبوعين واجهت فيها التعب والصعوبة لكنها كانت تجربة هامة علمتني الكثير.
ركبنا الباخرة التي كانت تحمل جنسيات مختلفة وكان من بين الركاب عدد من الراهبات بلباسهن المميز عن غيرهن من الراهبات يضعن الطرحة المعروفة على الرأس بتشكيلة غطاء الرأس الفرعوني وفستان موحد اللون ولكن بنصف كم وطوله عند الركبة! وحذاء موحد اللون أيضاً بكعب واطئ.
تحلّقنا على سطح الباخرة وهي تشق عباب البحر وكان الجو صافيا مشمساً ومعظم الركاب يأخذ مكانه يستمتع بهذا الجو وتشاء الصدف أو بالأحرى الاقدار أن تجلس إلى جانبي إحدى تلك الراهبات وأخذت تقرأ في كتاب أجنبي سميك وكان من بين الزملاء في الرحلة إحدى السيدات المصريات وهي مخرجة في التلفزيون المصري أذكر اسمها وهو سهام كانت تحب النكتة اسوة بغالبية المصريين المشهورين بذلك. قالت سهام متسائلة: يا ترى يا خالد ماذا تقرأ هذه الراهبة خاصة وانت متخرّج من دراسة اللغة الانجليزية. سرقت النظر إلى الكتاب الذي بحوزتها، وهي كما قلت كانت تجلس بجانبي وحاولت القراءة لكنني اكتشفت أن الكتاب بلغة غير الإنجليزية غير أنني استطعت أن أميز بعض الكلمات، التي على ما يبدو أنه كتاب قديم باللغة اللاتينية القديمة، مثل اسم يعقوب (Jacob)، قلت للسيدة سهام وعلى مسمع طبعاً من الراهبة: يبدو أن الكتاب باللاتينية القديمة، وربما هو كتاب مقدس، ولكن النكتة المصرية يجب أن تأخذ مكانها خاصة وان الراهبة مكشوفة الذراعين وانا كذلك. فقالت سهام ضع يدك إلى جانب يدها لنرى الفرق باللون بين اللون العربي واللون الأجنبي! وإيه رايك تتجوزها يا خالد وتحولّها عن دينها، ضحكنا جميعا وبقي الحال على ما هو إلى أن وصلنا ميناء الإسكندرية وهمّ الجميع بتجهيز نفسه للنزول، وكانت المفاجأة لنا جميعا وهي أن الراهبة الأجنبية جاءت من تستعجلها للنزول وتخاطبها باللغة العربية وهي بدورها تجيبها بالعربية! فأسقط بيد سهام وأخفت وجهها بيديها وهي تقول: يا لهوي! أودّي وشي منها فين؟
الغريب أن الراهبة لم يظهر عليها أثناء الرحلة أي ردّ فعل يشير أنها تفهم ما نقول وبقيت هادئة ولم تنبس ببنت شفة! طوال الرحلة، ويبدو أنها كانت مرتاحة لحوارنا!
كانت الرحلة صعبة وشاقة، ولكنها أيضاً كانت ممتعة زادت من خبرتي ومعرفتي بأشياء جديدة لم أكن أعرفها وشاهدت ما كنت أسمع به من بعيد.
عدت إلى القاهرة، إلى الإذاعة فاستقبلني الأخ أبو صخر فؤاد ياسين (مسؤول الإذاعة) وجميع الزملاء بالترحاب ورويت لهم ما واجهته في هذه الرحلة.

· الى صنعاء:
بعد النصر الكبير الذي تحقق للأمة العربية في حرب أكتوبر (حرب رمضان ) العام 1973م استدعيت لإنشاء محطة إذاعية لنا في صنعاء فقد أبلغني الأستاذ فؤاد ياسين (أبو صخر) أن الأخوة في اليمن الشمالي على استعداد لاعطائنا موجات إذاعتهم يوميا لنذيع من خلالها باسم الثورة الفلسطينية وكان مدير مكتبنا هناك المرحوم فاروق أبو الرب ( أبو حسان) وكنت خارجا لتوّي من عملية جراحية كبيرة لاستئصال حصيات من الكلية، وتحت إلحاح كبير واتصالات متتالية من قبل الأخ أبو حسان، اضطررت للسفر إلى صنعاء رغم عدم التئام جراح العملية، وفوجئت أن اليمن الذي يقوده في ذلك الوقت مجلس للقيادة برئاسة القاضي عبد الرحمن الأرياني قد تركت لنا كل موجات إذاعتهم المتوسطة والقصيرة لنبث من خلالها وتتوقف الإذاعة اليمنية كليا، ولأول مرة يصل صوتنا أنحاء الجزيرة العربية كلها في ذلك الوقت الذي كان فية المد الثوري في المنطقة مشتعلا. فهناك اليمن الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية)، وثورة ظفار في سلطنة عمان المدعومة من فصائل الثورة الفلسطينية، وكانت العلاقة بيننا وبين النظامين في المملكة والسلطنة وكذلك الأردن في تلك الفترة سلبية. وكنت وحيدا في إذاعتنا هناك، أكتب كل شي وأذيع ما أكتب مستخدما بعض حلقات برامجنا في القاهرة مثل كلمات إلى فلسطين وأناشيد الثورة والوطن، كان الاتصال الهاتفي من صنعاء بإذاعتنا المركزية في القاهرة صعبا فلم أستطع أن استلم الخط الإعلامي اليومي من هناك لذلك اعتمدت على ما تنشرة وكالة سبأ اليمنية التي كانت تنشر ما يذاع وما لا يذاع كنشرة محدودة التوزيع. ولم نكن في ذلك التاريخ دبلوماسيين بمعنى أن نراعي ظروف البلد السياسية. فتحت النار من خلال الأخبار ومن خلال التعليقات السياسية على كل من الأنظمة في الأردن والسعودية وسلطنة عمان من خلال التأييد الكامل لثورة ظفار وبث اخبارهم. لم ينتبه أحد من المسؤولين اليمنيين لما أذيع إلا بعد أن راجعهم سفراء تلك الدول بهذا الخصوص. عندها استدعاني وزير الإعلام اليمني طالبا الرقابة على ما أذيع، رفضت ذلك بشدة بحجة أن ما أقوم بإذاعته هو باسم الثورة الفلسطينية لا تتحملون أنتم مسؤوليته. أما إذا اردتم الرقابة فلتغلقوا الإذاعة! وانسحبت احتجاجا. كانت لي علاقة جيدة بالمرحوم عبد الله الأحمر رئيس مجلس الشورى اليمني في ذلك الوقت ونائبه. وكان النائب من الوطنيين والقوميين العرب وهو الذي أصر عليّ أن تبقى الإذاعة عاملة حتى ولو بالأناشيد فقط، فان أناشيدكم نفسها- كما قال- هي تعليق سياسي بحد ذاته، هنا تركتني الحكومة أن اقول ما أريد دون رقابة، ولكن على أن أسجل برنامجنا الإذاعي كاملا وليس على الهواء مباشرة. وبذلك استطاعوا أن يعملوا المقص الرقابي ويقصوا من الشريط الإذاعي الكلام غير المرغوب فيه! وكان ذلك بالنسبة لمهندسي البث الإذاعي عملا مرهقا. فرجوني ألا أتعبهم. راجعت نفسي فعلا خاصة وأن وزارة الإعلام اليمنية أوقفت إرسال وكالة سبأ، التي كنت أعتمد على أخبارها، لي!

لم أغير اسلوبي غير الدبلوماسي حتى عندما ألقيت كلمة الثورة الفلسطينية في ذكرى عيد الثورة اليمنية في الاحتفال الكبير بتلك المناسبة بحضور الوفود والسفراء العرب وكان من الحاضرين وفد عسكري أردني كبير خبير بالتدريب العسكري، والسفير السعودي وهو من عائلة السديري المتصاهرة مع آل سعود. وكانت كلمتي تتحدث عن المقارنة بين الثورة اليمنية والثورة الفلسطينية اللتين تعرضتا للطعن من الظهر، دون أن أفصّل مباشرة ولكن كان واضحا أنني أقصد بالنسبة لنا الأردن في أيلول السبعيني، والسعودية التي دعمت الامام البدر. وإذ بالوفد الأردني كله ينسحب ما لفت الانتباه بسبب عددهم الكبير، أما السفير السعودي الذي كان جالسا في الصف الأمامي مع رئيس وزراء اليمن في ذلك الوقت الأستاذ محسن العيني، فبقي جالسا متجهما والعيني يتململ فوق مقعده (وأنا ولا على بالي) لكن لاحظت أن عضوين من مجلس القيادة التي تتولى الحكم باليمن بعد الإطاحة بالرئيس القاضي الأرياني، كانا فرحين بما أقول وشدّا على يدي بعد الانتهاء من كلمتي، أما رئيس الوزراء محسن العيني فقال لي لقد سببت لنا أزمة مع الأردن والسعودية، وهذا لا يجوز.
وجاء يوم العرض العسكري بهذه المناسبة وكان النظام الجديد في اليمن برئاسة المقدم إبراهيم الحمدي قد دعا وفدا عسكريا فلسطينيا للمشاركة في الاحتفال، وكان الوفد برئاسة الشهيد سعد صايل (أبو الوليد) ومعه اثنان أحدهما الشهيد عزمي الزغير. تأخر حضور وفدنا الذي وصل أثناء العرض العسكري، وطلبت من مذيع العرض أن يعلن وصول وفدنا إلى ساحة العرض ما لفت انتباه جميع الوفود المشاركة في الاحتفال، وكان خلفي على منصة الضيوف السفير الأردني وهو جنرال شيشاني اسمه حيدر مصطفى لم يكن حاضرا في اليوم السابق الذي ألقيت فيه كلمتي في هذه المناسبة ولم يعلم بما قلت وانسحاب الوفد العسكري الأردني فسألني عن اسم رئيس الوفد طبعا هو يعرفه فهو من زملائه في الجيش قبل أن يلتحق بالثورة. فقال: هذا صاير ختيار!

كعادة الدول في مثل هذه المناسبات تقيم الدولة في المساء حفل استقبال رسمي لكل الوفود المشاركة والمهنئة بحضور رئيس الدولة وكبار المسؤولين ورؤساء الوفود الزائرة والوفود.
وكنت في الصباح والشهيد عزمي قد حضرنا احتفالا خاصا أقامته للوفد قوات العاصفة في الجيش اليمني والاسم هنا له دلالته حيث أن قواتنا في حركة فتح اسمها قوات العاصفة، ولم يحضر الأخ أبو الوليد هذا الاحتفال. وقائد هذه القوات هو أحد عضوي مجلس القيادة الذي شد على يديّ بعد القاء كلمتي في اليوم السابق. ولقد كان استقبالنا في هذه القوات كاستقبال رؤساء الدول! ما أربك الشهيد عزمي من فخامة الاستقبال. وقد استعرضنا مع قائد هذه القوات عرضها العسكري من على المنصة الرئيسية حيث ارتجلتُ كلمة أمام هذا الحشد العسكري الرائع.
أما حفل الاستقبال فقد كان على رأس مستقبلي الوفود الرئيس الحمدي ورئيس وزرائه الأستاذ العيني. وأثناء حفل الاستقبال وكنت أقف إلى جانب مدير مكتب الرئيس إذا بالسفير الأردني يتقدم منا بعد أن أخبره الوفد العسكري الأردني عن كلمتي في الاحتفال في اليوم السابق رافعا صوته وكان صوته جهوريا مستنكرا ومهاجما لما قلت، وتركته يفرغ ما في جعبته على مسمع من مدير مكتب الرئيس الذي يقف معي وأعتقد جازما أن الرئيس إبراهيم الحمدي سمع صراخه. طلب مني مدير مكتب الرئيس ألا أرد، وأخبرني أنه سيوضح الصورة لرئيسه. وفعلا تم في اليوم التالي استدعاء السفير حيدر مصطفى حيث أبلغه الحمدي امتعاضه وأن موقف اليمن هو مع موقف الثورة الفلسطينية (واللي مش عاجبه يروَح). كان موقفا جريئا من المقدم الحمدي تجاهنا (كنا في تلك الفترة في معركة مع الأردن حول الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني). وكنت بدأت علاقة معه بعد إطاحته بالرئيس القاضي الأرياني بانقلاب أبيض ليس هناك مجال للحديث عنه، والتقيناه مرة بصحبة مدير مكتب منظمة التحرير الأخ فاروق أبو الرب حيث طلب منا أن يرى السلاح الذي كان له الأثر الكبير في معركة الكرامة ومن ثم في حرب أكتوبر وهو (الآر بي جي)، وطلب شيئا بسيطا وهو سارية (نيكل) ليضعها على سيارته التويوتا العسكرية لوضع العلم عليها. وقد تم ذلك من خلال الشهيد أبو جهاد رحمه الله.
مكثت سنة كاملة في صنعاء طُلب مني خلالها أن أنظم عمل وزارة الإعلام اليمنية! وأُخلي لي مكتب وكيل الوزارة لأداوم رسميا فيه! أسقط في يدي، كنت بالنسبة للحكومة اليمنية شيء كبير! وأنا العنصر الصغير في الإعلام الفلسطيني فسارعت أطلب النجدة من أستاذي فؤاد ياسين الذي وصلني بعد أسبوع حيث أنقذني من هذا المأزق، ووضع لهم خطة لتساعدهم في عمل وزارة الإعلام وغادرنا عائدا إلى القاهرة. وكنت بالإضافة إلى العمل الإذاعي اليومي قد حصلت على صحيفة يومية باسم الثورة الفلسطينية داخل صحيفة الثورة اليمنية وكنت احررها وحدي أيضا، ما سبّب لي ارهاقا كبيرا، حيث أن العمل في الصحيفة كان يستمر أحيانا حتى ما بعد الثالثة فجرا. وكنت اسكن في مكتب المنظمة ما يستدعي ضرورة استيقاظي قبل السابعة صباحا. المهم إنها كانت تجربة عظيمة غادرت بعدها إلى دمشق حيث عملت تحت قيادة الراحل أبو السعيد (خالد الحسن) في إصدار التعميم الحركي في التعبئة والتنظيم، وتلك تجربة أخرى. تسلم الإذاعة في صنعاء بعدي الأخوان محمد الدرهللي والمرحوم عصام عنان.

· درعا:
كان قرار القيادة بعد خروجنا من الأردن تحت مظلة الجامعة العربية (الباهي الأدغم) إنشاء محطة إذاعة قريبة ليصل إرسالها إلى الأرض المحتلة.. واستقّر القرار على مدينة درعا – جنوب سوريا على الحدود الاردنية. كلف أيضا الأخ أبو صخر بإنشائها.. وكان من المقرر عند خروجها من الأردن أن نتجه فورا إلى درعا، ولكن الاجهزة لم تكن قد وصلت بعد، وتم شراء منزل هناك ليكون مقرا للإذاعة إلى أن تم إحضار الأجهزة، حيث تم شراء جهاز فليبس من هولندا عن طريق الأخ أبو جهاد ثم بعدها وصلت هدية أصدقائنا من الصين الشعبية، حيث دخلت الأجهزة إلى سوريا مع طاقمها الهندسي وبذلك استغرق العمل فيها عدة أشهر حيث انطلقت في بداية العام 1971م.
وفي تلك الفترة ذهبت إلى القاهرة لاستكمال دراستي الجامعية. حيث لم يبقى على التخرج إلا اجتياز مادة واحدة.
بعد أن اطمأن الأخ أبو صخر على انطلاقة الإذاعة في درعا سلم مهمة إدارتها للأخ أحمد عبد الرحمن الذي ثبّت الأخ يحيى العمري للعيش هناك بشكل دائم واستقطب عددا من الزملاء اليساريين من التنظيمات والأحزاب الصديقة مثل خالد العراقي القادم من الحزب الشيوعي العراقي ومحمد سليمان (أبو إبراهيم) وهاني الزعبي الفتحاويان، وراسم المدهون من الديمقراطية وعدد من العسكريين الفتحاويين امثال سامي سرحان ونمر اسماعيل بالإضافة إلى التوجيه السياسي مثل الأخ أبو نائل/ عبد الفتاح القلقيلي والمذيعين الأخ عطية شعث والأخ زعل أبو رقطي.
تم الاتفاق على أن يذهب عدد من المذيعين في القاهرة إلى الإذاعة في درعا بالتناوب فكان الأخ نبيل عمرو يذهب إلى هنالك وعند عودته يذهب عبد المجيد فرعوني أو الطيب أو خالد وهكذا.
وعندما كان الأخ أحمد عبد الرحمن يغادر إلى الشام أو إلى القاهرة يكلف أحدنا بتولي المسؤولية شفويا دون علم الآخرين ويكلف آخر بكتابة التعليق السياسي دون علم المعلقين.. ففي إحدى المرات كلفني بالمسؤولية ويبدو أنه كلف اثنين من الزملاء بكتابة التعليق.. فقد كلف خالد العراقي وايضا هاني الزعبي.. وعرضت المادة المكتوبة عليّ كمسؤول للإذاعة فأقررت ما كتبه خالد العراقي الشيوعي، ولكن هذا ليس له علاقة بالتدين وانا من قرأ التعليق يومها على الهواء.
كانت علاقتنا حميمة خاصة وأننا نسكن معا في مبنى الإذاعة نفسه.. وهو مبنى أرضي على شكل فيلا وأمامها قطعة أرض صغيرة كان الأخ يحيى العمري يهتم بزراعتها ما يفيدنا كالفجل والبصل والنعناع والزعتر والرشاد بالإضافة إلى الزهور الجميلة وكنا أيضا نأكل سويا.. حيث لنا تمويننا كسائر القوات والقواعد الفدائية ونحن نتولى الحراسة في الليل والإذاعة في النهار.
كما كان يعجني خط الأستاذ فؤاد في بداية الإذاعة في القاهرة فقد أعجبني أيضا في درعا خط الأخ سامي سرحان القادم من القواعد العسكرية في القوات والقادم أصلا من مكان دراسته في يوغوسلافيا.
كان هو والأخ نمر يجهزان نشرة الاخبار في الليل ويكتبها سامي بخط يده الجميل.. وفي الصباح أسحبها من تحت مخدته وهو نائم لاذاعتها في نشرة الصباح الباكر.
جو درعا كجو فلسطين وجو الأردن خاصة وأن أرضها الحمراء الزراعية تعطي رائحة الأرض المعطاءة في الشتاء.. أحببت درعا وأحببت كادرها رغم اختلاف تياراته السياسية ولكن ارتباطي الأكثر كان مع الأخ يحيى العمري الذي زاملني في الخلية الأولى للإذاعة في القاهرة والذي تعرفت عليه قبل ذلك عندما دخلت القاهرة للمرة الأولى، ودون معرفة سابقة كانت مساعدته لي مساعدة هامة حيث التقيته صدفة وأخبرته أنني قادم من عمان للدراسة في مصر ومعي عنوان لأذهب إليه فحمل معي حقيبة السفر الكبيرة وأنزلني في فندق في حي الأزهر، ريثما التقيت أصدقائي وسلمني لهم سالما معافاً.. وتشاء الصدف بل مشيئة الله أن التحق بجامعة الأزهر بعد عدة سنوات بمساعدة صديقي الأخ صديق السيد وألتقي يحيى مرة أخرى في مدينة البعوث الإسلامية التابعة لجامعة الأزهر التي حدثتكم عنها في السابق.
مكثت في درعا فترة لا بأس بها وحيث الأخ أحمد عبد الرحمن يريد كادرا مستقرا ومقيما وليس زائرا كما كنا نفعل اتجه للعمل على تزويجنا من هناك حتى نستقر ولكنني تحججت باستكمال دراستي في القاهرة.. واختار يحيى زوجة له واستقر هناك في درعا فكان الثابت الوحيد من المذيعين في درعا وكان بيته بيت الكرم لنا جميعا نحن الزوار واعتقد أنه هو أو أحمد عبد الرحمن القادر على الكتابة عن تجربة الإذاعة في درعا.
كان جيران الإذاعة حولنا يغمروننا بمحبتهم وعطفهم وكرمهم ونتبادل الزيارات باستمرار وكان بعضهم من العاملين في أجهزة الاستخبارات السورية، إلى أن جاء يوم في العام 1973م، حيث كان الرئيس الراحل أنور السادات دائم الإعلان عن ضرورة ازالة آثار العدوان وأنه مصمم على ذلك وكل مرة كان يحتج بوجود الضباب! حتى أصبح نكتة على لسان المصريين قبل غيرهم.
وفي تلك الأثناء عقد مؤتمر ثلاثي ضم السادات والملك حسين وحافظ الأسد في سوريا.. يومها هاجمنا المؤتمر من خلال إذاعتنا في درعا أي من قلب سوريا كما فعلنا في القاهرة عندما هاجمنا مشروع روجرز وكان هناك انشودة تتحدث عن ذلك تقول (لا المؤتمرات الدولية ولا الاجتماعات الرباعية والثلاثية تحني ثورتنا الشعبية). الخ... ونشيد (مؤامرة.. لتسقط المؤامرة).. يومها كان يجب أن أغادر القاهرة وفعلا غادرت في الوقت الذي اقتحمت فيه مخابرات الأسد مقر الإذاعة واعتقلت جميع الكادر ونجوت من ذلك بأعجوبة وبإرادة الله سبحانه، حطموا الإذاعة وأجهزتها واستولوا على كل شيء فيها بما فيه ملابسنا وطعامنا! حيث كانت والدتي قد أحضرت معها من عمان عند زيارتها مع أهلي لنا في درعا في تلك الفترة بعض الخزين الذي يعتاد عليه الفلسطينيون مثل الجبنة النابلسية واللبنة الجامدة والزعتر وغيرها! وبعد تدخلات كثيرة تم إطلاق سراح كادر الإذاعة ولم نعد لها حتى الآن.
في تلك الفترة بدت معالم تشكيل الإعلام الفلسطيني الموحد في بيروت حيث استلم المرحوم حنا مقبل رئاسة تحرير فلسطين الثورة ونائبه غانم زريقات ثم تسلمها أحمد عبد الرحمن ومعظم كادر الإذاعة في درعا.. وكان زياد عبد الفتاح ما زال على رأس عمله في وكالة "وفا" يساعده المرحوم سليمان أبو جاموس وسامي سرحان ورأس الإعلام الموحد الشهيد ماجد أبو شرار.

عندما تخرجت وحصلت على الشهادة الجامعية الأولى من كلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر والتي تسمى الشهادة العالمية في العام 1971م، أصر الأخ أبو صخر على أن احصل على مخصص شهري كزملائي في الإذاعة، حيث كنت متبرعا رافضا الحصول على راتب شهري منذ التحاقي في الإذاعة في عام 1968م، حيث كنت أعتمد على ما يرسله لي والدي -رحمه الله- أثناء دراستي.
وكنت أنوي الاستقرار في درعا ومن ثم الزواج وكان شرطي في رفيقة الدرب أن تكون فلسطينية ومحجبة، فالفلسطينية تقدر الظرف الذي نعيشه فهي ابنة القضية، والمحجبة بسبب تربيتي الدينية وإيماني بأن المحجبة ستساعد في إنشاء جيل أخلاقي متدين، حيث رسولنا الكريم _ صل الله عليه وسلم_ قدوتنا الذي قال فيه سبحانه وتعالى " وإنك لعلى خلق عظيم".
لكن إغلاق الإذاعة في درعا والتحاقي بالدراسات العليا في جامعة القاهرة التي تخرجت منها في العام 1973م ثم حرب اكتوبر عام 1973 وتكليفي بافتتاح إذاعة لنا في صنعاء، وفي تلك الفترة أجلت مشروعي الذي عاودت البحث من أجل اتمامه عندما تركت صنعاء نهاية العام 1974 والتحقت بمكتب التعبئة والتنظيم في دمشق مساعدا للمرحوم القائد أبو السعيد (خالد الحسن) في إصدار التعميم الحركي، ولكن ما لبث النظام السوري أن تدخل ضدنا في لبنان في العام 1976م فقررت العودة إلى بيروت برغم كل المخاطر في تلك الفترة، والالتحاق بالإذاعة هناك من جديد وكانت مغامرة كتب عنها يومها الصديق والزميل يحيى رباح، حيث التحقت فورا بالإذاعة وساعدت في كشف كذب نظام حافظ الأسد الذي كان يدّعي أنه وقواته في لبنان من اجل الدفاع عن الثورة الفلسطينية في حين كان يقصف قواتنا ويحاصر تل الزعتر ويساعد الانعزاليين.
وبذلك أُغلقت سوريا امامي ولم أعد أستطيع العودة اليها للاستقرار هناك كما كنت اخطط أنا وأخي أبو جميل الذي بقي فيها وتزوج هناك واعتقل خلال فترة الانشقاق لكنه استطاع الإفلات فيما بعد.
لذلك لم يعد أمامي إلا البقاء في بيروت وهذا ما أسعد القيادة وأسعد أخي نبيل عمرو الذي طلب أن أكون نائبا لمدير الإذاعة هناك.
ومن ذكريات الإذاعة في درعا أنه في يوم شديد المطر وصلت من القاهرة إلى دمشق في طريقي إلى درعا حيث الإذاعة.. أوصلتني السيارة إلى مكان لم تستطع الاستمرار فيه بسبب غزارة المطر وخوفا من أن (تغرز) السيارة في الطين. فحملت حقيبتي الثقيلة على رأسي أولا لتحميني من المطر وثانيا لأخوض بسهولة الأرض الموحلة التي تقودني إلى الإذاعة، ما زاد في غوصي في الوحل وامتلاء حذائي بكمية ثقيلة من الطين الأحمر فزادت من صعوبة تحركي إلى أن وصلت الإذاعة بسلام وثيابي تعصر ماءً.
استقبلني الزملاء استقبالا حارا وأخذوا عني حملي الثقيل وخلعت الحذاء المليء بالطين وفوجئت بخبراء صينيين داخل الإذاعة حيّوني بحرارة ودخلت الاستوديو فورا، وعلى الهواء مباشرة أذيع بعض المنطلقات الثورية والتعليقات السياسية قبل أن أشم نفسي كما يقال. وهذا ما أبهر الرفاق الصينيين الذي تعجبوا من هذا الفلسطيني القادم من مطار القاهرة إلى مطار دمشق إلى درعا ويباشر العمل دون أن يستريح، لذلك قرروا الاحتفال بي بدعوتي على الغذاء في اليوم التالي. وهولاء هم المهندسون الذين جاءوا بجهاز الإرسال لإذاعتنا هدية من أصدقائنا حكومة وشعب الصين الشعبية لتركيبه وتشغيله قبل أن يغادرونا.
كانت حواراتنا لا تخلو من الفكاهة فنطقهم للكلمات العربية التي يتعلمونها منا كانت تثير ضحكاتنا فمثلا عندما يريدون أن ينطقوا اسم "خالد" يضيفون اليه أحرفا أخرى لا يستطيعون منعها! فيصبح اسمي عند نطقه بلسانهم "خلنتة" أو "خالنتة"، قبل حفل الغداء حذرني أخي الروحي وزميلي يحيى العمري من الشوربة، نعم الشوربة الصينية حيث أن إكرام الضيف بالنسبة لهم هو تقديم طبق الحساء من " الدرعن" الدود الصغير الأبيض الذي يربونه في الطحين.. أي الطحين المدرعن، وكانت هناك ملاحظة لدى الأخوة في الإذاعة أن الكلاب المنتشرة حولنا في تلك المنطقة بدأت تقل وتختفي رغم كثرتها.. والسبب أن لحم الكلاب طبق شهي بالنسبة لهم ويباع في أسواقهم كباقي أنواع اللحوم...!
ومن النوادر الجميلة التي أعتز بها في درعا أننا كنا نتناوب الحراسة حول الإذاعة في الليل. مرة أوقفت سيارة كانت تمر خلف الإذاعة للتأكد من هويتها وركابها وكم كانت المفاجأة جميلة أنها سيارة فدائية تحمل أفراد من قواتنا كدورية ليلية، أسعدهم أن يكون الذي أوقفهم إذاعي يقوم بعملهم ما عزز محبة وثقة القوات بكادر الإذاعة الذي لم يكن يخلو من زياراتهم وولائمهم لنا في قواعدهم.
ذات مرة كلف الأخ أحمد عبد الرحمن واحدا من الأخوة بإدارة الإذاعة أثناء غيابه ويبدو أنه كلف آخر دون علمه فحصلت مشادة في غيابه اضطرت الدائرة العسكرية التي كان يرأسها المرحوم أبو هشام المزيّن المعروف بفتى الثورة والذي شارك في انطلاقة الإذاعة في العام 1968 بقصائده الثورية، كما ذكرت سابقا اضطر أن يضع مسؤولا من طرفه للإذاعة لحين حل الإشكال وعودة الأخ أحمد وكان ذلك المسؤول الشاعر المقاتل والذي عمل معنا في فترة لاحقة في الإذاعة في القاهرة وقدم بعض الأناشيد مثل( جفرا ويا هالربع شعب وفدائية) المكنى أبا زيد وهو الدكتور فيما بعد عبد البديع عراق بالرغم من اعتراض الكادر في ذلك الوقت واعتبروه ذلك تدخلا عسكريا..!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار   تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Emptyالجمعة 02 فبراير 2024, 8:51 pm

الحلقة الرابعة: أيام.. كلام .. وخُطا (رحلتّي)
كلفني موقفي من النظام السوري الاستقرار في بيروت. تلك المدينة التي لم أكن أحبها وأنا طفل رغم عدم زيارتي مسبقا لها.. ولكن كرهتها بسبب ما كنت أراه في مجلاتها التي تتحدث وتصور المجتمع هناك بما فيه من تحرر وعري!
ولكن كانت مشيئة الله أن أذهب لهذه المدينة وأن أحبها وأحب أهلها الذين وقفوا مع الثورة الفلسطينية في مواجهة الانعزاليين ومؤيدهم نظام حافظ الأسد، وان أتزوج هناك.
لقد أكبر الأخ أبو عمار والأخ أبو جهاد والأخ ماجد أبو شرار وكادر الإعلام الموحد، وكتب عني يومها الأخ يحيى رباح بعنوان خالد يأتي ماشيا من دمشق إلى بيروت. حضوري إلى بيروت في هذا الوقت بالذات فسكنت مع الشباب في مبنى الإذاعة.. حيث كان الاستوديو في الطابق الأول والمنامة في الطابق الثاني.. وكانت تمضي الأيام لا أخرج فيها إلى الشارع.. حيث كان تنقّلي ما بين الطابق الأول والطابق الثاني.
كانت الإذاعة في البداية بقيادة الأخ الطيب الذي سرعان ما عين سفيرا في الصين الشعبية تسلمها بعده الأخ نبيل.. وكان من طاقم الإذاعة الأخ طاهر العدوان، وكان كاتبا ومعلقا سياسيا كبيرا، وبلال شرارة وهو لبناني وهادي دانيال وهو سوري، واسمه محمود السربيوني والشاعر الأردني أمجد ناصر، وكان يتردد على الإذاعة بين الفينة والأخرى الكثيرون من القيادات الفلسطينية والحزبية اللبنانية يشاركوننا الكتابة ضد الانعزاليين وضد نظام حافظ الأسد، منهم صالح القلاب ورشاد أبو شاور والشاعر الكبير معين بسيسو وشاعر الثورة محمود درويش والقيادات الهامة وعلى رأسها الأخ أبو عمار والأخ أبو جهاد والأخ ماجد أبو شرار وكانت تضم عددا من الاصوات الهامة كالأخ محمد أبو زهرة والأخ عبدالله بهيج ومحمد الدرهللي، ويوسف القزاز وفيما بعد الأخت إيمان والأخت أمل والأخت أسماء الجراح، والأخت نعم فارس وكانت كلها من الأصوات الرائعة التي تنافس أكبر مذيعي ومذيعات الدول العربية بالرغم من عدم ذكر أسمائنا.
لم أكن أخطط للبقاء في بيروت، وكان هدفي أن أشارك في معاونة زملائي المذيعين الذين أحسست من خلال متابعتي لهم وأنا في دمشق أنهم مرهقون، وأيضا لأكشف كذب وادعاءات نظام حافظ الأسد حول حماية الثورة الفلسطينية، ثم أعود إلى عملي في التعبئة والتنظيم في دمشق، حيث كنت انوي الاستقرار والزواج هناك حيث يعمل أخي نافذ في جهاز الغربي مع الأخ أبو جهاد والأخ أبو الوليد- رحمهما الله-.
ولكن لم تسر السفن كما كنت اشتهي، حيث زارنا الأخ (أبو زياد) عز الدين الشريف أحد مسؤولي الغربي في دمشق وأعلمني أن اسمي موجود على الحدود وحذرني من العودة إلى دمشق حيث الاعتقال، على الأقل، هو مصيري.
وأسقط في يدي فليس أمامي إلا البقاء في بيروت وهذا ما أثلج صدر أخي نبيل مسؤول الإذاعة الذي كان يحاول بشتى الطرق إقناعي في البقاء فسارع بإحضار قرار تعييني نائبا لمسؤول الإذاعة.
كانت الإذاعة في بيروت مصدر إزعاج وقلق كبيرين لنظام حافظ الأسد.. حيث كانت تكشف أكاذيب النظام وادعاءاته بحماية الثورة في الوقت الذي يقوم بتصفيتها كما حدث في مخيم تل الزعتر وغيره، لذلك هدد بقصف الإذاعة بالطائرات وراجمات الصواريخ، وخوفا منا على جماهيرنا اللبنانية التي تسكن حولنا وبناء على تعليمات مدير العمليات المركزية الشهيد أبو الوليد (سعد صايل) والأخ القائد الرمز أبو جهاد تم نقل بث الإذاعة من بيروت إلى الجنوب اللبناني، وكنا نسافر يوميا حاملين معنا الأجهزة والأشرطة المسجلة والأناشيد الثورية.. وكانت تجابهنا في بعض الأحيان ازدحامات الطرق فنصل متأخرين عن موعد البث وأحيانا كان القائد الرمز أبو جهاد يغطي هذا التأخير من عنده فيكون هو المعلق وهو المذيع. وحصل يوما أن تصادمت سيارة الإذاعة، وكان بها الأخ أحمد حماد الذي كنا ننادية بالضابط، مع سيارة أخرى حيث جرح أحمد والسائق ولكن الله لطف ولم تتوقف الإذاعة عن البث.
وفي إحدى الليالي كنت والأخ مهندس الصوت أبو زهير/ هشام السعدي في استوديو الإذاعة في الجنوب، وإذ بصبية بملابس الفدائيين العسكرية تدخل علينا وكانت تعرف الأخ أبو زهير الذي عرفني بها وقال إنها الأخت دلال المغربي التي كان الأخ أبو جهاد يجهزها لعملية كبيرة ويبدو أن موعد العملية كان تلك الليلة، وعندما علمت بأني المذيع أصرت على أن تسمع صوتي من خلال الميكروفون مباشرة، وكان لها ما أرادت وكم كانت سعادتها عندما رأت صاحب الصوت الذي تسمعه يوميا.. كانت فرحتها كفرحة طفل حصل لتوّه على هديته! رحمها الله وزملاءها رحمة واسعة، حيث أسست هي ومجموعتها أول جمهورية فلسطينية لعدة ساعات داخل الوطن المحتل عام 1948، واستشهدت هنالك وتفاصيل قصتها يعرفها ويفخر بها كل فلسطيني.
كانت بيروت في تلك الأثناء تزخر بالإذاعات المحلية الثورية والانعزاليية.. فهناك بالإضافة إلى إذاعتنا إذاعة المرابطون وتتبع الأخوة الناصريين بقيادة إبراهيم قليلات، وإذاعة الشغلية، وإذاعة الانعزاليين (الكتائب) وإذاعة الأحدب وجيش لبنان العربي، وإذاعة بيروت الرسمية وغيرها وكانت الحملات الإعلامية بينها على أشدها ناهيك عن المعارك الحربية على مختلف المحاور.
أذكر على سبيل المثال أن إذاعة الكتائب كان لها أسلوب تهكمي ضدنا وضد الحركة الوطنية اللبنانية خاصة ضد رموزها وقياداتها تقول: أن القيادات العميلة للفلسطيني تحمل أسماء على شاكلتها أمثال: الحاوي والشاوي والواوي! والمعروف أن المرحوم جورج حاوي كان من قيادات الحزب الشيوعي اللبناني المنضوي تحت القيادة المشتركة للحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية.
ومن نوادر تلك الإذاعة انني كنت أقرأ نشرة أخبار الصباح وكان صباحا ماطرا وباردا ومن ضمن تلك الاخبار الخبر الرئيسي حول رسالة تهنئة من الأخ أبو عمار للبطريرك الماروني، المعوشي، أو صفير، لا أذكر بمناسبة السنة الجديدة، وحاولت أن اهتم بقراءة الخبر.. إلا أنني لم أستطع أن الفظ كلمة (البطريرك) المعوشي، وخرجت على الهواء متقطعة البط بط.. البط بط إلى أن اختصرتها بالبطرق ولم نسلم من إذاعة الكتائب طيلة ذلك اليوم! بل اعتبرت هذا الخلل اللفظي بالمقصود.!
كان لإذاعتنا في بيروت الدور الكبير في زعزعة نظام حافظ الأسد لدرجة أن عبد الحليم خدام أحد أركان النظام في ذلك الوقت كان يعبر عن ذلك بقوله إن لعرفات ماكينة إعلام رهيبة طبعا كان يقصد بالإضافة إلى الإذاعة جريدة فلسطين الثورة ووكالة وفا.

تدخلت الجامعة العربية لوقف القتال في لبنان وتم الاتفاق على تسمية القوات السورية التي دخلت لبنان لقتالنا ودعم الانعزاليين بقوات الردع العربية.. إلى أن تم التصالح مع النظام السوري وجرى (التحالف الاستراتيجي) معه إلا أن عودتي إلى الشام ما زالت كما هي!
قررت الاستقرار في لبنان والزواج هناك وكان للشهيد ماجد أبو شرار الدور الهام في مساعدتي بذلك قائلا اختر عروسك وعليّ الشقة.. وكان رحمه الله مسؤول الإعلام الموحد في تلك الفترة.
وبر بوعده حيث قادني القدر إلى أسرة كريمة من عائلة يافاوية معروفة وهي عائلة (البيبي) ما أن ذكرتها لوالدي -رحمه الله- فعرفها وبارك اختياري الموفق.. وما أن علم عمي(حماي) رحمه الله اسم عائلتي حتى وافق على تزويجي من ابنته.. وبذلك كان لي الاستقرار في بيروت التي عشت فيها أكثر من سبع سنوات رزقت خلالها بثلاث بنات.
احترت أين يكون عرسي.. حيث أن صالات الأفراح في بيروت، والتي كانت تسمى بالخلية، تحتاج إلى ميزانية ثانية غير متوفرة فجاء اقتراح الصديق صالح القلاب ومحمود النوايسة وقيادة رابطة الطلاب الأردنيين في لبنان أن يكون العرس في مقر الرابطة دون مقابل، شرط أن أتكفل بالزينة ومتطلبات الضيافة، وتكفّلت فرقة موسيقى الثورة (القرب) بعزف الأناشيد والموسيقى وتكفل أخي جمال نصار (جمال الفيديو) بالتصوير وسيارة الإذاعة بالزفة.. وكان على رأس المحتفلين بزفافي الشهيد ماجد أبو شرار، وكادر الإذاعة على رأسهم أخي نبيل، وفلسطين الثورة، ووكالة وفا، وقسم السينما والتصوير.
طبعا حضر الأهل من عمان وكان عددهم كبيرا بعضهم نزل في أحد الفنادق، واستضاف أخي نبيل عددا من أخواتي في منزله وهو جميل لا أنساه له أبدا.
وحسب العادة قدم لي عمي والد زوجتي هدية العرس من ضمنها قطعة قماش لتكون بدلة العرس ولكن تفصيلها مكلف، فتوسط أخي صالح القلاب لدى خياط بيروتي لتفصيلها بأجرة مخفضة وقد كان وما زلت أحتفظ بها للذكرى.
أذكر هذا لأدلل على مدى الترابط الأسري الذي كان يجمعنا في الإذاعة.. وعلى التماسك الفلسطيني الأردني من خلال رابطة الطلاب الأردنيين برئاسة صالح القلاب ومن خلال الأخت سلوى العمد والصديق طاهر العدوان.
وكان للأخ طاهر موقف لا أنساه عقب قصف الطيران الاسرائيلي للشقة التي كنت أسكنها قرب المدينة الرياضة في بيروت.. فبالرغم من الوجود المكثف للطيران المقاتل في سماء بيروت فقد صعد معي إلى الطابق السابع حيث كنت أسكن لإنقاذ ما يمكن انقاذه من عفش منزلي ونقله إلى منزل عمي في المزرعة، يحمل معي بعض العفش على عاتقه. ولهذه الشقة في المدينة الرياضية قصة أخرى.
كنت أسكن في مبنى الإذاعة حيث الشقة التي وعدني بها الأخ ماجد أبو شرار وشقة أخرى يسكنها المرحوم فاروق سرور وأسرته.
أردنا التوسع في الإذاعة وبناء استوديو للتسجيلات بالإضافة إلى استوديو الهواء الوحيد وهذا يتطلب الحصول على الشقة التالية والتي يسكنها فاروق لكنه رفض ترك الشقة إلى أخرى خارج مبنى الإذاعة، فتطوعت بتركي منزلي لفاروق لتتم التوسعة وغادرت إلى الفاكهاني في شقة على الدور السابع من عمارة قرب المدينة الرياضية عانت زوجتي الكثير بسببها.. حيث أن الكهرباء كانت تنقطع باستمرار فتضطر زوجتي إلى الصعود إلى الدور السابع وهي حامل، وكان أن أجهضت ثلاث مرات بسبب ذلك.!
· السفير والمفوض السياسي:
أردت أن أستريح من العمل الإذاعي حيث أمضيت فيه منذ العام 1968 وحتى العام 1980م عملا متواصلا ليلا ونهارا تخلله العمل في زمزم/عمان ودرعا وصنعاء وبيروت بالإضافة إلى القاهرة، وأردت أن ألتحق بالعمل الدبلوماسي بعد أن مارست بعضا منه في صنعاء فشاورت مدير عام الدائرة السياسية الأخ عبد اللطيف أبو حجلة وعلمت منه أنه لا يوجد شاغر الآن إلا في كوريا الشمالية فوافقت واستشار الأخ أبو حجلة الأخ أبو اللطف، رئيس الدائرة السياسية الذي وافق بدوره واستمزج حكومة كوريا الشمالية التي وافقت هي أيضا.. لكن المعضلة كانت في موافقة الأخ أبو عمار. وعندما علم بذلك رفض وطلبني لمقابلته واستدعى الأخ نبيل: بقينا في حضرته أكثر من ساعة دون أن يكلمنا متشاغلا بالأوراق التي أمامه عندها تركنا الأخ نبيل وبقيت وحدي.. بعدها التفت اليّ وقال: صحيح انت عايز تعمل سفير؟!
قلت: أخ أبو عمار منذ عام 68 وأنا في الإذاعة لأجرّب عملا آخر.
قال: أغيّر لك الكرسي! أين نبيل، ولما حضر نبيل فاجأنا بأنه يريدني أن أكون المفوض السياسي لجيش التحرير! وتصبح ضابطا في الجيش.
ولما سأل نبيل مستنكرا" والإذاعة"؟
أجاب الأخ أبو عمار: بالإضافة إلى عمله في الإذاعة.
وترك لي المجال للتفكير...
كنت في حيرة من أمري لأن ذلك يعني أن انتقل إلى الجنوب اللبناني، حيث مواقع القوات وأترك أسرتي في بيروت.. زوجتي وثلاث طفلات أكبرهن سنتان ونصف السنة وأصغرهن شهران...!
ماطلت فترة، وذهبت إلى الحج كعادتي كل عام لأمثل فلسطين في النقل المباشر من مناسك الحج، وفي تلك الأثناء كان مسيّر أمور جيش التحرير العقيد فخري شقورة يبحث عني، وعندما عدت ذهبت إلى مقر قيادته وعرفته بنفسي ويبدو أن سمعتي لديهم كانت جيدة لذلك قبلوني ضابطا لديهم برتبة رائد وتعرفت على العقيد خالد سلطان وكان بالإضافة إلى مهامه، يستلم إعلام الجيش ومجلة صوت فلسطين فرحب بي لأساعده في تلك المهمة بسبب خبرتي الإعلامية.. وبذلك أصبحت أيضا نائبا لمسؤول الإعلام في الجيش، فأصبح عملي بين الإعلام والقوات. وطلب مني الأخ أبو عمار أن أعمل على توحيد قوات العاصفة بقوات جيش التحرير حسب قرار المجلس الوطني الفلسطيني لتشكيل "جيش التحرير الوطني الفلسطيني"، وأخبرني أن هذا القرار لن يساعد على تطبيقه إلا الأخوة في جيش التحرير أما الفصائل الأخرى فهي غير جادة، فكتبت أول افتتاحية في المجلة حول هذا الموضوع وعرضتها عليه وأرشدني إلى امور كانت خافية عليّ.
ثم قرر أن يضمني إلى التفويض السياسي في القوات الذي يرأسه المرحوم خطاب (عزت أبو الرب) وبذلك أصبح جيش التحرير الفلسطيني ممثلا بالتفويض السياسي لقوات العاصفة وأصبحت عضوا في المجلس الأعلى للتفويض السياسي.. واستمر عملي الجديد من خلال مكتب العقيد خالد سلطان في المبنى الذي فيه مكتب الشهيد القائد أبو إياد (صلاح خلف)، ومكتب الهيئة التنفيذية للاتحاد العام لطلبة فلسطين وغيرها، إلى أن بدأ الاجتياح الاسرائيلي للجنوب اللبناني في صيف العام 1982م ثم حصار بيروت من قبل الجيش الصهيوني بقيادة مجرم الحرب إرئيل شارون، حيث قصفت طائراته الحربية مكتب الأخ أبو إياد قاصدة اغتياله فتم تدمير المبنى بما فيه مكتبنا.. ونجونا من موت محقق، حيث كنت وقتها في منزل عمي والد زوجتي في المزرعة بعد أن أخليت أسرتي من الشقة السكنية في الفاكهاني التي قصفت بدورها لقربها من معسكر قوات الـ 17 عدة مرات من الطائرات الإسرائيلة الحربية، وبذلك انقطعت صلتي المباشرة بجيش التحرير الفلسطيني الذي توزع على عدة محاور لحماية بيروت وتفرغت للعمل مرة أخرى في الإذاعة طيلة أيام الحصار والقتال، وكنا ننتقل بالإذاعة من حي إلى آخر نتيجة قصف الطيران، وكانت معارك مشهودة بيننا وبين قوات الاحتلال الصهيوني المحاصر لبيروت عبر الهواء مباشرة، وتلك قصة كتب تفاصيلها الأخ نبيل عمرو في كتاب منفصل.
شهدت بيروت الغربية بشوارعها وحاراتها ومحاورها معارك بطولية تم من خلالها دحر قوات شارون التي لم تستطع أن تتقدم شبرا واحدا داخل بيروت أو مطارها الدولي أو مينائها البحري، واستنجدت عاصمة لبنان والتي سميناها عاصمة العرب بيروت بشقيقاتها، فكان الرد من زعيم ليبيا آنذاك معمر القذاقي انتحروا ولا تخرجوا دون أن يكلف نفسه إرسال طلقة رصاص واحدة، وأرسلت الولايات المتحدة مندوبها للمنطقة فيليب حبيب الذي أخذ مساومة قيادتنا وقيادة الحركة الوطنية اللبنانية على خروجنا مستسلمين، عندها جمع القائد أبو عمار القيادات الفلسطينية واللبنانية التي كانت تدافع عن بيروت طالبا رأيها.. وكما سمعت من الراحل الأب إبراهيم عياد وكان وقتها عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أن القيادة المشتركة تركت اتخاذ القرار للقائد أبو عمار.. عندها قام من مكانه، والكلام للأب إبراهيم عياد وقال سأصلي ركعتي استخارة واعود لكم.. وكان القرار "إلى الجميع هبّت رياح الجنة".
جاءت البرقية إلى الإذاعة وسلمني إياها الأخ المناضل طاهر العدوان وكان وقتها نائب مسؤول الإذاعة، وكانت أسعد لحظاتي فشعرت بأني شهيد حيّ يقرأ خبر استشهاده عبر الميكروفون.
واشتدت المعارك وانهمرت القذائف كالمطر على كل بيروت الغربية والإذاعة صامدة إلى أن تم الاتفاق على الخروج من بيروت دون استسلام وبكرامة بعد أن أصر الأخوة اللبنانيون من اجل حماية بيروت وأهلها على خروجنا إلى عدة دول عربية، وهنا أبلغني الأخ خطاب نائب المفوض السياسي العام اختيار الأخ القائد الرمز أبو عمار لي لأكون المفوض السياسي للقوات الخارجة إلى تونس، فما كان عليّ إلا أن أؤمن أسرتي إلى خارج بيروت قبل مغادرتي إلى تونس وقد نجحت في ذلك.
غادرت بيروت متوجها وزملائي من قوات جيش التحرير الفلسطيني وقوات الـ 17 وعدد كبير من مثقفي وكتاب وصحفيي الثورة الفلسطينية من مختلف التنظيمات بما يقارب الألف مناضل على متن سفينة اسمها ( صولفرين)، وقد كتب الروائي والكاتب المناضل رشاد أبو شاور الذي كان معنا على متن السفينة روايته المشهورة (اه يا بيروت)، حيث أرّخ من خلالها رحلتنا عبر البحار والتي استمرت أكثر من أسبوع بحلوها ومرها، ومن خلال عملي كمفوض سياسي لهذه القوات التي كانت بقيادة مسيّر أمور جيش التحرير الفلسطيني العقيد فخري شقورة اكتشفت واقعنا المر.. واقع الثورة الفلسطينية من خلال "جمهور" السفينة الذي يمثل شريحة متنوعة تمثل مجتمعنا الثوري.
· تونس:
وصلت الباخرة اليونانية صولفرين بتاريخ 28/8/1982 إلى ميناء بنزرت التونسي حاملة قرابة الألف من الفدائيين الفلسطينين، بعد صمود بطولي للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية استمر قرابة 88 يوماً. كان قائد السفينة العسكري كما ذكرت آنفا العقيد فخري شقورة وكنت نائبه السياسي أي المفوض السياسي للقوات الذاهبة إلى تونس.
وهذه خواطر أنقشها بهذه المناسبة التي احتفلت بها تونس لأول مرة منذ ذلك التاريخ وقلت فيها:
"تجربتي هي تجربة أي فلسطيني سواء كان محاصراً في بيروت أو يعيش خارج بيروت".
في ذلك الصيف من العام 1982 جرّد مجرم الحرب شارون في عهد حكومة مجرم الحرب بيغن جلّ القوات الصهيونية في محاولة للقضاء على الثورة الفلسطينية والقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية ودحرها من الجنوب اللبناني لإبعاد نيران الثوار عن المستوطنات الاسرائيلية المتاخمة للحدود اللبنانية إلى مسافة 40 كيلومترا داخل لبنان، حين كشفت مصادر إسرائيلية ما تم الاتفاق فيه مع الرئيس السوري في تلك الفترة حافظ الأسد. والمعروف أن الاسرائيلين لا يحفظون العهود فنقضوا اتفاقهم مع الأسد واستمروا باتجاه بيروت بمساعدة عملائهم من حزب الكتائب بقيادة بشير الجميل.
تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار 805x90-1699222763
حوصرت بيروت الغربية معقل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، حيث تمكّن الصهاينة من متابعة ما يجري عندنا من جبل لبنان ومقر الرئاسة اللبنانية التي استولى عليه الصهاينة وعملاؤهم.
كان عملي في تلك الأثناء وقبل الاجتياح بعام واحد: المفوض السياسي في جيش التحرير الفلسطيني الذي التحق بقوات الثورة من مصر بعد تدخل النظام السوري بقيادة حافظ الأسد ضدنا في العام 1976م، وكان مكتبي في نفس المبنى الذي يضّم مقر القائد الشهيد أبو أياد (صلاح خلف). وحيث أن شارون وقواته كانوا يتابعون مقرات القيادة في بيروت. وفي محاولة لاصطياد هذه القيادة تمّ قصف هذا المبنى عندما اعتقد شارون خاطئا بوجود أبو إياد داخل مكتبه.. حيث دّمر المبنى بما فيه مكتبي.. لذلك عدت إلى عملي السابق والتحقت بإذاعة الثورة التي كان لي شرف أن أكون أحد مؤسسيها في العام 1968م، ومارست عملي السياسي والتحريضي من خلال صوت الثورة الفلسطينية التي كانت هدفا دائما لطائرات شارون حيث تم تدمير مرسلاتها في جنوب لبنان ثم ملاحقة هذا الصوت في قلب بيروت وكنا ننتقل من مكان إلى آخر كالدجاجة وفراخها أو القطة وجرائها.. وكان مثقفو وصحفيو الثورة وكتابها قد التحقوا بهذه الإذاعة في بيروت.

تمّ ممارسة ضغوطات كثيرة على قيادتنا من الأصدقاء والحلفاء بالإضافة إلى الأعداء كي نترك بيروت رافعين الراية البيضاء، وشذّ عن هؤلاء معمر القذافي الذي نصحنا بالانتحار في بيروت دون أن يكلف خاطره إرسال طلقة مدفع أو قذيفة صاروخ تعيننا على الصمود أو حتى تساعدنا على الانتحار.
جمع القائد الراحل الرمز ياسر عرفات قادة الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية لاستشارتهم في الأمر قالوا له أنت القائد والقرار لك، ثم قام ليستخير ربه وعاد ليعلن رفض الاستسلام، معمما برقيته الشهيرة "هبّت رياح الجنة". علم فيليب حبيب المبعوث الأميريكي الذي كان يساومنا على الخروج بالراية البيضاء بقرار القائد الرمز بالصمود، لذلك غيروا خططهم وتم الاتفاق على خروجنا خروجاً مشرفاً بلباسنا العسكري وبسلاحنا إلى عدة أقطار عربية.
تمّ اختياري من قبل الرئيس الراحل أبو عمار لأكون المفوض السياسي للقوات الخارجة إلى تونس.. إلى بنزرت.
كان شعوري غريباً.. كنت أتمنى الشهادة في بيروت على أن أغادرها بعد أن امضيت فيها سبع سنوات، تزوجت خلالها وأنجبت ثلاثة أطفال، كان عمر أصغرهن ثلاثة أشهر عند الاجتياح. أين أذهب بأسرتي والقرار أن نغادر منفردين دون أسرنا.
لكن القيادة كانت قد رتبت للأمر، حيث استطعتُ إخراج زوجتي وطفلاتي الثلاث بوثيقة تساعدهم على اجتياز حواجز الإسرائيلين وعملائهم "الكتائب"، كل من كان في بيروت يعرف تفاصيل تلك الإجراءات.. وتأكدت من وصولهن إلى الأردن حيث أهلي هناك.

كان وداعنا من قبل جماهير لبنان وداعاً مؤثراً، فقد رأى العالم اللبنانيين وهم ينثرون الأرز علينا ونحن نتوجّه بالشاحنات إلى مرفأ بيروت لنستقل السفينة اليونانية صولفرين التي ستأخذنا إلى بنزرت. كان الاسرائيليون يراقبوننا عبر المناظير في بيروت الشرقية ورغم ذلك أدخلنا سلاحنا إلى بطن السفينة وكافة أجهزتنا وكان الشرط ألا نظهر بالسلاح على ظهر السفينة.. لذلك تمّ تأخير إبحار السفينة حتى المساء، فوجئت بالعدد الكبير الذي حوته السفينة، فبالإضافة إلى قوات جيش التحرير الفلسطيني كان هناك عدد آخر من قوات الثورة بفصائلها المختلفة.
كم كان الأمر جديداً عليّ فلأول مرة أتعايش مع مشارب مختلفة وآراء عدة مباشرة وعلى الهواء.. ولأول مرة أرى الثورة وواقعها وألمسه لمس اليد.. ولا أخفيكم انني فوجئت بذلك رغم مرور (14) عاماً على وجودي عضواً فاعلاً في الثورة في ذلك الوقت، وقد وثّق أخي رشاد أبو شاور معاناة أسبوع في البحر من خلال قلمه الرائع والسآخر في روايته "آه.. يا بيروت" أحيلكم إليها.
صباح يوم 28/8/1982 وصلنا بعد معاناة كبيرة مدة أسبوع في لجّة البحر إلى ميناء بنزرت، وكم سرّنا أن نرى قبل رسّونا الميناء الرئيس الراحل الحبيب بورقيبه على رأس مستقبلينا رغم مرضه. ولكن، صعد عدد من الضباط التونسيين إلى ظهر السفينة للترحيب بنا قبل النزول وفاجأونا بعدم السماح لنا بحمل سلاحنا! عند خروجنا من السفينة.. احتقن وجه قائد السفينة العقيد فخري شقورة وسالت الدموع من عينه غير مصدق ما يطلب منا، رفضنا النزول.. جرت مفاوضات سريعة وإكراما لانتظار الرئيس بورقيبه وقوفاً في الميناء.. تمّ الاتفاق على أن ينزل (الضباط السّامون) فقط بسلاحهم أي من هم برتبة رائد فما فوق.
حملت الكلاشن فرحاً، وكنت وقتها برتبة رائد، ونزلت من السفينة مع بقية زملائي وسط هتافات الجماهير التونسية في المرفأ وقبل وصولي للسلام على الرئيس بورقيبه تلقّفني صحفي أجنبيّ متهكماً: هل تتكلم الإنجليزية؟ نعم. أتعتقد أن هذا السلاح البسيط سيصل إلى تل أبيب؟! فرددت عليه بما يستحق ورأى العالم كله ذلك.. واعتقد أنه نفس الصحفي الذي سأل أبو عمارعند خروجنا من بيروت: إلى أين من هنا يا عرفات؟ يومها أجابه أبو عمار إلى فلسطين! وقد كان.
جُلنا شوارع بنزرت وسط ترحيب حارّ ورائع من قبل الجماهير المحتشدة مما جعلنا نشعر بالفخر والسعادة والمعنويات العالية.
أرسلنا إلى معسكر الجيش التونسي في ولاية باجه وهو معسكر وادي الزرقة فيه مبنى قديم واسع وجهّز بخيام كبيرة تستوعب أعدادنا التي قاربت على الألف إنسان، وهو معسكر مسيّج في أطراف العمران أشعرنا بالوحشة ونحن الذين تعودنا أن نكون بين الجماهير في لبنان.
وعندما غادر الأخ أبو عمار بيروت قام بزيارتنا في المعسكر حيث تفقد أوضاعنا وقرر سحب وانقاذ كل الكوادر السياسية والإعلامية من كتاب وصحفيين إلى خارج المعسكر بعضهم إلى فندق سلوى، مقر القيادة الجديد في تونس، وبعضهم إلى بلدان عربية أخرى.. وبقيت السياسي والإعلامي الوحيد في المعسكر فأنشأت محطة إذاعية داخلية، كي يتابع الأفراد أخبار العالم وأخبار أهلهم في لبنان، وكم كنا سعداء عندما قتل المجرم بشير الجميل وسرعان ما تبدلت السعادة والفرح بالحزن والغضب والتمرد عندما ارتكبت جحافل التتار الجدد، الكتائب والصهاينة، مجزرة صبرا وشاتيلا تلك المأساة المروعة التي هزت العالم كله.
أصبح الخوف على الأهل يزداد وخاصة من أهلهم في لبنان وفكرت بالاتصال بأسرتي دون جدوى، حيث لا اتصال من داخل المعسكر ولا أعرف أين هم وقلبي يتفطر لسماع صوت طفلاتي وزوجتي.. هل هم في الأردن أم غادروه حيث من الصعوبة للفلسطيني الإقامة في الأردن لمدة طويلة. وبعد عشرة أيام من القلق والحيرة استطعت الخروج من المعسكر إلى مقر القيادة في فندق سلوى في حمام الشط، ومن هناك كان الاتصال والاطمئنان وراحة البال التي لم تستمر طويلا حيث على أسرتي أن تغادر الأردن وأنا الممنوع من دخوله إلا إلى السجن فغادرت تونس إلى دمشق الأقرب إلى عمان حيث يقيم أخي الضابط في قوات الثورة الموجودة في سوريا. فوجئت بقرار طرد زوجتي وطفلاتي من عمان إلى سوريا بحجة انتهاء مدة الإقامة وانتظرت وصولهم في دمشق على أحّر من الجمر بعد أن مضى ثلاثة أشهر دون رؤيتي لهن خاصة طفلتي التي كان عمرها عند الاجتياح ثلاثة شهور، وهي الآن بعمر ستة شهور وأخذت أتخيل التغير الذي طرأ عليها.. وكم كبرت وأتخيل مكاغاتها وصوتها وشوقي لحملها واحتضانها هي واخواتها وأمهن. طال الانتظار ولا نعرف سبب التأخير عدت وأخي إلى منزله في دمشق بانتظار الآتي.. وبعد منتصف الليل إذ بالباب يدق دقات سريعة غاضبة فإذا هو أخي الذي يكبرني والموظف في الأردن والذي يقل أسرتي بسيارته من عمان إلى دمشق يرغي ويزبد ويصيح بأعلى صوته ضد قادة البلدين في دمشق وعمان.. هدأنا روعه وعلمت منه أنه بعد طرد الأردن لأسرتي رفضت سوريا ادخالهن وسمحوا له هو فقط بالدخول كونه أردنيا.. أي أن اسرتي أصبحت على حدود البلدين دون مأوى.. وسرعان ما أجرى أخي الضابط عددا من المكالمات الهاتفية مع متنفذين في سوريا حيث تمّ السماح لأسرتي بالدخول مرورا فقط على أن تغادر فورا الأراضي السورية.. عاد أخي القادم من عمان بسيارته لإحضار اسرتي من الحدود السورية الأردنية.. وانا بالانتظار على أحّر من الجمر.. سأحمل ابنتي الصغيرة واقبلها وأداعبها وتحقق الحلم ها هي أسرتي أمام ناظري ولكن ابنتي الصغيرة كانت نائمة حاولت مداعبتها لإيقاظها دون جدوى.. الحمدلله الذي لمّ شملنا.. حاولت التحايل لإبقاء أسرتي في دمشق وأعود إلى عملي في تونس.. إلى أن أجد لهّن مكانا يؤوينا.. إلا أن الشهيد القائد سعد صايل، أبو الوليد رحمه الله سهّل الامر علي وأقنعني بحمل أسرتي معي إلى تونس حيث فندق سلوى.
في تلك الأثناء ألقى ملك الأردن الحسين بن طلال خطابا سياسياً حيا فيه صمودنا في لبنان، وأثنى على قيادتنا واستغرب تشتيت هؤلاء الأبطال الذين رفعوا رأس العرب بصمودهم الأسطوري في بيروت وهل ضاقت عليهم الأرض بما رحبت؟
اعتبرت هذا الخطاب دعوة لمن كان ممنوعا من العودة إلى الأردن أن يعود. فعملت على ذلك واقنعت الراحل "أبو عمار" أن نغتنم هذه الفرصة وانتقل للعمل في الأردن حيث لنا قوات بدر التابعة لجيش التحرير الفلسطيني. وأنا المفوض السياسي له. وبعد أن وافق الأخ أبو عمار ولكن على مضض غادرت وأسرتي إلى عمان وتلك قصة يطول شرحها ومعاناتها.
المهم.. تمّ إنشاء مكتب للإعلام الفلسطيني في عمان تسلمت قيادته من أخي نبيل عمرو في فترة لاحقة.
كان العرب قد اتفقوا على عقد قمة عربية خاصة للترحيب بقائد الصمود في بيروت الأخ أبو عمار، وأعتقد أن ذلك اعتذاراً منهم لتركهم عاصمة عربية تحت الحصار دون أن يفعلوا شيئاً إلا من دعوة القذافي لنا بالانتحار.
بعدها تصاعد التوتر مع الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد وقرر طرد الأخ أبو عمار من دمشق، ثم تمّ حصاره في طرابلس لبنان في العام 1983م. وتكرر الخروج من طرابلس بالبواخر.. الأول كان بحصار من شارون وجيشه والثاني كان بحصار الأسد وجيشه وعملائه.
وزاد الطين بله تصريح السيد بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي بتجفيف مصادر الدعم لمنظمة التحرير الفلسطينية وعبارته المشهورة (باي باي) (plo) ثمّ مؤتمر ما سمي بالوفاق والاتفاق في عمان للملوك والرؤساء العرب الذي حاول الأسد وغيره إنهاء وشطب فلسطين من الخارطة السياسية،بحجة أن فلسطين هي جزء من سوريا فكان الردّ من جماهيرنا في الوطن المحتل بالانتفاضة المباركة ضد المحتلين ودعماً لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، تلك الانتفاضة التي دخلت القاموس الدولي وأصبحت كلمة ترددها وسائل الإعلام في كل العالم.
جعلت الانتفاضة العالم يتحرك لإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية فتمّ عقد مؤتمر مدريد، تلاه اتفاق المبادئ في أوسلو ثم العودة إلى الوطن في ظل الاتفاق.
كنت يومها في تونس لحضور دورة المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة لتدارس كيفية العودة إلى الوطن في ظل الاتفاق، وتلك قصة أخرى. وشاء حظي وإصرار قائدي أبو عمار أن اكون ضمن العائدين معه إلى الوطن على نفس الطائرة رغم عدم جهوزيتي لهذا الأمر فانصعت للأمر، إنه الوطن. وإذا بي وجها لوجه أمام المحتل الإسرائيلي في معبر رفح. كان يبدي ابتسامه صفراء على وجهه لم أستطع تفسيرا لها ورحب بي وبغيري من بعدي ومدّ يده للمصافحه بعد إنجاز معاملة الدخول ترددت قليلا وأنا انقل نظري إلى يده الممدودة وعينه المصوبة نحوي وابتسامته إياها! وللمعبر في رفح قصة أخرى! حيث احتجزنا عدة أيام ممنوعين من الدخول إلى رفح وغزة أو العودة إلى المعبر المصري عند موقف باص المعبر عانينا خلالها معاناة كبيرة.
وأخيراً دخلنا رفح وتوجهت إلى حيث مقر الرئيس في غزة وإذ به فندق...!
مقر القيادة العائدة إلى الوطن في فندق تماماً كما كنا في تونس في فندق سلوى لكن اسم الفندق في غزة هو فلسطين.
لم أشعر أنني دخلت وطني.. لم أجد الرغبة لتقبيل تراب وطني كما يفعل الغائب عن وطنه ربما بسبب ابتسامة الإسرائيلي على المعبر واصراره على مصافحتي.. ثم لأنني في فندق وفي الوطن؟! تذكرت كلمة الأخ أبو مازن صاحب الاتفاق عندما قال لنا في آخر جلسة للمجلس الثوري في تونس: الاتفاق أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي.. وفهمنا لتطبيقه وتفسيرنا الفلسطيني لبنوده يساعدنا على تحقيق هدفنا. اما أن نأخذه كله أو نتركه كله Take it or leave it.
وتجربتي في الوطن التي امتدت من العام 1995م وحتى العام 2004م، تحتاج إلى وقفة أخرى حيث عملت نائباً لمساعد القائد العام للقوات ونائبا للمفوض السياسي العام وناطقا باسم القوات في السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي العام 2005م تمت إحالتي على التقاعد بسبب السنّ، لكني لم أتقاعد عن النضال.. فمن خلال عضويتي في المجلس الوطني الفلسطيني أمارس عملي النضالي حتى اللحظة وحتى الرمق الاخير إن شاء الله.
في تونس استطعت إقناع قيادتي بالذهاب إلى الأردن كما قلت بعد خطاب الملك الحسين الإيجابي تجاهنا، لكن العمل في الأردن ليس كالعمل في جيش التحرير في لبنان، حيث الاستخبارات العسكرية الأردنية هي التي تقود الجيش هناك لذلك لم أتمكن من الالتحاق بعملي.. خاصة بعد أن أصدر الأخ أبو عمار، القائد العام قرارا بتعييني نائبا للعميد نهاد نسيبة -رحمة الله- للإشراف على مستشفى جيش التحرير (قوات بدر) في الأردن والمشاغل التابعة له.
لذلك عملت من خلال مكتب الأخ أبو عمار الذي يرأسه المرحوم (أبو منير) نجيب الأحمد يساعدني الأخ إبراهيم برهوم أحد أعمدة مجلة فلسطين الثورة في بيروت، وكنا نراسل إذاعتنا في بغداد من خلال هذا المكتب، إلى أن تم إنشاء مكتب للإعلام الفلسطيني في الأردن ترأسة الأخ نبيل عمرو الذي ما لبث أن عين سفيرا في الاتحاد السوفييتي، حيث تسلمت منه رئاسة مكتب الإعلام حتى العام 1994 عام دخولنا إلى الوطن.
في الفترة التي كان فيها الأخ نبيل يمارس عمله في الإعلام كان أيضا هو مسؤول الإذاعة المركزية التي تبث من بغداد بقيادة المرحوم يوسف القزاز ويساعده عدد من الأخوه المذيعين المقيمين في بغداد أمثال الأخوة: محمود أبو الهيجاء وجمال والدكتور جمال الخطيب وغيرهم، فوجئت باتصال من الأخ أبو أنس (عبد الرزاق اليحيى) ممثل "م.ت. ف" في الأردن يطلبني للذهاب معه إلى بغداد بطلب من الأخ أبو عمار! دون أن يعرف سبب ذلك.
وكان استقبالا حارا من الأخ أبو عمار وكاننا لم نلتق منذ سنين قائلا: "إنت اللي حتنقذ الإذاعة"! والتفت إلى الحاج إسماعيل قائد قواتنا في العراق قائلا: بالإضافة إلى الإذاعة سيكون المفوض السياسي للقوات.. جهز له البدلة العسكرية. علمت عندها أن خلافا جرى مع الأخ نبيل أقاله بسببه من الإذاعة.
أسقط في يدي لأن ذلك يعني وبعد استقراري وأسرتي في عمان أن ابتعد عنهم مرة أخرى خاصة وأن العلاقة مع الأردن في تلك الفترة كانت فاترة، وخشيت أن أمنع من العودة إلى الأردن. حاولت عن طريق الأخ عزام سفيرنا في العراق آنذاك والأخ الطيب عبد الرحيم الذي كان موجودا هناك أن يتوسطا لإنقاذي من هذا المأزق خاصة وأن الأخ أبو عمار يضع كامل ثقته بي (إنت اللي حتنقذ الإذاعة)! وطلبت من الأخ نبيل أن يصالح الأخ أبو عمار ويعود إلى موقعه.
أكثر من ساعدني في ذلك هو الأخ عزام حيث كنت وإياه، وكذلك الأخ نبيل، أعضاء في المجلس الثوري للحركة أي إننا في مرتبة قيادية واحدة، الأمر الذي لا يساعده في التدخل في الإذاعة إذا استلمتها، خاصة وأنني من خارج ملاك الإقليم وهو مسؤول الإقليم.
تصالح الأخ نبيل مع القائد الرمز أبو عمار بضغط من الأخوين عزام والطيب. وزفوا البشرى لى في الوقت الذي أبدى فيه الأخ يحيى رباح الموجود بالأردن ويرغب في تركه أن يستلم هذه المهام.
حاولت الاستئذان بالعودة إلى عمان لكن الأخ أبو عمار تجاهلني ولم يتحدث اليّ طيلة ثلاثة أيام! خاصة وأنه كان قد اتفق مع الأخ القائد أبو جهاد -رحمه الله- أن أستلم الإذاعة بدلا من الأخ نبيل.
الى أن فك أسري وأقنعته أنني بالتعاون من الأخ طاهر العدوان والأخ إبراهيم برهوم سنوافي الإذاعة يوميا بالبرامج والتعليقات من خلال مكتب الإعلام في عمان وقد كان.
وبذلك لم يستمر قرار استلامي لقيادة الإذاعة سوى أيام قليلة، عدت بعدها إلى عمان لممارسة عملي كمسؤول للإعلام هناك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار   تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار Emptyالجمعة 02 فبراير 2024, 8:54 pm

الحلقة الاولى من برنامج تجربة حياة الدكتور خالد جميل مسمار







الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
تاريخ الثورة الفلسطينية في كتاب للدكتور خالد جميل مسمار
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب مرايا.. عندما يجتمع تاريخ العالم بين طيات كتاب!
» كتاب تأملات في الأناجيل والعقيدة للدكتور بهاء النحال
»  كتاب بيبيو ! الخراب على الباب للدكتور أحمد ويحمان؟
» مختصر تاريخ فلسطين للدكتور طارق سويدان
» موسيقيات القوات المسلحة..تاريخ عريق وأثر فني خالد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: كتب وروابات مشاهير شخصيات صنعت لها .... :: كتب-
انتقل الى: