الصناعات العسكرية الأمريكية في مواجهة التحدي الصيني والأسلحة المسيرة ذاتيا
تسهم صادرات الأسلحة الأمريكية بما يعادل 11.6 في المئة من إجمالي قيمة الصادرات السلعية، حيث سجلت بنهاية العام 2023 حوالي 238 مليار دولار من إجمالي يقدر بحوالي 2.05 تريليون دولار للصادرات السلعية ككل. وتغطي قيمة صادرات الأسلحة ما يزيد عن ضعف قيمة العجز في التجارة السلعية في السنة المالية الأخيرة المنتهية في ايلول/سبتمبر 2023. وتعود أهمية الصناعات العسكرية الأمريكية إلى دورها في توفير الأمن القومي، وتعزيز قوة الردع للولايات المتحدة وشراء النفوذ وضمان الولاء في كل أنحاء العالم. وهي في الوقت نفسه تسهم بدور جوهري في الأداء الاقتصادي، حيث أنها تخلق الكثير من فرص العمل في تلك الصناعات المتقدمة تكنولوجيا بطبيعتها، كما تسهم في زيادة الناتج المحلي، وتعتبر واحدا من أهم محركات الصادرات، نظرا للموقع الاحتكاري تقريبا الذي تتمتع به في سوق السلاح العالمية، وهو السوق الذي تسيطر الولايات المتحدة على ما يقرب من نصفه. ومع أن الصناعات العسكرية الأمريكية تحقق نجاحا كبيرا على مستوى العالم، وأن حرب أوكرانيا أدت إلى إبعاد روسيا عن مجالات المنافسة الفعلية بسبب انشغالها في الحرب وتركيز مجهود صناعاتها العسكرية على توفير الإمدادات للقوات الروسية، إلا أنها تواجه في الوقت نفسه منافسة شرسة من الصين، التي تعتبرها خصما رئيسيا يهدد نفوذها في العالم كله. وتزداد حدة هذه المنافسة الشرسة في مجالات الصناعات العسكرية المتقدمة تكنولوجيا مثل الأسلحة الفرط صوتية، والقوة العسكرية الفضائية، والأسلحة المسيرة ذاتيا، والأسلحة النووية التكتيكية.
هل هو استعداد للحرب؟
يقولون إن الاستعداد للحرب يمنع وقوعها، لأن الأطراف المتصارعة لا تختار الحرب إلا عندما ترى ضعفا في عدوها، أو تبالغ هي في قوتها. ويحتاج الاستعداد للحرب إلى بناء قدرات كافية لتحقيق الانتصار وضمان المحافظة عليه. وتعتبر الأسلحة أحد أهم هذه القدرات. ويحتاج إنتاج الأسلحة إلى استثمارات ضخمة وإلى تجديد تكنولوجي، يقود إلى استخدام أسلحة حاسمة جديدة تفاجئ الخصم وتضرب قدراته في مقتل. وطبقا لاستراتيجية الدفاع الوطني للولايات المتحدة التي تتبناها إدارة بايدن منذ عام 2022 فإن مكونات الإنفاق على التسليح وتطوير أسلحة جديدة واختبارها تمثل واحدا من أهم بنود الميزانية الدفاعية إلى جانب الإنفاق على الأفراد الذراع الأول للقوة العسكرية الأمريكية. وتمثل الميزانية الدفاعية ثاني أكبر بنود الإنفاق في الميزانية الفيدرالية للولايات المتحدة بعد ميزانية الصحة والرعاية الاجتماعية. وبسبب حرب أوكرانيا، والنزاعات في جنوب شرق آسيا، فقد تسارع معدل ارتفاع الميزانية الدفاعية الأمريكية، وحصلت برامج تطوير أسلحة جديدة واختبارها ميدانيا على نصيب متزايد منها. وتدرك وزارة الدفاع الأمريكية أن تطوير أسلحة جديدة مثل الصواريخ الفضائية الهجومية والاعتراضية، والأسلحة الفرط صوتية، والغواصات النووية المتقدمة، والأسلحة ذاتية الحركة مثل الطائرات المسيرة، والأسلحة النووية التكتيكية إلى جانب أسلحة الحرب السيبرانية تمثل ميدانا فسيحا للتنافس الاستراتيجي مع كل من الصين وروسيا، اللذين تعتبرهما واشنطن مصدر التهديد الأول لها في العالم.
ونظرا لتسارع معدل التجديد التكنولوجي في الصناعات العسكرية، ودخول أسلحة جديدة ذاتية الحركة مزودة بأنظمة للتعرف والإدراك عن بعد، واتساع نطاق استخدام أساليب الحرب السيبرانية لتحقيق أهداف الحروب من دون الاعتماد على الأسلحة التدميرية التقليدية فإن الولايات المتحدة والدول الرئيسية المنتجة والمصدرة للأسلحة في العالم تتجه الآن لتكثيف استثماراتها في صناعات الأسلحة التكنولوجية الأكثر تقدما. ومن المرجح أن ذلك قد يفتح الطريق للقوى العسكرية المتوسطة مثل تركيا وإيران والبرازيل والهند وكوريا الجنوبية لتوسيع استثماراتها في الصناعات العسكرية التقليدية، حتى بمساعدة الدول الصناعية المتقدمة، من خلال إعادة توطين بعض الصناعات أو العمليات الصناعية، ونقلها إلى الدول الناشئة.
وتظهر أرقام مشروع ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية للعام 2025 البالغة حوالي 850 مليار دولار أن ما يقرب من 21 في المئة من الموارد مخصصة لتمويل مشروعات إنتاج أسلحة جديدة وتطوير تكنولوجيا الأسلحة القائمة حاليا بقيمة 143 مليار دولار. وتشمل الاعتمادات التي تم تقديمها للكونغرس 50 مليار دولار لتحديث القوة النووية، بما في ذلك تطوير قدرات القصف الجوي بواسطة القاذفات والقصف من تحت سطح الماء بواسطة جيل جديد من الغواصات. وتم احتساب قيمة احتياجات تطوير القوة الفضائية بحوالي 33 مليار دولار، واحتياجات تطوير القوة الصاروخية، بما في ذلك الصواريخ الاعتراضية والفرط صوتية بحوالي 28 مليار دولار. أي أن هذه القطاعات الثلاثة وحدها تستحوذ على 111 مليار دولار بنسبة 77.6 في المئة من إجمالي ميزانية البحوث والتطوير التكنولوجي والاختبارات والتقييم للأسلحة كما ورد في ميزانية وزارة الدفاع للسنة المالية المقبلة.
الاستثمار وعائدات التصدير
تسهم استثمارات الصناعات العسكرية الأمريكية في زيادة القدرة على الردع حول العالم، كما تسهم في زيادة الصادرات العسكرية التي تعود بإيرادات ضخمة على الاقتصاد. ومع أن الولايات المتحدة تضع قيودا إستراتيجية وعسكرية وتقنية على استخدام أسلحتها بواسطة عملائها من مستوردي السلاح حول العالم، فإنها تحتل المركز الأول بين قائمة مصدري السلاح بلا منافس على هذا المركز. ويتم استخدام عائدات التصدير في تمويل ابتكار وإنتاج واختبار أسلحة جديدة. وغالبا ما يقتصر استخدام الجيل الأول من الأسلحة الجديدة على القوات الأمريكية فقط سواء في الداخل، أو في القواعد المنتشرة حول العالم والقيادات العسكرية الإقليمية التي تتولى إدارة هذه القواعد، مثل القيادة المركزية التي تشمل مناطق شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر وشمال المحيط الهندي والخليج وآسيا الوسطى. وطبقا لتقرير أخير صادر عن المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم «سيبري» فإن صادرات السلاح الأمريكية حققت نموا بنسبة 17 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة حتى نهاية العام الماضي، مقارنة بفترة السنوات الخمس السابقة. وفي المقابل فإن صادرات روسيا خلال الفترة المذكورة هبطت للنصف تقريبا. وخلال الفترة من 2019 إلى 2023 ارتفع نصيب الولايات المتحدة من صادرات السلاح العالمية إلى 42 في المئة مقابل 34 في المئة خلال فترة السنوات الخمس السابقة 2014- 2018. وتبيع الولايات المتحدة الأسلحة حاليا إلى 107 دول حول العالم، وهو عدد غير مسبوق في تاريخها.
وطبقا لبيان صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في كانون الثاني/يناير الماضي فإن صادرات السلاح الأمريكية حققت زيادة بنسبة 16 في المئة في السنة المالية الأخيرة المنتهية في ايلول/سبتمبر 2023 لتصل إلى رقم قياسي بقيمة 238 مليار دولار. هذه القفزة في الصادرات العسكرية جاءت في سياق اتجاه عدد كبير من الدول، خصوصا في أوروبا، إلى إعادة بناء مخزوناتها من الأسلحة، واستيراد أسلحة جديدة، بسبب الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى استمرار التوتر في المناطق المحيطة بالصين، وحرب غزة. وبلغت الزيادة في قيمة واردات الأسلحة الأوروبية 94 في المئة، أي أنها تضاعف تقريبا في السنوات الخمس الأخيرة مقابل الفترة المماثلة السابقة، وجاءت أكثر من نصف واردات السلاح الأوروبية (55 في المئة) من الولايات المتحدة حسبما قال دان سميث مدير معهد «سيبري». وفي الوقت نفسه فإن أوروبا تستحوذ على ما يقرب من ثلث صادرات الأسلحة في العالم. وقد احتلت أوكرانيا المركز الأول في قائمة الدول الأوروبية المستوردة للسلاح، محققة زيادة في قيمة الواردات بنسبة 23 في المئة مقارنة بالسنوات الخمس التالية لحرب القرم.
وكانت فرنسا أكثر الدول الأوروبية نجاحا في توسيع سوق صادراتها العسكرية، إذ تمكنت من زيادة الصادرات بنسبة 47 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة، لتصبح ثاني أكبر مصدر للسلاح في العالم، متقدمة على روسيا للمرة الأولى. وفي هذا السياق فإن أسواق آسيا والشرق الأوسط استقبلت وحدها ما يزيد عن ثلاثة أرباع صادرات السلاح الفرنسية بنسبة 42 في المئة لدول آسيا والشرق الأقصى، و 34 في المئة لدول الشرق الأوسط. وحصلت الهند وحدها على حوالي 30 في المئة، بفضل صفقات تصدير الطائرات من طراز «رافال» التي حصلت عليها أيضا قطر ومصر. وقد لجأت هذه الدول إلى استيراد المقاتلات الفرنسية على حساب الأمريكية بسبب الشروط المفروضة على تصدير المقاتلات من طراز إف- 35. ومن الواضح أن منطقة الشرق الأوسط ما تزال تحتل أهمية قصوى لصادرات السلاح الأمريكية. إذ إنها تستحوذ وحدها على 30 في المئة من سوق إمدادات السلاح العالمية، مع هيمنة أمريكية ملحوظة بنسبة 52 في المئة تليها فرنسا بنسبة 12 في المئة وإيطاليا 10 في المئة، ثم ألمانيا 7.1 في المئة خلال فترة السنوات الخمس الأخيرة.
المنافسة مع الصين
على الرغم من سيادة الولايات المتحدة على سوق السلاح العالمي، فإن تسارع التجديد التكنولوجي، وظهور قوى عسكرية متوسطة لديها صناعات عسكرية قوية نسبيا، أصبح يهدد استمرار السيطرة على سوق السلاح في العالم. على سبيل المثال فإن التطور الذي أحرزته إيران وتركيا في مجال تطوير وإنتاج الطائرات المسيرة، التي تتكلف الواحدة منها عدة آلاف من الدولارات، قد منح هذه الدول قوة جديدة وسريعة في سوق السلاح. الأهم من ذلك أن تلك الأسلحة المسيرة الصغيرة الحجم، الأقل تعقيدا من الناحية التكنولوجية، المنخفضة التكلفة أصبحت منافسا قويا في السوق للأسلحة الضخمة عالية التكلفة مثل السفن الحربية الضخمة وحاملات الطائرات. وتثبت الحرب في جنوب البحر الأحمر أن قوة عسكرية لا تذكر، ولم تكن تتمتع بأي تصنيف عالمي في قوائم التسلح هي قوات حكومة أنصار الله بقيادة عبد الملك الحوثي في اليمن، استطاعت بواسطة الطائرات المسيرة والزوارق السريعة المصنعة محليا أن تتسبب في تعطيل الملاحة العالمية، وذلك على الرغم من وجود الأسطول الخامس الأمريكي وقوات لدول أخرى. حرب جنوب البحر الأحمر تثبت أنه يمكن تحقيق أهداف عسكرية عظيمة القيمة الاستراتيجية باستخدام أسلحة جديدة بسيطة جدا منخفضة التكلفة.
وتواجه الولايات المتحدة مشكلة أكثر تعقيدا في المنافسة العسكرية مع الصين؛ ففي مجال الأسلحة الفرط صوتية على سبيل المثال، ذكرت وكالة بلومبرغ في تقرير أخير أن الصين أصبحت تقود العالم وتتقدم على الولايات المتحدة وروسيا في مجال إنتاج واختبار وتطوير الأسلحة الفرط صوتية، التي تنطلق بسرعة تتجاوز 5 أمثال سرعة الصوت، ووضعها ميدانيا في وضع الاستخدام العملي. وعلى الرغم من أن الوكالة الأمريكية لتطوير الأسلحة الفرط صوتية أنفقت حتى الآن حوالي 12 مليار دولار فإنها لم تنجح في نشر سلاح واحد فرط صوتي للاستخدام ميدانيا حتى الآن، وذلك حسب شهادة قدمها أمام لجنة فرعية للكونغرس خبير هذه الأسلحة جيفري ماكورميك يوم الثلاثاء الماضي. ولا يتوقف التحدي العسكري الصيني للولايات المتحدة عند حدود الأسلحة الفرط صوتية، وإنما يتسع إلى كافة مجالات التسليح تقريبا، بدءا من أسلحة الدفاع الشخصي للجنود، حيث تتوسع الصين في استخدام بنادق الليزر، إلى مجال القوة البحرية و الأسلحة الفضائية.