أرقام مرعبة حول جرائم الاحتلال في مجمع الشفاء
صدمة بالغة من هول المذبحة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في مجمّع الشفاء الطبي ومحيطه في مدينة غزة على مدار أسبوعين من تنفيذه عملية عسكرية واسعة النطاق تخللها ارتكاب مجازر وجرائم مروعة ضد كل من كان فيه.
غزة بلا "الشفاء"... الاحتلال يمحو رمز الحياة في القطاع الفلسطيني
فقد القطاع الصحي في غزة معلماً طبياً تاريخياً ومجمعاً متخصصاً كانت تحوّل إليه جميع الحالات المرضية الصعبة، بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي لمجمع الشفاء الطبي، والذي يكاد معظم الغزيين يملكون ذكريات معه.
شكّل مشهد الدمار والإبادة التي ارتكبتها قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل انسحابها من مجمع الشفاء الطبي بعد إعلانها الانتهاء من كافة عملياتها، فاجعة كبيرة. فقد كشفت صور جثامين الشهداء ارتكاب الاحتلال مجازر وإعدامات، بالإضافة إلى تعرّض البعض للتعذيب قبل الإعدام. أباد الاحتلال أهم معلم طبي تاريخي في قطاع غزة، والذي يعود تاريخ إنشائه إلى ما قبل النكبة الفلسطينية عام 1948. تأسس مجمّع الشفاء عام 1946 أي قبل عامين من تأسيس دولة إسرائيل، وكان عبارة عن عيادات صغيرة تتوسط أهم مناطق مدينة غزة في عهد الاستعمار البريطاني. وأعلن الهلال الأحمر الفلسطيني أول من أمس، عقب انسحاب جيش الاحتلال، عن خروج المجمع بالكامل عن الخدمة، هو الذي يضم ثلاثة مستشفيات متخصصة هي الأكبر في القطاع. وبذلك، يكون قطاع غزة والمنطقة الشمالية التي فصلها جيش الاحتلال عن الجنوب قد خسرا مجمع الشفاء، وبقيت مستشفيات قليلة في المنطقة الشمالية تعمل بطاقة استيعابية بسيطة.
يقول الطبيب ومدير الرعاية الأولية في مجمع الشفاء الطبي معتصم صلاح إن قوات الاحتلال قصفت وأحرقت كل مباني المجمع من دون استثناء. بذلك، فإن جميع مرافق مجمع الشفاء الطبي لم تعد صالحة للعمل حتى بطاقة جزئية في الوقت الحالي. ويشدد على أن الاحتلال أحرق المباني من الداخل والخارج ودمر أساساتها حتى لا تكون صالحة لإعادة ترميمها بالمطلق، وخصوصاً مبنى الجراحات التخصصي الأول في قطاع غزة. ويشير إلى أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة، أجريت عمليات متخصصة هي الأولى من نوعها في قطاع غزة، منها عمليات قلب صعبة وعمليات عظام معقدة وغيرها. ويقول صلاح لـ "العربي الجديد": "كان المجمع يضم 740 سريراً في الأيام العادية، وقد زادت قبل الاقتحام الأول في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني. كما يضم 26 غرفة عمليات، وقد أحرقت الأسرة وغرف العمليات وأجهزة الفحص المتطورة، علماً أن النسبة الكبرى منها كانت قد جلبت إلى القطاع من خلال منح من دول خارجية. كيف يعوض كل ذلك؟ جرح غزة اليوم أكبر بعد المجزرة في حق المجمع".
وأعرب الغزيون والطواقم الطبية عن حزنهم لمشهد مجمع الشفاء، وقد أشاروا إلى أن العالم أجمع من حكومات ومنظمات دولية إنسانية وإغاثية كبيرة واتحادات كانت قد شاركت في دعم وبناء هذا المجمع، الذي تحول إلى قلب مدينة غزة. لكن الاحتلال أحرقه وأحرق تاريخاً ممتداً كما يقول الطبيب الجراح مدحت عوض. وأعرب الأخير عن حزنه الشديد جراء دمار المجمع أكثر مما حزن على منزله الذي سوّيَ بالكامل في حي تل الهوا في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي.
يقول عوض لـ "العربي الجديد": "ساهم العالم أجمع في بناء مجمع الشفاء الطبي وكل حجر فيه، كالاتحاد الأوروبي والحكومة اليابانية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية ودول أوروبية أخرى ومجلس التعاون الخليجي وغيرها من دول ومنظمات دولية. لماذا تحول المجمع إلى هدف أساسي للقضاء عليه؟ على العالم أن يجيب بنفسه لأنه كان يدعمه لإيمانه بالرسالة الطبية الإنسانية".
مجزرة "الشفاء"... أكبر مستشفيات غزة ركاماً ومقبرة
يتابع عوض الذي عاين تدمير المبنى أن الاحتلال دمّر أهم أقسام العلاجات الطارئة مثل أقسام العلاجات التخصصية لأمراض السرطان والكلى والقلب. يضيف أن الأقسام العلوية لمبنى العلاج التخصصي كانت مغلقة وفي داخلها أجهزة طبية حديثة، ولم يكن يتواجد فيها أي من الطواقم الطبية أو النازحين، لكن الاحتلال كان يتعمد إبادة المجمع والمحيط. يضيف: "لا يمكن تعويض مجمع الشفاء الطبي. الاحتلال هدم منظومة طبية كانت سنداً لجميع حالات الطوارئ والعمليات الجراحية المتخصصة لكل المستشفيات العامة والخاصة في كل قطاع غزة. الآن فقد الجسم الطبي 50 في المائة من كينونته. كان العاصمة الطبية لقطاع غزة، وكان تصميم بعض المباني فيه متقدماً تربط بينها جسور خرسانية، وقد دمرها الاحتلال عمداً".
واتهم المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة جيش الاحتلال الإسرائيلي بقتل 400 مدني وإخفاء جثثهم في أرضية مجمع الشفاء الطبي ومحيطه بمدينة غزة شمالي القطاع، واعتقال 300 آخرين، فيما ظل أكثر من 100 في عداد المفقودين، وذلك على مدار أسبوعين من توغله. ويقول المكتب، في بيان، إن جيش الاحتلال حاول إخفاء جريمته النكراء بإعدام مئات المدنيين والجرحى والمرضى داخل أسوار المجمع من خلال تغطية الجثامين بأكوام الرمال وتجريفها ودفنها وخلطها بأرضية المجمع، مشيراً إلى أن الدمار طاول جميع مناحي المجمّع، وعمد الاحتلال إلى تدمير وحرق وهدم جميع المباني والأقسام بلا استثناء، في جريمة واضحة يندى لها جبين البشرية.
قتل الاحتلال 400 مدنياً في مجمع الشفاء وما حوله (محمد الحجار)
إجهاض محاولات إعادة إحياء المجمع
بناءً على التقييمات الأولية، يُشير عدد من العاملين والأطباء في مجمع الشفاء الطبي إلى أن الاحتلال أقدم على تدمير البنى التحتية للمجمع الطبي والشوارع المؤدية إليه، في محاولة لتدمير معالم المجمع بالكامل لتصبح إعادة إعماره مستحيلة، كما يقول طبيب المسالك البولية في المجمع شوقي أبو رمضان. ويوضح أنه في حال كانت هناك نية لإعادة بناء المجمع مجدداً، فإنه يحتاج إلى سنوات. يعمل أبو رمضان في المجمع منذ أكثر من 20 عاماً، وقد عايش فترة حكم السلطة الفلسطينية ثم حكومة غزة المتمثلة بحركة حماس، وعمل في عدد من المباني التي تجددت خلال العهدين.
يشير أبو رمضان إلى أن المجمع شهد إجراء الكثير من العمليات الجراحية المعقدة، وكان يستقطب عشرات الوفود الأجنبية الطبية سنوياً لمشاركة الأطباء الفلسطينيين في إجراء العمليات بالإضافة إلى تبادل الخبرات. وكانت معظم الوفود تدخل عبر معبر بيت حانون الذي يتحكم فيه الاحتلال الإسرائيلي. ويقول لـ"العربي الجديد": "مخطط الاحتلال في الوقت الحالي هو تفكيك المنظومة الطبية لتقتصر على مراكز صحية ضعيفة تكون بديلة عن مجمع الشفاء الطبي، بهدف خلق مرجعية طبية أخرى والبحث عن بديل أو وسيط كونه المتحكم بالمعابر، ونكون بذلك تحت رحمة الاحتلال في ملفات العلاج في الخارج والداخل في قطاع غزة، ما يعني احتلال القطاع الطبي". يضيف أبة رمضان أن "غزة قبل تدمير مجمع الشفاء كانت شيئا جميلا، وأصبحت بعد تدميره شيئاً آخر. كان المجمع شريان القطاع الطبي والعصب الأساسي له. يضم 26 غرفة عمليات وطواقم طبية مجهزة وإمكانات، ولذلك كانت تحول إليه الحالات الطارئة. اليوم سيكون هناك حالة من التشتت. وسيتحكم الاحتلال في قرارات تحويلات العلاجات الطارئة". ويضم مجمع الشفاء الطبي نقطة مركزية رئيسية لطواقم الدفاع المدني الفلسطينية التي كانت ولا تزال، تعمل بشكل متواصل رغم قلة الإمكانات. ويشير الناطق باسم جهاز الدفاع المدني محمود بصل إلى أن الاحتلال دمر عدداً من آليات وأدوات الدفاع المدني لدى اقتحامه المجمع، وبذلك فقدوا النقطة المركزية الأهم لعملهم.
ذكريات المجمع الطبي
بالإضافة إلى تقديمه خدمات صحية لقرابة أكثر من نصف مليون غزي، فقد تحوّل المجمع على مدار سنوات إلى أهم منطقة حيوية في غزة، عدا عن كونه يربط بين أهم شوارع القطاع. وعلى مقربة منه أقدم مطاعم المأكولات الشعبية في القطاع والحلويات. وخلال السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من الأوضاع الصعبة، افتتحت عدد من المطاعم بالقرب من شوارعه، وقد ساهم في خلق فرص عمل للكثير من الباعة المتجولين والمحلات على مقربة منه. ولا يتوقف الغزيون عن الحديث عن ذكرياتهم مع المجمع الطبي الأكبر، هو الذي يضم أقدم مستشفى ولادة، تحول إليه جميع حالات الولادة الصعبة. ومنه تنطلق التبريكات والزغاريد بقدوم المواليد. ومن قلب المجمع، أعلن مرات عدة عن وقف إطلاق النار في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ما يعني أنه كان مصدراً للأمل.
يشار إلى أن المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس أعلنت أن "تدمير الشفاء يصيب المنظومة الصحية في غزة في مقتل". أضافت: "لقد كان المكان الذي يذهب إليه الناس للحصول على نوع رعاية يوفرها أي نظام صحي جيد، والتي نتوقع الحصول عليها في مجتمعاتنا حال الحاجة إليها".