عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: في فهم الشعوب العربية الإثنين 08 أبريل 2024, 12:53 pm
في فهم الشعوب العربية تعدّدت الأقلام التي تمثل اتفاقًا بين متناقضين حول هجاء العرب والمسلمين، أو الشعوب العربية والإسلامية، أو الأمة العربية والإسلامية، وسقوطهم المزري أمام امتحان غزة. وقد خرجوا من الامتحان مهزومين، ضعفاء عاجزين، متخاذلين، غثاءً تافهًا. بل خانوا دينهم وثوابتهم الوطنية والقومية، وتنكروا لأخلاقهم وقِيَمهم العليا.
بعض تلك الأقلام تصفهم بالسقوط الدائم، والانحطاط المقيم، والتخلف والجهالة. واعتبار كل ذلك في الجينات، أو في العقلية العربية والإسلامية الموروثة منذ القدم. وهؤلاء، عمومًا، من الحداثيين المتغربين المتطرفين.
وبعض ممن شاركوا في الهجاء، ولكن انطلاقًا من أنهم خانوا إسلامهم، وعروبتهم، وتقاليد أمتهم التاريخية التي صنعت يومًا مجدًا، وحضارة وأستاذية عالمية.
الحكم بالإعدام والسؤال ما الذي أثار كل هذا الهجاء. وصعد به إلى الأقصى؟ الجواب بالنسبة إلى البعض الأول، هو غضبهم من المقاومة، وما وصلته من تجرّؤ، وتحدٍ، ونديّة، وإنجازات عسكرية. ومن ثم يُراد تهميشها، وتهيئة الشرط الفكري لإنزال الهزيمة بها، فلا أفضل من هجاء الأمة العربية ككل، أو الأمة الإسلامية؛ لأن المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، عربية وإسلامية ووطنية.
فإذا أغرقنا الأمة، وحكمنا عليها بالإعدام، انطلاقًا من جيناتها، وتاريخها وعقلها وأخلاقها، انسحب كل ذلك على المقاومة، لكونها جزءًا من الشعوب العربية والإسلامية. وهدف هذا البعض قديم يرجع لأيام الترويج للتحديث والعولمة، والتبعية للحضارة الغربية.
أما بالنسبة إلى البعض الثاني، فينبع الغضب من غيرته على المقاومة التي لم تجد نُصرة ومناصرة، كما يجب، من العرب والمسلمين؛ لحمايتها وتأمين انتصارها. مما راح يُعرّضها للوقوف الآن، بين انتصار وهزيمة. مصير المقاومة انتصار، وربما مع ميلان ظاهر أو مبطن بتغليب الهزيمة. هذا تقدير خاطئ، ولكنه واسع الانتشار.
وهنا يبرز السؤال الثاني: ما هي أسباب ما قيل عن كل تلك السمات المنحطة والمريضة، والمزروعة في العقل العربي والمسلم، ومجتمعاتنا وعقلياتنا في الوراثة وفي الجينات، وفي هذا تناقض مع الوقوف في خط المقاومة. لأن من يتبنون الموضوعات التي تنظر إلى الشعب والأمة وإلى مجتمعاتنا بهذه السمات، عليهم أن يفسروا كيف انبثقت المقاومة قيادة وكوادر ومقاومين، من هذه الشعوب والأمة والمجتمعات؟ وكيف نأمل بتغيير ونهضة إذا لم تكن عندنا أرض صالحة للزراعة فيها؟
أضعف التفسيرات التي يقدمها الغيارى هي تلك التي تركز على "العقل" العربي والإسلامي، أو على "الوعي الزائف" الذي استمرأ الخنوع والخضوع والهزيمة، وهجر روح المقاومة والثورة والنهوض. وهذا التفسير لا يبحث عن الأسباب في موازين القوى، وفي الواقع، والبنى التحتية التي فرضت على العرب والمسلمين، بعد أن احتُلت بلادهم في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لقد فرض الاستعمار الغربي سيطرته بإغراق المقاومين والمدافعين، في مواجهته، بالدم، بل أغرق، الشعب كله بالدم. ومن ثم كان تسليط أنظمة استعمارية شديدة القسوة، قتلًا وتعذيبًا وتنكيلًا ، في مواجهة كل مقاومة مسلحة أو انتفاضة، أو ثورة، أو حتى تظاهرة.
الأمر الذي كان يؤدي إلى المعارضة السلمية، أو المهادنة والسكوت، ولكن ليس إلى زرع الخضوع والخنوع والاستسلام المقيم. بدليل ما عرفته كل البلاد العربية والإسلامية من ثورات مسلحة، وانتفاضات، بمراحل متقطعة، فاقت ما فعلته الأمم الأخرى.
ثمة مخزون عقدي مقاوم، وحامل للقِيَم العليا الوطنية والقومية والإسلامية، تتوارثها أجيالنا العربية والإسلامية، جيلًا بعد جيل. وقد حفظت الكثير من السيرة النبوية الغنية بالجهاد والتغيير. وتشبعت بالقرآن، وبما مرّ من حروب ومعارك، وسير لعلماء وقادة شعبيين وحكام، توخوا العدل. بل كان العالم أو الداعية أو السياسي يعلو إذا استقام، وابتعد عن السلطان، وكان يتحجّم ويُعزل في الذاكرة الشعبية إن فسدت سمعته، أو ترامى على أعتاب الحاكم.
وحتى في حياتنا اليومية يتحدّد موقف الرأي العام بالنسبة إلى السياسي أو العالم، أو المثقف بناء على مسلكه، سلبًا أو إيجابًا. ثم أضف ما تكرس في تاريخنا من أحداث وثورات ومقاومة، وتكريس القِيَم العليا والأخلاق، وقد اختزن كل هذا في العقل الجمعي المتوارث.
طبعًا لا يعني هذا نفي ما عرفه تاريخنا من استبداد وفئات ونخب منحرفة، أو خائفة، أو حكام ظلمة أو متقاعسين. أو مراحل كمون عام. ولكنه لا يمثل الصورة العامة التي ترسمها الهجائيات، سابقة الذكر التي تمحو كل إيجابية، ولا ترى التغيير إلا بإدخال الجماهير والأمة إلى المدارس لتعلم الوعي المطلوب، وتشرب ثقافة الثورة والاحتجاج والمقاومة. ومن ثم لا يلحظ أن هذا التعلم، يحتاج إلى الأرض الصالحة التي تنبت ما يزرع فيها.
أما الحالات التي تتبع فيها الجماهير الزعيم أو الحاكم تبعية خاضعة عمياء، بغض النظر عن مسلكه، أو حتى إذا كان مسلكه مدانًا، فهي في الحالات الطائفية، أو القائمة على عصبية من أي نوع.
شعوب محصنة ولكن هذه الحالات يجب ألا تعمّم على الشعوب العربية والإسلامية التي يجب أن تُقرأ وَفقًا لواقعها وتاريخها ومخزونها الأخلاقي الجمعي. أما الدليل فتجاوب جماهير العرب والمسلمين، مثلًا مع كل مقاومة أو ثورة ضد الاستعمار. كما إجلالها للمخلصين والصادقين غير الملوثين.
إن منبع هذه المواقف حتى بالنسبة إلى الأفراد، يأتي من العقل الجمعي والسلوك الشعبي العربي. وهذا يفسّر أيضًا لماذا لم تستطع ثقافة الغرب والاستشراق واحتكار المعرفة، اختراق شعوبنا وجماهيرها العريضة، عدا نخب الحداثة، وبعض النخب التقليدية التي بُهرت بالغرب وثقافته وحضارته، وتمكنت الجامعات الغربية من كيّ وعيها.
فلذلك، فإن تدقيقًا معمقًا واسعًا لمواقف الجماهير أو الرأي العام، بالنسبة إلى المقاومة، ودماء المدنيين الذين تعرضوا للقتل الجماعي في قطاع غزة، سيخرج بنتائج مذهلة من جهة، التأثر والتعاطف والتأييد، للمقاومة وقيادتها والشعب في قطاع غزة، كما بالنسبة إلى الغضب ضد أميركا والغرب مع التركيز على جرائم الكيان الصهيوني، وحتى على جريمة وجوده من حيث أتى.
هذا ما يجب أن يُقرأ عندما تُقوّم مواقف الشعوب العربية والإسلامية، أو الأمة العربية والإسلامية، وذلك من دون اعتبار الأولوية في التقويم أن يُقاس بمدى نزول الجماهير إلى الشوارع أو الثورة على كل حكومة، وكل رئيس إذا ما قصّر، أو تراخى في نصرة المقاومة. ولم يضغط ضغطًا كافيًا لوقف العدوان.
إن عدم النزول إلى الشوارع، أو عدم ترجمة مشاعر الجماهير ووعيها إلى فعل مادي يجب أن يفسّر من خلال البحث عن الأسباب القاهرة، وليس الانتقال إلى الهجاء، وإصدار الأحكام القاسية على الجماهير والأمة. فثمة أسباب لها علاقة بالتجزئة العربية والدولة القُطرية. وأسباب لها علاقة بحدّة القمع، لسنوات وعقود. وأسباب تتعلق بالشروط التي تسمح للجماهير، بأن تنزل إلى الشوارع وتثور. وربما هنالك أسباب تتعلق بإفشال ثورة مصر الشعبية لعام 2011.
قوى القمع فعلًا، كيف يفسّر هذا التناقض بين الوعي والموقف والمشاعر من جهة، وبين عدم النزول إلى الشوارع، أو ما يظهر من هدوء وعدم تحرك قوي. والبعض يحمل الموقف الشعبي حتى ممارسة بعض القطاعات من الناس المشاركة في الحفلات الغنائية أو اللهو.
طبعًا ما من شعب أو أمة إلا وفيه، وفيها، قطاعات لا تهتم بالسياسة، وتندفع إلى السلوك الترفيهي أو اللامبالي. وهذه القطاعات لا تؤثر في الثورات الشعبية، أو التغييرية الكبرى. لهذا يجب ألا تستخدم لتقديم صورة شوهاء أو جزئية لوضعِ الجماهير وتقويمِه، أو تفسير لماذا لا ثورة شعبية هناك.
إن ما يجري في قطاع غزة- سواء أكان من ناحية المقاومة وإنجازاتها، أم من ناحية مشاهد القتل والأشلاء والإصابات المروعة في الأجساد الممزقة، لا سيما، للأطفال، وقد بلغ عدد الشهداء والجرحى أكثر من مائة ألف، وشمل الدمار ما يقارب 80% من العمار والمساكن، بما يمزق القلوب ويثخن في الضمائر- يستدعي أن تثور الشعوب العربية والإسلامية. وهي التي تعيش يومها ومشاعرها في حالة غضب وثورة. ولكن مع بقاء الشارع هادئًا، إلا من بعض الحالات (البلدان) الاستثنائية كالأردن والمغرب، ولا سيما اليمن العظيم بموقف الشعب والقيادة والقوات المسلحة.
إن نزول الجماهير إلى حد فرض إرادتها، والإطاحة بالحكومات، كما حدث في تونس ومصر مثلًا في 2011 أو الأردن 1956 (إسقاط الدخول في حلف بغداد)، وأمثلة أخرى في عهود الاستعمار، أو مرحلة التحرر العربي، أو ثورة إيران 1979، كان الدافع الأول محليًا ومباشرًا، وثانيًا كان النظام، أو الحكومة في حالة تآكل وارتباك، بما يسمح للجماهير أن تتغلب في ميدان المواجهة على قوات الأمن أو الجيش، بعد بذل الدم وكسر إرادة القمع.
أما إذا شعرت الجماهير أن قوى القمع متماسكة والقيادة السياسية للدولة غير متناقضة فيما بينها، وما زالت فتية، لم تشخ، ومن ثم يؤدي النزول إلى شوارع إلى عدم القدرة على كسر إرادة قوى القمع، أو هز عزيمة قيادة السلطة، فالجماهير قد تجرّب ثم تتراجع تجنبًا لمعركة فاشلة. وهو ما لا يواجه الشعب والنخب في الغرب، مثلًا عند النزول إلى الشوارع. حتى لو وُوجه بقمع بحدود.
ثمة فارق مهم بالنسبة إلى معنويات المقاومة بين التقويم الإيجابي والمنصف، لوضع الجماهير، وقياس وعيها وشجاعتها إيجابيًا، وبين ما أشيرَ إليه من هجاء وحكم إعدام على موقف الأمة بالجملة، إذا لم تنزل إلى الشارع، وتعلنها ثورة جبارة.
مخزون ديني وثقافي والسؤال: لماذا يتّسم الوضع في أغلب الدول العربية بأعلى درجات القمع وأقوى أجهزة القمع وأشدها قسوة، وتطوّرًا تقنيًا. وما هذا كله لأن الشعوب العربية والإسلامية، خانعة خاضعة، أو لأن عقلها (الجمعي بالخصوص) مستكين، وجامد، أو لأن إرادتها بليدة وجبانة، أو لأنها بحاجة إلى إعطائها دروسًا في المقاومة والمعارضة، بل العكس، وبسبب هذا العكس، ارتفع القمع، ووصل أعلى مستوياته، في كثير من البلدان. فلو كانت، كما يسرد الهجّاء، لما احتاجت إلى القمع.
بكلمة، لا مقاومة ولا ثورة أو انتفاضة يمكن أن تنجح بلا بنية حاضنة، ومخزون ديني وثقافي وتراثي. وهذا مكانه في الشعوب والأمة.
ودليل آخر: كيف نفسّر التأثر الواسع مصريًا وعربيًا وإسلاميًا، مثلًا عندما أطلق جمال عبد الناصر خطبته في تأميم قناة السويس، أو ضد بريطانيا، أو الكيان الصهيوني وأميركا، أو ضد التخاذل والتبعية؟ الجواب يكمن في تجاوب الخطب مع المخزون الشعبي العربي والإسلامي. وليس العكس، أو فلنقل تلاقي الأمرَين.
وكيف نفسّر ارتفاع صور السيد حسن نصر الله بعد حرب 2006، فوق جدران أغلبية البيوت العربية من المحيط إلى الخليج، أكان استجابة لما في القلوب والعقول من مخزون حب للمقاومة، أم جاء مَن أعاد تثقيفها لتفعل ما فعلت؟
وأخيرًا كيف أصبح أبو عبيدة أُقْنُومًا في العالمَين العربي والإسلامي، ألم يكن استجابة فورية لما فعله "طوفان الأقصى" من قِبَل المخزون الشعبي في الأمة.
هذا يلخص كل الموقف في فهم أو تفهم موقف الشعوب العربية والإسلامية.. موقف الأمة.
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: في فهم الشعوب العربية الأربعاء 10 أبريل 2024, 5:40 am
تحييد الشعوب في معركة غزة.. سياسات الاحتواء والتطويع
أظهرت الحرب على قطاع غزة ضعف تأثير الشعوب العربية والإسلامية على مسار الأحداث؛ فعلى الرغم من رمزية قضية المسجد الأقصى التي شكلت عنوانا للحرب، ورغم جرائم الاحتلال غير المسبوقة، وطول مدة المعركة، فإن سقوف التحركات الشعبية كانت محدودة وخاضعة غالبا لمواقف السلطات الحاكمة.
فيما شهدت محطات سابقة، كمعركة سيف القدس عام 2021، تفاعلا أوسع مدى وأكثر تأثيرا؛ إذ انتفض حينها أهل الضفة الغربية والقدس وفلسطينيو الداخل المحتل، وبلغت التظاهرات في الدول مستويات قياسية، كما اخترق المتظاهرون الحدود الأردنية- الفلسطينية، فكان لهذه المواقف تأثير ضاغط على الاحتلال، أسهم في تقصير مدى الحرب وتقليل مستوى الجرائم المرتكبة بحق أهل قطاع غزة.
لكننا لم نشهد ذات المستوى في معركة طوفان الأقصى، مما يستدعي تفسير التراجع في الفعل الشعبي، واستقراء أفق تطوره في الفترة القادمة.
سياسات تحييد الفعل الشعبي استفاد كل من الاحتلال والسلطة الفلسطينية والعديد من الأنظمة العربية من التجارب السابقة للحراك الشعبي، فأوجدوا بيئة معيقة للتأثير الشعبي، وطبقوا الدروس المستفادة بشكل حثيث في هذه الجولة من المواجهة، وبرز ذلك في أمور منها:
1- العمل القانوني والأمني الاستباقي: منذ عام 1948 وسلطات الاحتلال تعمل على تفكيك مؤسسات ومبادرات العمل الوطني والمقدسي في المناطق المحتلة، وتجريم العديد منها واعتقال نشطائها ومحاكمتهم، وتقييد حرية التعبير، وأسهم في هذا المسار وجود حزمة من القوانين العنصرية والاستبدادية، كقانون النكبة وقانون تمويل الجمعيات وقانون القومية وقانون يهودية الدولة.
كما تمنع شرطة الاحتلال بالقوة المظاهرات، وبالتوازي شرعنت الحكومة تشكيل ميليشيات يهودية مسلحة، أجرى بعضها تدريبات للاعتداء على العرب.
وقد وثق تقرير لمركز "مساواة لحقوق المواطنين العرب في إسرائيل" بمناسبة مرور 100 يوم على الحرب في غزة، ممارسات قمعية سُلطت على المجتمع العربي، مثل:
وجود أكثر من 250 حالة اعتقال في الوسط العربي، بما يشمل اعتقالا لأهداف تبادل الأسيرات. تقديم 132 لائحة اتهام ضد عرب مقابل 3 لوائح اتهام ضد يهود. أكثر من 400 جلسة استماع لعمال وعشرات الإقالات. منع فتح بيوت عزاء لأقرباء استشهدوا في غزة. أما في البلدان العربية التي ترزح تحت آثار الخريف العربي، فتشكل الهيمنة الأمنية عنوان المشهد السياسي فيها، مع مساع رسمية لخلق أجهزة أمنية وعسكرية ذات مواقف ومصالح قليلة التأثر بمواقف ومصالح عموم الشعب.
بالإضافة إلى خلق منظومات دستورية وقانونية تؤصل للاستبداد وتوسع صلاحيات السلطة التنفيذية وتقيد تأثير الشعب على السياسة العامة للدول، علاوة على تفكيك مؤسسات البنى المؤهلة لقيادة فعل شعبي راشد ومستدام، مما يترك أي تحركات شعبية ضحية للفوضى والارتجال وفقدان القيادة.
فيما أسرعت الأجهزة الأمنية بالتضييق والاعتقالات مع بدايات الحراك الشعبي المتضامن مع غزة، وبهذا الصدد طالبت منظمة العفو الدولية في تقرير لها بتاريخ السابع من فبراير/شباط 2024 السلطات الأردنية "بوضع حد لحملة القمع الواسعة التي شهدت اعتقال مئات الأشخاص منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 بسبب تعبيرهم عن دعمهم لحقوق الفلسطينيين في غزة أو انتقادهم سياسات الحكومة تجاه إسرائيل".
الأمن الأردني يمنع تظاهرات منددة بمجزرة مستشفى المعمداني من الوصول لسفارة الاحتلال الأمن الأردني يمنع تظاهرات منددة بمجزرة مستشفى المعمداني من الوصول لسفارة الاحتلال (الجزيرة) وأشار تقريرها إلى اعتقال أكثر من 1000 شخص -من المتظاهرين والمارّة- خلال الاحتجاجات المؤيدة لغزة في العاصمة الأردنية عمَّان في غضون شهرين بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2023.
حيث وُجّهت إليهم تُهم بموجب قانون الجرائم الإلكترونية الجديد الصادر في أغسطس/آب 2023 بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبّر عن مشاعر مؤيدة للفلسطينيين، أو تنتقد معاهدات السلام أو الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها السلطات مع إسرائيل، أو تدعو إلى إضرابات عامة واحتجاجات.
ويستخدم هذا القانون مصطلحات مبهمة وغير دقيقة وفضفاضة، ويجرّم أي خطاب قد يسيء إلى مسؤولي إنفاذ القانون، ويحد من إمكانية إخفاء الهوية على الإنترنت".
وفي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إن السلطات المصرية اعتقلت تعسفا وأحالت إلى النيابة العامة عشرات المحتجين السلميين في مظاهرات داعمة لغزة ومنددة بالاحتلال.
وفي تقرير لاحق لها قالت المنظمة إن السلطات البحرينية اعتقلت وضايقت العشرات بينهم أطفال ممن شاركوا في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في مختلف أنحاء البلاد، وكذلك من شاركوا في أنشطة مناصرة لفلسطين عبر الإنترنت.
2- امتصاص الغضب الشعبي من خلال خلق تفاؤل كاذب يدفع الشعوب إلى خانة المشاهدة بدلا من الفعل ويظهر هذا الأمر جليا في السلوك الأميركي الذي يظهر بعض الاختلاف مع السلوك الإسرائيلي، دون اتخاذ إجراءات رادعة له.
وكذلك في التصريحات الرسمية عالية السقف، كما في حديث الرئيس التركي أردوغان عن "الخطوط الحمراء" والتصريحات الأردنية والمصرية بشأن التهجير، والتي كانت أقرب ما تكون إلى "ظواهر صوتية"، غير مرتبطة بسياسات فعلية على الصعيد الاقتصادي أو الامني أو السياسي.
إضافة إلى تضخيم الأفعال قليلة التأثير، كإنزال المساعدات جوا، والحديث الأميركي عن ميناء عائم لا يوفر نصف احتياجات أهل غزة.
وفي ذات السياق يأتي الانحناء المؤقت لعواصف الغضب الشعبي، دون تغيير التموضع الإستراتيجي للأنظمة المتحالفة مع دولة الاحتلال والولايات المتحدة، وهذا ما حصل عقب مجزرة المستشفى المعمداني، إذ ألغت الأردن القمة الرباعية مع بايدن والسيسي وعباس، بالتزامن مع خروج مظاهرات في الضفة الغربية مطالبة بإسقاط رئيس السلطة الفلسطينية.
ويشمل هذا المسار تكتيكات التفاوض أو الحوار المجتمعي، وتقديم بعض "المكاسب الهشة" للموقف الشعبي، وهي نوع من التنازلات التي يمكن التراجع عنها بسهولة.
3- تشويه الوعي الشعبي من خلال إغراق وسائل الإعلام بالمعلومات الخطأ والأفكار المناهضة للمقاومة يأتي هنا عمل "الذباب الإلكتروني" على منصات التواصل الاجتماعي، إذ يعد هذا الأسلوب بديلا معاصرا عن تكتيك إخفاء صوت المعارضة الذي لم يعد ممكنا بفعل ثورة المعلومات والسوشيال ميديا.
كما تتضمن هذه الجهود تسويق مفهوم انعزالي للوطنية، بما يجعلها نقيضا أو خصما للانتماء العربي والإسلامي، فيما يتم احتكار تعريف "المصالح الوطنية العليا" من قبل أنظمة وحكومات غير منتخبة، ولا تمثل الشعب تمثيلا فعالا.
ثم يأتي دور علماء السلطان الذي يبرز في التشجيع الرسمي "لفكر الإرجاء" وتلميع رموزه، وهي وصفة قديمة "لمواجهة الإسلام بالإسلام".
4- إثارة الانقسامات الاجتماعية وتخويف مكونات الشعب من بعضها الآخر كما حدث إبان الربيع العربي في كل من مصر والأردن، في استلهام للحكمة الاستعمارية سيئة الذكر "فرّق تسد". ففي الأردن على سبيل المثال، يرتفع منسوب الخطاب الجهوي والعنصري من قبل كتاب مقربين من النظام ومن قبل "الذباب الإلكتروني" بالتزامن مع تصاعد التفاعل الشعبي مع القضية الفلسطينية، في محاولة لإشغال الرأي العام، ولمنع حصول إجماع شعبي ضاغط لاتخاذ مواقف رسمية حاسمة بشأن العلاقة مع الاحتلال.
وفي مطلع شهر نيسان 2024 وبالتزامن مع تظاهرات واسعة بالقرب من السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأردنية، تصدّر وسم "أيلول الأسود" منصة إكس (x)، والذي يشير إلى أحداث العنف التي حصلت بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1970.
وأظهر تحقيق لمنصة "إيكاد" دور الذباب الإلكتروني في هذا الأمر، ووجود حسابات وهمية يشغلها الذكاء الاصطناعي للقيام بهذا الدور، وأن بعض هذه الحسابات تعمل على مدار ساعات النهار والليل، بما لا يمكن معه أن تكون لشخص واحد.
5- استمالة الشعب أو بعض نخبه من خلال تقديم الحوافز أو الرشاوى الاقتصادية ويظهر أثر ذلك في الانتقال المتكرر لبعض رموز المعارضة إلى السلطة، دون أن يكون هناك تغير في الموقف الرسمي بما يبرر هذا الانتقال، وهو تكتيك يستهدف إضعاف ثقة الشعب بأي قيادات مجتمعية خارج إطار تأييد المواقف الرسمية.
ويتكامل هذا السلوك مع مسار طبيعي لدى عموم الأنظمة الاستبدادية في "الشرق الأوسط"، وهو ما شرحه بالتفصيل كتاب "السلطوية في الشرق الأوسط: النظم الحاكمة والمقاومة" للباحثة مارشا بوسوزني والباحث ميشيل أنجريست.
الوعي بطبيعة المعركة مع الاحتلال يشكل أساسا للتوفيق بين المصلحة الوطنية والانتماء العربي والإسلامي
نحو تعزيز فعالية الأدوار الشعبية إن الوعي بهذه السياسات السلطوية أمر أساسي لتعزيز تأثير المواقف الشعبية بشأن الحرب على غزة وسواها من مواقف ومصالح الشعوب، كما أن الوعي بطبيعة المعركة مع الاحتلال، بصفته رأس حربة للهيمنة الاستعمارية على المنطقة، يشكل أساسا للتوفيق بين المصلحة الوطنية من جهة والانتماء العربي والإسلامي والإنساني من جهة أخرى.
فيما يبقى نجاح العمل التضامني الشعبي مرهونا بحسن تنظيمه، وتجاوزه الانقسامات الاجتماعية والفكرية التي تعوقه، وتعزز ثقافة التعاون والمصلحة المشتركة. وصولا إلى إيجاد هياكل تنسيقية فاعلة ومستدامة تنال ثقة الشعب، فمن شأن ذلك تقليل الهدر وتضارب الجهود، وتعزيز القدرة على فرض تغيير في السياسات الرسمية بما يجعلها أقرب إلى الموقف الشعبي.
كما يلزم وجود خطاب إعلامي يعلي من شأن المشاركة الشعبية، ويحمل كل فرد من المجتمع مسؤوليته، ويتجنب التهويل من شأن قوة المقاومة، لما يخلقه من تواكل في نفوس المتعاطفين معها، بل ويسلط الضوء على جرائم الاحتلال، وعلى عدم تكافؤ القوى، ويرتكز على حقيقة أن تحرير فلسطين من داخلها "وحده" أمر غير ممكن، وأن النصرة الخارجية حاسمة في تحديد مسار أي معركة.
وبهذا الصدد قدّم أستاذ العلوم السياسية "جين شارب" نظرية للتغيير السلمي في كتابه الشهير "سياسة العمل اللاعنفي"، تشمل أساليب الاحتجاج والإقناع وعدم التعاون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كالمقاطعة والإضراب، والتي تتكامل مع بعضها بهدف تغيير سلوك النظام المستبد، سواء بسبب حصول تحول فيه، أو بدفعه نحو التكيف مع هذه الضغوط، أو بإكراهه على ذلك، بجعلِه في موقف لا يسمح باستخدام العنف ضد المحتجين على سياسته.
وتحقق ذلك رَهْن بأمور منها: الاستعداد لمواجهة القمع الذي يرجح أن يترافق مع بداية الاحتجاج، وإدراك نقاط القوة والضعف لدى السلطة، والديناميات الاجتماعية والاقتصادية لعملها.