تحرك المحكمة الجنائية الدولية تجاه غزة: أسئلة عن أسباب التأخر
تتناقل وسائل إعلام إسرائيلية ودولية، منذ أكثر من أسبوع، أخباراً أولية عن نيّة المحكمة الجنائية الدولية ومقرها مدينة لاهاي الهولندية، إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين متورطين في حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، بمن فيهم رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، في تطور لافت من قبل الجنائية الدولية، المُتهمة بالانحياز لإسرائيل، والتأخر في التحقيق في الوضع الفلسطيني.
هذه الأخبار والتقارير تزايدت خلال الأسبوع الحالي، وشملت تصريحات لنتنياهو الذي انتقد عبر شريط فيديو نشره يوم الاثنين الماضي، إمكانية إصدار الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق مسؤولين وجنود إسرائيليين (وفق التقارير قد تشمل وزير الأمن يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي)، معتبراً إمكانية صدور مثل هذه المذكرات "فضيحة وجريمة كراهية سامية لم يسبق لها مثيل، ووصمة عار على جبين الإنسانية بأسرها لا يمكن محوها". ونقلت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن نتنياهو "خائف ومتوتر" من إمكانية صدور مذكرة اعتقال بحقه. وكشف موقع "أكسيوس" الأميركي، مساء الاثنين الماضي، أن رئيس حكومة الاحتلال طلب المساعدة من الرئيس الأميركي جو بايدن لمنع إصدار المحكمة الجنائية الدولية مُذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين.
وفي الولايات المتحدة، تردد صدى القلق الإسرائيلي من صدور مذكرات الاعتقال، عبر تحذيرات وتهديدات أطلقها عدد من أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كان أبرزها تصريحات رئيس مجلس النواب مايك جونسون، الذي قال إنه "يجب أن نرد على المحكمة الجنائية الدولية بفرض العقوبات وقلب الطاولة عليهم". علماً أن المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيار، قالت أخيراً إن موقف واشنطن "بغاية الوضوح في ما يتعلّق بتحقيق المحكمة الجنائية الدولية (بشأن غزة)، نحن لا نؤيده، ولا نعتقد أنه من اختصاصها".
معلومات "العربي الجديد": إمكانية إصدار المحكمة مذكرات اعتقال بحق نتنياهو عالية جداً
ويمكن للمحكمة الجنائية الدولية توجيه اتهامات للأفراد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، وهي تحقق حالياً في الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي اقترب من إنهاء شهره السابع. وفي هذا السياق، أكدت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، نقلاً عن مسؤولين رسميين في دولة تنشط على الساحة الدولية من أجل فلسطين، وجود تحركات جديّة داخل الجنائية الدولية تجاه مسؤولين إسرائيليين يقوم بها المدّعي العام للمحكمة كريم خان، الذي كان تعرّض لانتقادات قوية من مؤسسات حقوقية، لعدم تحرّكه حتى الآن في فلسطين المحتلة. وبحسب معلومات "العربي الجديد"، فإن إمكانية إصدار المحكمة مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وقادة عسكريين إسرائيليين آخرين، عالية جداً، وإن تحركات جارية بشكل أو بآخر داخل المحكمة. كما علمت "العربي الجديد" أن المحكمة سوف تُصدر في الوقت ذاته مذكرات اعتقال بحق قادة عسكريين وسياسيين من حركة حماس بسبب أحداث السابع من أكتوبر.
وحتى الآن لم تُصدر المحكمة أي بيان رسمي حول الموضوع. وكانت هناك زيارة غير رسمية أوائل شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي لكريم خان إلى الأراضي المحتلة، التقى خلالها عائلات المحتجزين الإسرائيليين لدى "حماس"، واطّلع على ما حصل للمستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة في السابع من أكتوبر. كما توجه خان إلى رام الله والتقى مسؤولين فلسطينيين وسط مقاطعة له من قبل مؤسسات حقوقية فلسطينية تتهمه بالانحياز (بالإضافة إلى أنه زار معبر رفح الرابط بين مصر وقطاع غزة).
ونقلت وكالة رويترز قبل أيام عن مصدرين، أن مدعين من المحكمة الجنائية الدولية أجروا مقابلات مع عاملين في أكبر مستشفيين في غزة. ويعتبر ذلك أول تأكيد على تحدث محققين من المحكمة إلى مسعفين بشأن وقوع جرائم "محتملة" في قطاع غزة. وقال المصدران، إن محققي المحكمة حصلوا على شهادات من موظفين عملوا في مستشفى الشفاء، وهو المركز الطبي الرئيسي في مدينة غزة بشمال القطاع، ومن آخرين عملوا في مستشفى ناصر، المركز الطبي الرئيسي في خانيونس بجنوب القطاع.
يمكن للمحكمة توجيه اتهامات للأفراد وهي لا تحاكمهم إلا إذا كانوا حاضرين في المحكمة
أهمية قانونية ورمزية
وقالت الأستاذة المشاركة في قسم القانون الدولي لحقوق الإنسان في جامعة نبريجا الإسبانية، صونيا بولص، لـ"العربي الجديد"، إن لإصدار أوامر اعتقال محتملة "أهمية قانونية ورمزية وسياسية". وأوضحت أنه "على المستوى القانوني، يعني ذلك أن الدائرة التمهيدية للمحكمة تعتقد أن الأدلة التي قدّمها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، توفر أسباباً معقولة للاعتقاد بأن الشخص الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال، مسؤول عن ارتكاب جريمة أو أكثر من اختصاص المحكمة (إبادة، جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب)". وأضافت أنه "مع ذلك، فإن تنفيذ أوامر الاعتقال أو عدم تنفيذها يعتمد على مدى استعداد الدول للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية".
وعن إمكانية "النجاة" من الاعتقال بسبب الحصانة التي يتمتع بها قادة الدول، قالت بولص إنه "حتى لو كان رؤساء الدول يتمتعون بالحصانة، فإن هذه الحصانة لا تقف أمام محكمة دولية". وأوضحت أن "النظام الأساسي للجنائية الدولية ينصّ بوضوح على أن الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية لأي شخص، سواء بموجب القانون الوطني أو الدولي، لا تمنع المحكمة من ممارسة اختصاصها على مثل هذا الشخص".
وفي حال صدرت مذكرة اعتقال بحق نتنياهو، فهذا لا يعني أنه سيتم اعتقاله مباشرة بحسب بولص. وقدّمت مثالاً على ذلك "صدور أول مذكرة اعتقال من الجنائية الدولية بحق (الرئيس السوداني المعزول) عمر البشير في عام 2009، والتي لم تمنعه حتى من السفر إلى الخارج، حيث استضافته بعض الدول، الأعضاء وغير الأعضاء في المحكمة، في حين أوضحت دول أخرى أن البشير غير مرحب به على أراضيها أو أعادت جدولة الاجتماعات معه لتجنب حضوره وإحراجها". ولفتت إلى أنه "فقط بعد الإطاحة بالبشير من السلطة في عام 2019، دار حديث عن إحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما لم يحدث في النهاية". كما أشارت بولص إلى "مذكرة الاعتقال التي صدرت بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس/آذار 2023".
وبرأي بولص، فإنه "لا يوجد شك بأن بعض الدول ستعرقل امكانية تنفيذ أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين في حال صدورها". وبرأيه، فإن ذلك "قد يكون مختلفاً أو أقل حدة في ما يتعلق بمسؤولين كضباط في الجيش الإسرائيلي أو وزراء، والذين قد تستهدفهم مذكرات الاعتقال"، معربة عن شكوكها بأن هؤلاء "سيتجرؤون على السفر". وذكّرت بأن الجنائية الدولية لا تحاكم الأفراد إلا إذا كانوا حاضرين في المحكمة.
ولفتت بولص إلى أن المحكمة الجنائية الدولية، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، "نجحت في جمع 4 ملايين جنيه إسترليني خلال مؤتمر دولي عُقد في لندن لدعم تحقيقات الجنائية الدولية في أوكرانيا". وأوضحت أن اتهامات التحيّز التي توجه إلى المحكمة "لا تتعلق بتركيزها على أفريقيا فحسب، إذ إنه في الآونة الأخيرة، أدّى الإصدار السريع نسبياً لأوامر الاعتقال في حرب أوكرانيا ضد مسؤولين روس إلى إثارة مزاعم بالعدالة الانتقائية، إذا قارنا ذلك مثلاً مع عدم صدور أوامر اعتقال في ما يتعلق بشبهات ارتكاب الاحتلال جرائم حرب خلال الحرب على غزة في عام 2014، ما دفع الكثيرين إلى القول بأن مكتب المدعي العام سيُنظر إليه على أنه الذراع القانونية لحلف شمال الأطلسي، إذا فشل في اتخاذ تدابير مشابهة في حالات أخرى مثل أفغانستان ومالي وميانمار وفلسطين واليمن".
وأكدت بولص أنه على المستوى الرمزي، يمكن اعتبار إمكانية صدور مذكرات الاعتقال بمثابة "نصر أخلاقي للضحايا الفلسطينيين وهو خطوة أولى نحو إحقاق العدالة". كما أن إصدار مذكرات اعتقال، برأيها، هو بمثابة "ضربة أخرى لصورة إسرائيل، وسيؤدي ليس فقط إلى نزع الشرعية عن عدوانها على غزة، بل وتجريمه أيضاً، وسيزيد من عزلة إسرائيل، وسيكون بمثابة وقود لحركات الاحتجاج الشعبية كالتي تشهدها الجامعات على مستوى العالم والمناهضة للحرب وكل ممارسات إسرائيل القمعية والاستعمارية". أما على المستوى السياسي، فاعتبرت بولص أن ذلك "قد يؤدي إلى زيادة الضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات حاسمة لفرض وقف إطلاق النار".
بدوره، قال مدير مركز عدالة القانوني حسن جبارين، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه وفقاً للبند 59 من نظام روما، يحق للمحكمة "إمّا إصدار مذكرة اعتقال أو دعوة للتحقيق في المحكمة، وذلك يتعلق بالقضية التي تتعامل معها". وأوضح أنه "كي يكون إصدار شيء كهذا، على المدعي العام أن يقوم بتحقيق أولي يشير إلى وجود تهم معقولة وأساس جدّي لتقديم لائحة اتهام، وهذا شرط أساسي". وأضاف جبارين: "طلب المحكمة يقول أيضاً إن سبب الاعتقال أو الدعوة للتحقيق هو منع استمرار المتهم من تنفيذ الجريمة وأيضاً لضمان عدم المسّ بالبيانات المتعلقة بالقضية"، لافتاً رغم ذلك إلى "حق المتهم بالاستئناف".
وعن جوهر القضية التي تتحرك فيها المحكمة الآن، أوضح أنها تحقق بـ"جرائم حرب وليس إبادة جماعية، وعلى ما يبدو سيترك المدعي العام للجنائية الدولية لمحكمة العدل الدولية النظر في قضية الإبادة". وأشار إلى أن تهم جرائم الحرب "سهلة الاثبات على الإسرائيليين، لأنه إذا كان هناك مسّ جدّي وجذري بالمدنيين والأماكن المدنية مثل المستشفيات والجامعات والمدارس، والناس من غير المقاتلين بدرجة غير متناسبة، فهذه تُعتبر جرائم حرب، ومن الواضح أن غالبية القتلى في غزة من النساء والأطفال وغير المقاتلين، وهذا حتى إسرائيل نفسها تعترف به، وسيكون من السهل على المدعي العام إثبات ذلك".
جبارين: تهمة ارتكاب جرائم حرب سهلة الإثبات على الإسرائيليين
وعن إمكانية تعرّض المحكمة الجنائية الدولية لضغوط بدأت معالمها خصوصا من قبل الولايات المتحدة، لاسيما في ظل التهم التي تلاحق الجنائية الدولية بالانحياز، اعتبر جبارين أن الضغوط الأميركية "لديها تأثير جدي على المحكمة وموقف المدّعي العام، فالمدّعي العام يريد الحفاظ على سلامة المحكمة ويستمد شرعية من الدول العظمى لأن هناك مسألة تخص الميزانيات".
يُذكر أنه، بحسب جبارين، فإنه قبل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كان هناك عجز كبير في ميزانية المحكمة لأن العديد من الدول أوقفت الدعم المالي لها و"لأنه لم يكن للدول الكبرى، على رأسها الولايات المتحدة مصلحة بالمحكمة، بل حتى في فترة حكم (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب كان هناك عداء للمحكمة"، مضيفاً أنه "بعد الحرب الأوكرانية، قامت الدول الغربية المركزية مثل الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا، باحتضان الجنائية الدولية وبدأت الحديث بلغة تتلاءم مع القانون الدولي الجنائي، مدركة مسبقاً أن توجيه الأسهم سيكون ضد روسيا". وأشار جبارين إلى أن استخدام الجنائية الدولية ضد روسيا كان "أمراً مهماً، وليس بالصدفة أن قرار المدعي العام كان سريعاً جداً بالنسبة لروسيا خصوصاً ضد بوتين، ما أكسبه شرعية وميزانيات للمحكمة".
تحرك المحكمة الجنائية الدولية: لماذا الآن؟
تبدو إمكانية إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين مسألة وقت، لا بل قريبة جداً، ولكن ما الذي دفع بالمدعي العام للمحكمة للتحرك الآن في المسألة الفلسطينية؟ حول ذلك، اعتبر جبارين أن هناك "عدداً من الظروف اجتمعت ولحظة سياسية دفعت بالمدعي العالم للتحرك: أولاً توجد شرعية للمحكمة بعد إصدار أوامر تتعلق بروسيا وأوكرانيا، لذلك على المدّعي العام أن يستمر في الحفاظ على مبدأ المساءلة في حقوق الإنسان. ثانياً، في المسألة الفلسطينية الإسرائيلية، سوف يكون هناك توازن، فهو يريد أن يُصدر أيضاً مذكرات اعتقال ضد حماس ويريد أن يدافع عن حقوق ضحايا العائلات الإسرائيلية، وهو لا يستطيع أن يكون ضد حماس من دون أن يُصدر مذكرات اعتقال بحق شخصيات إسرائيلية، خصوصاً أن محكمة العدل الدولية قالت إنه يبدو أنه توجد شكوك بحصول إبادة جماعية في غزة".
وأضاف جبارين أن "العامل الآخر الذي يُساعد المدعي العام لانتهاز هذه الفرصة هو الضعف السياسي لنتنياهو داخلياً، فهناك تظاهرات جديّة ضد الأخير في الشارع الإسرائيلي، وهو ضعيف دولياً في ظل خلافات مع الإدارة الأميركية. كما أن النخبة القانونية في إسرائيل قد لا توافق على وجود إبادة جماعية في أفعال إسرائيل لكن أكثر من شخصية توافق على أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، إضافة إلى الحراك العالمي والتظاهرات ضد الحرب خصوصاً ما تشهده الجامعات الأميركية".
وأشار جبارين إلى أن المدعي العام للمحكمة كانت لديه سياسة "لا تتصادم مع الدول الغربية خصوصاً أميركا، لذلك لم يقم بأي حراك ضد إسرائيل سابقاً، لاسيما مع وجود شرعية دولية لإسرائيل بقيادة نتنياهو في السابق، إلا إذا حصلت تغيرات جديدة، وهذا ما يحصل الآن". وكشف جبارين عن علمه بلقاءات شخصية أجراها حقوقيون مع المدعي العام للمحكمة الذي "لمح أكثر من مرة خلال مساءلته واتهامه بالكيل بمكيالين، عندما تحرّك سريعاً في روسيا وأوكرانيا وتقاعس في فلسطين، إلى أن تحرّكه في مسألة أوكرانيا وروسيا قد تساعد على التحرك في مسألة فلسطين، أي أنه عملياً يحتاج إلى شرعية دولية". واعتبر جبارين ذلك "ضعفاً من الجنائية الدولية، لذلك نحن كحركة حقوق إنسان فلسطينية ننتقد المحكمة الجنائية الدولية والمدّعي العام وتقاعسه والاعتبارات السياسية التي يأخذها في الحسبان، فإذا كان يقوم بأي تحرك جديد الآن، فهو يقوم به فقط بعدما حصل تراكم كبير من المتغيرات، ووصلنا إلى الإبادة الجماعية".