إشراف قضائي
كما حرّم الفقهاء التعدي جسديا ونفسيا على السجناء، وتعذيبهم بالضرب أو بمنع الطعام والشراب؛ فإن حصل ذلك ومات السجين بسببه عدّوا ذلك قتل عمد يوجب القصاص من مرتكبه. ويقول الإمام القاضي تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) -في كتابه ‘مُعِيد النِّعَم ومُبيد النِّقَم‘- أن من الواجب على السجان "الرفق بالمحبوسين، ولا يمنعهم من الجمعة إلا إذا منعهم القاضي من ذلك. ولا يمنع المحبوس من شم الرياحين إن كان مريضا…، وإذا علِم السجانُ أن المحبوس حُبِس بظلم كان عليه تمكينه [من الهرب] بقدر استطاعته، وإلا يكون شريكا لمن حبسه في الظلم"!!
وقد ظل الفقهاء والقضاة يوسعون دوائر اختصاص نظرهم ليضمنوا هيمنة العدالة على أكبر قدر من مرافق مصالح الناس وحفظ حقوقهم وكرامتهم، وخاصة السجون لما يقع فيها عادة من مظالم؛ فقرروا أن من أُولى مهمات القاضي -عند تولي منصبه- أن يتسلم ملفات السجناء -التي تتضمن معلوماتهم الشخصية الكاملة- من سلفه القاضي المعزول أو المحوَّل، وذلك أن "القاضي إذا حبس رجلا وجب عليه أن يكتب اسمه، واسم أبيه، واسم جده، والسبب الذي يحبس عليه الرجل، وتاريخ الحبس"؛ كما في ’شرح أدب القاضي للخصّاف’ لبرهان الأئمة ابن مازة البخاري (ت 536هـ/1141م).
ويضيف ابن مازة أن "القاضي المقلَّد (= المعيَّن) يأخذ هذه النسخة من القاضي المعزول أيضا، ويكتب ذلك في تذكرته (= سجله القضائي)، ويجعلـ[ـه] في قِمَطْره (= محفظة سجلاته)، ويختم [عليه] بخاتمه، ويكتب التاريخ في تذكرته من التاريخ الذي أثبته القاضي المعزول لا من وقت عمله" هو، وعلى القاضي الجديد أن يسأل "القاضي المعزول عن المحبسين، وعن أسباب الحبس، ثم يسأل المحبسين عن أسباب حبسهم".
ونستفيد من الحافظ ابن حجر أنه كان ثمة تفتيش قضائي دوري للسجون؛ فقد قال -في ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘- إن القاضي القَيْسَراني الشافعي (ت 531هـ/1137م) "فُوض إليه النظر في المظالم، فاستوضح أحوال المسجونين وأطلق منهم جمعا كثيرا كانوا أيسوا من الخلاص لطول العهد بتركهم في السجن، فطالع بأمرهم الخليفة [الفاطمي]، وسأل في الإفراج عنهم فأذن له في ذلك".
وقد رأينا المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) يستنكر تدهور أحوال السجون في عصره، وكان عالما بما يدور فيها بحكم توليه وظيفة المحتسِب؛ فلذلك رفض ما يقع فيها من مظالم ومآثم، وصرح بذلك -في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘- قائلا: "وأمّا الحبس الذي هو [حاصل] الآن فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك أنه يجمع الجمْعَ الكثير في مَوضِع يضيقُ عنهم، غير متمكّنين من الوضوء والصلاة، وقد يَرى بعضُهم عورةَ بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف والبرد في الشتاء، وربما يُحبس أحدهم السَّنةَ وأكثرَ ولا جِدَة (= قدرة مالية) له، وأنّ أصل حبسه [كان] على ضمانِ" مسؤولِ السجنِ بغرامةٍ ظالمة.
تلك كانت جولة في التاريخ والتشريع، رأينا فيها -من زوايا متنوعّة- قصة السجون والسجناء في تاريخنا، بعضها التزم بما أقرته الشريعة في معاملة السجناء ورعايتهم، وبعضها تعدى الحدود والأعراف والأخلاق، وألقى بالأبرياء من أبناء الأمة علماء وأعيانا في زنازين ضيقة، قضى بعضهم أجله فيها فعلم لمكانته، وبعضهم ظل ذكره طي النسيان؛ وتلك قصة مليئة بمشاهد الآلام والكُربات لا نزال نراها في عصرنا هذا رغم كل ما يقال عن المدنية والحقوق الإنسانية!!