أيهما يقدم على الآخر عند التعارض العقل أم النقل؟
أيهما يقدم على الآخر العقل أم النقل؟ أو هل يمكن أن يكون النقل مطية للعقل؟
قال بعضهم العقل أصل في ثبوت النقل فلا بد من تقديم العقل على النقل، فرد علماء السلف وقالوا العقل أصل في العلم بالنقل والنقل ثابت قبل العقل.
موقف الخلف: فخر الدين الرازي(544-606هـ): "إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، فوجب تقديم العقل. لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، ثم النقل إما أن يُتأول وإما أن يفوض). وذلك عندهم أمر بلا جدال، ومنهج متبع بلا فصال، وليس لتغييره عندهم مجال.
وقال بعضهم: (من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا ومن رجع إلى العقل استقام أمره وصلح دينه). وهذا الكلام قد جعله المتكلمون قانونا شاملا، يقيسون عليه كتاب الله وسنة رسوله قياسا كاملا.
·الرد على قولهم: العقل أصل في ثبوت النقل أن نقول: العقل أصل في العلم بالنقل وليس أصلا في ثبوته.
والجواب أنه إذا تعارض العقل والنقل، لجهل العقل بما ورد في النقل، أو غاب عنه الفهم الصحيح للأدلة القرآنية والنبوية، وجب علي المسلم العاقل قبل التعطيل أو التأويل بغير دليل أن يتقى الله، ولا يقدم عقله وهواه، على كتاب الله وسنة رسوله S، فمهمة العقل تجاه النقل لمن صدق في إسلامه، تصديق المنقول إذا كان خبرا، وتنفيذه إذا كان أمرا.
ومن ثم فإن الله إذا عرفنا بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما في عالم الغيب أو عالم الشهادة وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يصدق بالمنقول عن الرسول Sتصديقا جازما يبلغ حد اليقين الذي ينافي الشك، ولا يرد الأدلة ويعطلها زاعما أنه من أصحاب المدرسة العقلية التي تحكِّم العقل في كل شيء حتى في باب الأسماء والصفات فيوجب على الله بعقله أشياء، ويجوز له من الصفات ما يشاء ويجعل ما نزل من السماء، في الخبر عن الصفات، دربا من الخيال أو المستحيلات.
قال ابن قيم الجوزية في شفاء العليل: (العقل الصريح موافق للنقل الصحيح والشرعة مطابقة للفطرة يتصادقان ولا يتعارضان خلافا لمن قال: إذا تعارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي. فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه: ويشهد حقا أنه هو كاذب).
فالنقل لا يتوقف ثبوته على حكم العقل بصدق النقل، فالنقل أو القرآن والسنة أو الوحي ثابت في اللوح المحفوظ قبل وجود العقلاء، سواء صدق به العقلاء أو كذبوه.
ولذلك يقول تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لقَسَمٌ لوْ تَعْلمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا المُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
وأقسم الله به بالكتاب على أنه في أم الكتاب فقال: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الزخرف.
فالنقل أو ما جاء في القرآن لا يتوقف ثبوته على حكم العقل بصدق الرسل، فإن تكذيبهم يضرهم ولا يضر الرسل، ويؤثر في مصيرهم، ولا يؤثر في صدق الرسل وبلاغهم عن ربهم.
روى البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا أنه قَال: (خَرَجَ عَليْنَا النَّبِيُّ e يَوْمًا فَقَال عُرِضَتْ عَليَّ الأُمَمُ فَجَعَل يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلانِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ ليْسَ مَعَهُ أَحَدٌ – العقلاء لم يصدقوه فهل العيب في الرسول أو العيب فيمن كذبوه؟ - وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيل هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ثُمَّ قِيل لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيل لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيل هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
موقف السلف: صحيح البخاري ومسلم عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال (جاء رَجُلٌ إلى النبي eفقال إِنَّ أَخِي اسْتَطْلقَ بَطْنُهُ فقال رسول اللهِ e اسْقِهِ عَسَلا فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَهُ فقال إني سَقَيْتُهُ عَسَلا فلم يَزِدْهُ إلا اسْتِطْلاقًا فقال له ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جاء الرَّابِعَةَ فقال اسْقِهِ عَسَلا فقال لقد سَقَيْتُهُ فلم يَزِدْهُ إلا اسْتِطْلاقًا فقال رسول اللهِ e صَدَقَ الله وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَسَقَاهُ فَبَرَأَ).
العقل لا يقدم على النقل، والعقل ليس أصلا في ثبوت النقل، وإنما العقل أصل في التعرف على النقل والعلم به، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِليْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ) (النحل:43)، فلو آمن صاحب العقل بالنقل، وصدق رسل الله في بلاغهم عن ربهم، فهو المنتفع المستفيد، وإلا فلا يلومن إلا نفسه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على فخر الدين الرازي الذي قال العقل أصل في ثبوت النقل ولذلك وجب تقديم العقل على النقل عند التعارض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (عدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها، فما أخبر به الصادق المصدوق S، فإنه ثابت سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه، ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله، فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة وثبوت صدق الرسول وثبوت ما أخبر به ليس موقوفا على وجودنا أو عقولنا).
·مثل العامي المستفتى مع الدال على المفتي.
كما أن شأن العقل مع النقل أو الوحي كشأن العامي المستفتى مع الشيخ العالم المفتي، فإذا عرف العامي المستفتى عالما يفتى الناس في أمور دينهم وعقيدتهم، فسأل الناس عن منزله فدله عليه أحد العامة، ثم اختلف المفتي مع العامي الذي دل المستفتى في حكم من ا؟لأحكام، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي ورد كلام الذي دله على المفتي، فلوا أن من دله على المفتى قال له: الصواب معي خذ برأي ولا تأخذ برأي المفتى، لأنني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي طعنت في الأصل الذي عرفك أنه بأنه مفت، فيقول له المستفتي أنت لما شهدت بأنه مفت ودلتني عليه، شهدت بوجوب اتباعه دون اتباعك، وتقليده دون تقليدك، وموافقتي لك في الطريق إلى منزله، لا تستلزم موافقتي لك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، فيجب عليك تقليد المفتى فيما لا مخالفة فيه لشرع الله، فالمفتي يجوز عليه الخطأ في فتواه ولو علمنا خطأه، فالمعصوم في خبره عن الله هو رسول الله e.
فالسلف الصالح لم يجوزوا أبد أن يكون النقل مطية للعقل بحيث يوجه الإنسان آيات القرآن في غير موضعها، ويحول أدلة السنة في غير مسارها الذي جاءت من أجله، كما فعل أصحاب المدرسة العقلية عندما وضعوا أنسقة فكرية في أذهانهم، كفروض يعملون على إثباتها، وغايتهم من البحث في القرآن والسنة، أن يجدوا بين الآيات والأحاديث، ما يؤيد رأيهم، ويقوى عقلهم، فيما ذهب إليه ولو بتعسف، وإن وجدوا في الأدلة ما يخالف مذهبهم قاموا بتأويل الآيات والأحاديث، تأويلا لا تحتمله النصوص، ولا يقوم على دليل واضح، أو قاموا برد الأحاديث الثابتة بالسند الصحيح بزعم أنها ظنية من رواية الآحاد، التي لا تفيد اليقين في أمور الاعتقاد.
·أيهما يحكم على الأشياء بالحسن والقبح العقل أم النقل؟
وهنا سؤال أخير ربما يطرحه بعض المفتونين بالعقل من أصحاب المذاهب العلمانية، فربما يقول أحدهم هل معنى ذلك إن العقيدة السلفية، تحارب العقل وتجعله أسيرا للنقل؟
أين التفتح والانفتاح، أليس للعقل شيء مباح؟ الغرب تقدموا بالعقل ووصلوا إلى القمر، وهيمنوا علينا ونحن في ذيل البشر؟ فأيهما يحكم على الأشياء بالحسن والقبح؟ فنقول لهؤلاء إن العقول تختلف في نظرتها إلى الأشياء حسنا وقبحا، فما يراه العاقل خيرا يراه غيره شرا، ولذلك تتعارض المذاقات وتشتعل الخلافات، فهل الحسن والقبح في الأشياء، مرده إلى النقل فقط دون اعتبار للعقل؟
والجواب هنا يتعلق بفهمنا للأحكام الشرعية التكليفية. أحكام العبودية وهي درجات الأمر التكليفي بالفعل أو الترك من حيث إلزام العبد بها أو تخيره فيها، وهي الأحكام الشرعية التكليفية التي دل عليها كتاب الله سنة رسوله S وتتمثل في خمسة أنواع:
1-الواجب: ويسمي أيضاً بالفرض وهو ما أمر به الحق تبارك وتعالي أو أمر به رسوله صلي الله عليه وسلم وألزمنا بفعله إلزاماً يقتضي العقاب لتاركه، كما أن فاعل الوجب يثاب على إمتثاله لأمر الله (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَليْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ) أو يصرح الشارع بلفظ: فرض أو وجب، فإنه مصرح بدرجة الحكم وهي الفرضية أو الوجوب كما في قوله S لمعاذ بن جبل t: (فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَليْهِمْ خَمْسَ صَلوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَليْلتِهِمْ). وكقوله صل الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل)، فالغسل حكمه الوجوب لتصريح الشارع بذلك
2-المستحب: ويسمي أيضاً بالمندوب أو السنة:وهو ما أمر به الحق تبارك وتعالي أو أمر به رسوله صلي الله عليه وسلم دون إلزام بفعله، بل يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. ومن أمثلته ما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إلي أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) ولكن جاءت قرينة آخرى في الآية التهية بينت أن الله لا يريد منا الوجوب ولكن يريد الاستحباب والندب، قال تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ). وقد أمر رسول الله S ثلاث مرات بالصلاة قبل المغرب في حديث عَبْد اللهِ الْمُزَنِيّ t فقَال: (صَلُّوا قَبْل صَلاةِ الْمَغْرِبِ، قَال فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً).
3-المباح: وهو ما خيرنا فيه الشارع بين الفعل أو الترك ففعله كتركه وقوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلِحُونَ)، فالأمر في قوله: (فانتشروا) للتخيير والإباحة لأنه ورد بعد حظر ومنع، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلي ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلمُونَ).
4-المكروه: وهو عكس المستحب وتعريفه: هو ما نهي عنه الشارع لا علي وجه الحتم والإلزام أو هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعلهكَتَرْكِ صَلاةِ الضُّحَى مَثلا لا لِنَهْيٍ وَرَدَ عَنْهُ وَلكِنْ لِكَثْرَةِ فَضْلِهِ وَثَوَابِهِ.
5-المحرم: ضد الواجب وهو:ما نهي عنه الشارع علي وجه الحتم والإلزام والمحرم. يثاب تاركه إمتثالاويعرف الحرام أيضا إذا ورد التصريح بلفظ التحريم كقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَليْكُمْ الْمَيْتَةُ)، وقوله: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى الْمُؤْمِنِينَ). فهذا التحريم تكليف من الله تعالى لعباده بالمنع، ويعرف الحرام أيضا بأن تكون الصيغة التي تدل على طلب الترك مقترنة بوعيد وعقاب، كالمنع من الجنة أو الدخول في النار أو اللعن أو الغضب أو الذم أو القبح أو ما شابه ذلك.