طوفان الأقصى.. كيف يمكن قراءة الموقف التركي؟
رغم العلاقات الوثيقة التي ربطت تركيا بإسرائيل على المستوى الرسمي منذ عام 1949، فإن هذه العلاقات تعرضت لاهتزازات شديدة الوطأة خلال العقدين الماضيين عقب تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم وحتى الآن.
ففي سبتمبر/أيلول 2011 أعلن وزير الخارجية حينها أحمد داود أوغلو، طرد السفير الإسرائيلي لدى أنقرة وتعليق كافة الاتفاقيات العسكرية إثر رفض تل أبيب الاعتذار عن مهاجمة أسطول الحرية في مايو/أيار 2010 الذي كان في طريقه إلى غزه في خطوة رمزية لكسر الحصار، حيث أفضى الهجوم إلى مقتل 9 أتراك.
وفي مايو/أيار 2018 طردت تركيا السفير الإسرائيلي مجددا، ومعه القنصل العام الموجود في إسطنبول، إثر المذبحة التي ارتكبتها قوات الاحتلال على حدود قطاع غزة.
لكن ردود الفعل الأولية الصادرة من أنقرة، عقب بدء عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من اعتداءات إسرائيلية وحشية على قطاع غزة، تشي بأن الإستراتيجية التركية إزاء التعامل مع الأزمة هذه المرة سيكون مختلفا عما حدث عامي 2011 و2018، اتساقا مع سياسة التطبيع التي تنتهجها أنقرة مع تل أبيب خلال السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل.
هذه السياسة التي توجت بزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لأنقرة في مارس/آذار 2022، في زيارة هي الأولى منذ 15 عاما. ثم اللقاء الذي جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، حيث ناقشا سبل تحسين العلاقات، والتعاون في مجال الطاقة سواء من حيث الإنتاج أو التوزيع، وهو الملف الذي توليه تركيا أهمية قصوى.
من هنا يمكن قراء الإستراتيجية التركية الرسمية والشعبية في التعامل مع الأزمة، في ضوء تلك التطورات التي أشرنا إليها، على النحو التالي.
أولاً: الانحياز إلى الفلسطينيين دون الاصطدام بإسرائيل
ففي الساعات الأولى التي تلت انطلاق "طوفان الأقصى" اتصل أردوغان بنظيريه الفلسطيني والإسرائيلي، حيث أكد لمحمود عباس أن تركيا تبذل قصارى جهودها من أجل إنهاء الاشتباكات وإرساء الهدوء في المنطقة بأقرب وقت، وبينما قدم التعازي لهرتسوغ قال له إن "أي خطوة يمكن أن تلحق الضرر بشعب غزة بشكل جماعي وعشوائي ستؤدي إلى زيادة المعاناة ودوامة العنف في المنطقة".
ثم أصدر أردوغان بيانا مطولا باللغة العربية على حسابه بمنصة "إكس" قدم من خلاله رؤية تركية تحاول أن تتبنى موقفا متوازنا قدر الإمكان، حيث أكد التالي:
اعتبار القضية الفلسطينية هي حجر أساس توتر المنطقة بأكملها، وأن تلك المشاكل لن تحل "من خلال المضايقات المستمرة ضد الشعب الفلسطيني وتجاهل سلامة أرواحه وممتلكاته ومصادرة منازله وأراضيه وتخريب البنية التحتية له وعرقلة تنميته".
رفض المقاربة الإسرائيلية في معالجة الأزمة، التي تتجاهل بشكل تام الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، محذرا من أنها ستؤدي إلى إراقة المزيد من الدماء من الطرفين، وستصيب مساعي السلام بخيبة أمل.
رفض جميع الممارسات التي تقوم بها قوات الأمن الإسرائيلية والمستوطنون ضد الشعب الفلسطيني من ضغوطات وظلم وإعدامات وفي الوقت ذاته رفض جميع الأعمال "العشوائية" تجاه المدنيين الإسرائيليين.
عدم قبول تدمير قطاع غزة بالهجمات البرية والجوية غير المتكافئة وقصف المساجد وقتل الأطفال والنساء والمسنين والمدنيين الأبرياء، وأيضا رفض مثل هذه الأعمال حال حدوثها تجاه المدن الإسرائيلية.
تأكيد أردوغان على اضطلاع تركيا بتأمين المساعدات الإنسانية لأهالي غزة.
ثانياً: الاستعداد التركي للعب دور الوساطة
في أزمات سابقة، رأينا فيها تركيا تتحول إلى طرف من أطراف الأزمة، بصدامها السياسي والدبلوماسي مع إسرائيل. لكن هذه المرة، تحاول لعب دور الوسيط بين طرفي الأزمة. لذا حرص وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على إجراء محادثات هاتفية مع نظيره التركي، هاكان فيدان، مرتين من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
ثم كانت الاتصالات التي أجراها فيدان في المنطقة مع نظرائه في المنطقة، وفي مقدمتهم وزير الخارجية المصري سامح شكري، لاحتواء الأزمة قبل أن تقرر إسرائيل قصف قطاع غزة بهذه الوحشية.
هذه التحركات الأولية يعود فيكررها أردوغان -عقب بدء القصف الإسرائيلي- بتأكيده جاهزية بلاده لأي نوع من الوساطة بما في ذلك تبادل الأسرى، في حال طلبت الأطراف ذلك.
ثالثا: تباين المواقف الشعبية والحزبية
كان لا بد أن يتأثر "طوفان الأقصى" برذاذ الانقسام الحدي بين المحافظين والعلمانيين المعروف في المجتمع التركي.
فقد استغل ناشطون وصحفيون "علمانيون" الصور التي بثت في الساعات الأولى لبدء العملية لاحتجاز نساء ومدنيين، للتشهير بالمقاومة الفلسطينية ورفضهم التام للعملية مهما كانت المبررات، كما أعلنوا تضامنهم مع "المدنيين" الإسرائيليين.
في مقابل ذلك، حرص التيار المحافظ على حشد الشارع التركي دعما للمقاومة، حيث نظمت جمعيات تركية إسلامية مظاهرات في إسطنبول على مدار يومين، إحداها كانت أمام القنصلية الإسرائيلية، كما نظم حزب هدا بار "كردي إسلامي" مسيرة ضخمة بالسيارات في مدينة ديار بكر، في حين نظم إسلاميون في مدينة ماردين فاعلية تضامنية مع الشعب الفلسطيني.
كما حرص ناشطون وصحفيون "محافظون" على إعادة تذكير الرأي العام التركي بجرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد النساء والأطفال بصفة خاصة، من خلال إعادة بث مقاطع مصورة قديمة.
أما على المستوى الحزبي، فقد أعلن زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض دعمه للشعب الفلسطيني، في حين أبدى رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهشلي، انزعاجه من الهجوم الذي نفذته حماس، مع تأكيده على مسؤولية إسرائيل في ما قامت من أعمال ضد المدنيين.
لكن يبقى السؤال: إلى أي حد تستطيع تركيا الحفاظ على هذا التوازن مع تصاعد الأعمال العدوانية الإسرائيلية؟
في تقديري أن الأمور حينها ستتجه أكثر إلى دعم الشعب الفلسطيني.