مع مذكرات أخطر سفير إسرائيلي في مصر (2)
كان موشيه ساسون يتقن اللغة العربية واللهجة المصرية، وهذا ساعده في مهمته، ولعل هذا من أسباب اختيارهم له لتولي منصب السفير.
اغتيال السادات وعلاقته بإسرائيل
تحدث ساسون في كتابه بإسهاب مفصّل عن حادثة اغتيال السادات (واقعة المنصة)، حيث كان ساسون من ضمن الحضور، وكان يجلس على مقربة من مقعد السادات، في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1981م. وذكر كيف تمكن من الخروج مع بقية الإسرائيليين بطريقة أشبه بالمغامرة المثيرة من مكان الحادث الذي امتلأ بالفوضى، وكيف حرصت الأجهزة الأمنية المصرية على تأمينهم، بعد لجوئهم إلى بيت طبيب مصري.
ذهب ساسون إلى تعميم مفاده أن الثقافة العربية والإسلامية مشبعة بجواز القتل أو الاغتيال السياسي، وربط بفجاجة لا تتسق مع أي منطق علمي تاريخي، بين مجموعة الحشاشين، ومحاولات أو عمليات اغتيال استهدفت سياسيين
ويتحدث عن تفصيلات حضور مناحيم بيغن مراسم الدفن، مع أنه كان يعاني من مشكلة صحية تؤثر على قدرته على المشي، وفي نظر بيغن وساسون فإن رحيل السادات خسارة كبيرة.
المثير هنا أن (موشيه ساسون) لا يتورع (ص202- ص203) عن نفي قطعي لكون عملية اغتيال السادات كان من أبرز أسبابها توقيعه اتفاق سلام مع إسرائيل؛ مع أن المنفذين أكدوا بكل وضوح هذه الحقيقة. بل ذهب ساسون إلى تعميمٍ مفاده أن الثقافة العربية والإسلامية مشبعة بجواز القتل أو الاغتيال السياسي، وربط بفجاجة لا تتسق مع أي منطق علمي تاريخي، بين مجموعة الحشاشين (قبل ألف عام)، ومحاولات أو عمليات اغتيال استهدفت جمال عبد الناصر وحافظ الأسد والأسرة الملكية في العراق، وصولًا إلى اغتيال السادات، دون أن يكون لخطوة الأخير باتجاه إسرائيل علاقة أو سبب باستهدافه!
وساسون كتب هذا النص بالعبرية، أي لقومه أساسًا؛ أفكان جاهلًا وهذه فعلًا قناعته، أم أنه تقصّد تضليل القارئ الإسرائيلي، بإنكار ونفي الرابط المعلوم بين كامب ديفيد واغتيال السادات؟ أم هناك شيء آخر غير مفهوم في هذه المسألة؟
ولكن هذا يدلّ على الاستعلاء، والاتهام المبطن -بل شبه الصريح- للثقافة العربية والإسلامية من سياسي صهيوني شرقي (هو من مواليد سوريا)، وكأنه ينتمي إلى مرجعية ثقافية لا قتل في نصوصها المتداولة، وصولًا إلى ممارساتها الفعلية. أي أن "السكريبت" الخاص بكل مسؤول إسرائيلي هو ادعاء الحضارة والرقي والإنسانية، واتهام المسلمين بالبربرية والهمجية ورغبتهم بسفك الدماء كميزة متأصلة، ولو بكلمات وصيغ تتجنب التصريح العلني بهذا أحيانًا.
الأسئلة العويصة
هكذا حرفيًا وصف موشيه ساسون في الفصل الخامس (ص155) الأسئلة الثلاثة التي كانت تؤرقه: ما مصير اتفاقية السلام مع مصر في حال ترك السادات منصب الرئاسة؟ وهل سيستمر السلام بعد عودة سيناء إلى السيادة المصرية (تم الجلاء في 1982، أي بعد 3 سنوات من توقيع الاتفاقية وتبادل السفراء)؟ وفي حال شنت إسرائيل حربًا على دولة عربية هل سيتأثر السلام مع مصر؟
الواقع العملي أثبت أن الإجابة عن أسئلة ساسون الثلاثة (العويصة) هي "لا" كبيرة؛ فإذا كان ساسون قد غادر منصبه في القاهرة صيف 1988، ورحل عن الدنيا في 2006 فإنه قد رأى -ونحن الآن في صيف 2024 نرى- استمرار (السلام) بين مصر وإسرائيل، مع كل ما جرى ويجري من تغيرات سياسية في إسرائيل ومصر والإقليم والعالم.
وشهدنا استغلال إسرائيل ذلك منذ المرحلة الأولى وحتى الآن، لتمارس ما تفضّله من عدوان على العرب؛ فقد قصفت طائرات إسرائيل الحربية المفاعل النووي العراقي في 1981، وقامت باجتياح لبنان.
وما بين قصف المفاعل العراقي، ومجازر غزة حاليًا، سلسلة متصلة من الاعتداءات والجرائم الإسرائيلية، منذ قرار السادات التصالح معها.
ساسون يمثل سياسة دولة وحكومة، وهو ليس مجرد موظف روتيني؛ وقد عمل بجهد محموم على تسلل ثقافة التطبيع في مصر، ولكن دون مقابل ولو رمزيًا من إسرائيل
حالة منفصلة
موشيه ساسون في مذكراته لا يدع مجالًا للشك في أنه سعى وتعامل مع مصر (شعبيًا ورسميًا) كحالة منفصلة عن محيطها وانتمائها العربي والإسلامي، أو أراد أن تكون كذلك عبر نشاطه السياسي المعلن.
وساسون يمثل سياسة دولة وحكومة، وهو ليس مجرد موظف روتيني؛ وقد عمل بجهد محموم على تسلل ثقافة التطبيع في مصر، ولكن دون مقابل ولو رمزيًا من إسرائيل. بل وصل به الحال إلى أن يزعم أن تدمير المفاعل النووي العراقي كان لصالح دول عربية، اختلفت مع صدام حسين لاحقًا، وقد أبدت غضبها عند العدوان الإسرائيلي.
هو ذات المنطق السائد الثابت إسرائيليًا؛ أي امتلاك قوة هائلة وجعل العرب يطلبون حماية إسرائيلية فيما بينهم، أو بين إخوة وجيران أصليين!
تغيير دون مقابل
فمثلًا، تحدث عن زيارة للمتحف القومي، وتقديمه هناك ملاحظة إلى مسؤول استقبلهم بحفاوة، عن طائرة في المتحف معروضة في جناح مخصص للحديث عن حرب أكتوبر/تشرين الأول، 1973، وقد كتبت عليها عبارة "نهاية القصة"، بعد تدميرها وإسقاطها من قبل القوات المصرية، وقد وعده المسؤول بدراسة ملاحظته أو اقتراحه، ويبدو أنه اطمأن بأن العبارة ستزال أو يتم تعديلها، ولكنه بعد مدة عاد وزار المتحف ولم يجد تغييرًا، فأبدى غضبه أو أسفه..
المهم هنا أنه يريد من مصر إحداث تغييرات تمس حتى تاريخًا قريبًا، وتتنصل تمامًا من روابطها الإسلامية والعربية، بحيث تكون العلاقة مع إسرائيل أصلًا وما سواها فرعًا. وكل هذا دون أن يتحدث عن أي شيء قدمته إسرائيل في المقابل، من ترويجها ثقافة الكراهية والاستعلاء والتكبر والعنصرية المفرطة، التي تتشربها أجيالها قبل وأثناء وبعد اتفاقيات السلام مع مصر أو غيرها.
ويذكر أيضًا لقاءه الأخير مع الرئيس حسني مبارك قبيل ترك منصبه، وأنه طرح أمامه ما يعتبره تحريضًا على اليهود في الإعلام، خاصة في البرامج الدينية في مصر، وكانت ردة فعل مبارك أنه أصدر أمرًا فوريًا بحضور ساسون بوقف هذا التحريض المزعوم في الإعلام.. فماذا عن الإعلام الإسرائيلي؟ وهل طلب مبارك من ساسون شيئًا مشابهًا؟.. لا!