مصر: خطايا المؤسس
مشروع محمد علي التحديثي في جوهره مخطط للحكم الأسري
حتى اليوم لا يزال موضوع هذا الكتاب، أهم أزماتنا في مصر، "التوظيف السياسي للدين والقانون في مشروع محمد علي"، والذي يصفه مؤرخون مصريون بـ "مؤسس الدولة الحديثة"، وهو أمر فيه نظر ويستحق البحث إثباتاً أو نفياً، خاصة أن الرؤية ذاتها يتبناها الخطاب الرسمي للدولة المصرية، ملكية كانت أو جمهورية، وهي واحدة من ملامح التشابه بين نظامي الحكم اللذين وإن كانا يختلفان في بعض التفاصيل لكن الجوهر واحد، فالملك أو الرئيس يظل في الحكم إلى النهاية ويليه ولي عهد من نسله في الحالة الأولى، ومن قومه وجيشه في الحالة الثانية لتستمر الدولة في السير على نهج المؤسس وأساليبه الأداتية للبقاء في الحكم، والتي يبدو أنها أصبحت جزءاً من حمض البلاد النووي "دي إن إيه".
في البدء وظّف محمد علي أدوات كثيرة ليغتنم الحكم وليبقى وراثياً في أسرته كما تقول الدكتورة نجلاء مكاوي مؤلفة الكتاب الصغير حجماً (103 صفحات) والكثيف فكراً، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عام 2018، موضحة أن الدراسة تتبنى تصوراً لمشروع محمد علي يقوم على كونه "مُخطَّطاً للحكم الأسري"، وبالتالي يصبح تطور بناء دولته الحديثة ووظيفتها أمرين مرتبطين بهدفه الرئيسي، وهو الاستمرار في الحكم وانتقاله لذريته من بعده، وفرضت حدودُ ذلك الهدف وطبيعته وما واجهه من عقبات مادية وظرفية تاريخية، استخدامَ وسائل بعينها، حتى اليوم لا تزال فعالة رغم تبدل نظام الحكم شكلاً لا مضموناً، وبالتالي تستمر المشاكل الناتجة عن توظيف الحاكم للدين والقانون ضمن مشروعه، لكون طبيعة العلاقة بينهما ودورهما في الدولة لم يحسما بعد.
لذا يستخدم الحاكم الدين وظيفياً من أجل صناعة أيديولوجيا رسمية، لـ"عهده الملكي التحديثي"، أو حتى لـ "جمهوريته الجديدة"، وتتسم بكونها لا تقبل المنافسين، كما سنوضح كيف تعامل معهم بعد قليل، كما يلعب القانون دوراً لا يقل أهمية في تأثيره أو إشكالياته المستمرة نظراً لأنه من أنماط الإخضاع والسيطرة، والتي لم ينتقل بها الحكم المطلق أو نمط السلطة المتوالي في مصر، إلى صيغة حقيقية وتامة للمفاهيم الحداثية، وبدلاً من ذلك تحول إلى تقنية سيطرة غير منضبطة تحقق هدف الغلبة على المجتمع والبلاد من أجل الاستمرار في الحكم عبر صيغ مفرطة في "العنف والإذلال والانتقام، ومجسدة لعلو سلطة الحاكم فوق كل سلطة، بشرط أن تكون خاضعة لإرادته وتقويمه"، وهو ما يتكرر في مواجهة خصوم كل من جاء بعد محمد علي وحتى اليوم.
السيطرة على المجتمع المصري وسحق تمظهراته القيادية أو الشعبية المعارضة، من أجل تحقيق هدف الانفراد بالسلطة، إذ تخلص كبيرهم الذي علّمهم الحكم من كل من جاؤوا به للسلطة (هل يذكرك هذا بشيء؟) وبدأ بالسيد عمر مكرم نقيب الأشراف وقائد التمرد على الوالي العثماني المرفوض شعبياً، بعدما قاد العلماء وجموع الشعب لتحدي سلطة الباب العالي مرتين ونجح في تثبيت حكم البكباشي محمد علي، والذي استمال عدداً من رفاق مكرم وفتّت وحدتهم حتى تمكن من عزله عن نقابة الأشراف ونفاه بـ"الدين والقانون" إلى دمياط، "لكونه أدخل جملة أقباط وأشرار الناس في سجل الأشراف"، كما قال محمد علي في التماسه الموجه للصدر الأعظم، والذي قام على فتوى شرعية قدمها منافسو مكرم، مشهِّراً به قانونياً ودينياً، ولعل التمعن في ما جرى يجعلك تتذكر حالات مشابهة ومتكررة في عهود رؤساء مصر كما ملوكها.
الخطوة الثانية كانت إزاحة ممثلي النظام القديم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهم المماليك وأصحاب الامتيازات الضريبية والمالية وفيهم العلماء، ليستبدل أنصاره بهم ويصنع نخبته، لكنه واجه معضلة جراء استخدم القانون لمصادرة أراضي الوقف المرصودة للمساجد وأعمال البر والصدقة وكذلك أراضي الالتزام دون تعويض أصحابها، لذا اكتسب اعتراض الفئات المستهدفة حجة دينية في مواجهة محمد علي الذي أرسل لهم ممثله كتخدا بيك، بعدما تجمهروا في الجامع الأزهر بقيادة العلماء لأن ما يجري "خراب للمساجد وإبطال لشعائر الإسلام"، فما كان من وزير مالية محمد علي ومسؤول جمع الضرائب المعلم غالي القبطي إلا أن رد عليهم بأن مساعدة الباشا هي "لخلاص كعبتكم ونبيكم من أيدي الخوارج"، "في إشارة للحرب ضد الوهابيين"، أي أن ما يجرى يدخل ضمن "تمويل الجهاد"، ما يوضح أن محمد علي قابل الحجة الدينية بمثيلتها كما تقول الدكتورة مكاوي، وتضيف أن محمد علي استند إلى فتوى شرعية مؤداها أن مصر أراضيها فتحت عنوة، لذا عليها أن تدفع الجزية وله أن يفرض ما يشاء من ضرائب لأنه نائب السلطان، والمفارقة أن مصطلحات مثل "الخوارج" لا تزال مستخدمة حتى اليوم لدى حديث رجال الدين الموصوفين بـ"علماء السلطة" عن معارضيها، كما أن فرض الضرائب لا يزال جارياً بالطريقة ذاتها أى إرادة الحاكم المنفردة، رغم تغير الزمن والقواعد التي جعلت الأمر مرهوناً بالتمثيل في برلمان يقوم على سلطة وإرادة الشعب التي غيّبها محمد علي منذ تأسيسه لـ"مصر الحديثة" وما تزال حتى اليوم.