البعد الثقافي للصراع العربي ـ الإسرائيلي
في الثقافة اليهودية ان العالم كله ضد اليهود، وان من يؤيدهم فهو اما منافق أو انتهازي، ولذلك فان هذه الثقافة تجسد عدم الثقة بالآخر وعدم الاطمئنان الا الى الذات اليهودية.
لا تنطلق هذه الثقافة من فراغ. فتاريخ العلاقات اليهودية مع العالم حافل بالمحن والمآسي الانسانية التي كان اليهود ضحاياها. من روسيا القيصرية حيث تعرض اليهود للاضطهاد والتنكيل، امتداداً حتى بريطانيا حيث منعوا من دخول المملكة، مروراً بفرنسا حيث تشكل قضية الضابط اليهودي الفرنسي دريفوس نموذجاً للاضطهاد، وانتهاء بألمانيا حيث مارست النازية الهتلرية أبشع ما عرفته الانسانية من جرائم ضد الانسانية تمثلت في معسكرات الاعتقال التي تحولت الى أفران لصهر الأجساد البشرية.
حتى تجارب الهجرة من دولة الى اخرى، سواء كانت هجرات فردية أو جماعية، اتسمت بالكثير من صور المعاناة. ولم تكن الولايات المتحدة بالذات بعيدة عنها. فقد منعت أثناء الحرب العالمية الثانية سفينة شحن كانت تنقل مهاجرين يهوداً من أوروبة من الرسو في أي من موانئها.
واليوم عندما يندد المجتمع الدولي بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، وفي مدن ومخيمات الضفة الغربية وكذلك في لبنان، وعندما يدين ارتكابها جريمة القرصنة في المياه الدولية ضد قافلة تحمل مساعدات انسانية الى غزة المحاصرة، فان الثقافة اليهودية تتعامل مع هذه المواقف الانسانية على انها امتداد واستمرار لمشاعر الكراهية ضد اليهود.
وفي الثقافة اليهودية ايضاً أن ما عاناه اليهود لأجيال عديدة على أيدي المجتمعات الغربية من شرق جبال الأورال حتى غرب نهر التايمز، يحتم على هذه المجتمعات أن تدفع الثمن دعماً وتأييداً ومساعدات لإسرائيل، وليس انتقاداً لسياستها أو تعريضاً بمواقفها أو تشهيراً بقياداتها. وفي الواقع فقد مرت عقود طويلة تصرفت خلالها هذه المجتمعات على اساس ان إسرائيل على حق دائماً، أياً كان الخطأ الذي ترتكبه. حتى بات هذا التصرف وكأنه من الثوابت التي لا تتبدل ولا تتغير. وفي كل مرة كانت فيها إسرائيل تشعر بأن ثمة استعداداً لفك الالتزام بهذه الثوابت، كانت تبادر الى رفع تهمة اللاسامية مذكرة هذه المجتمعات الغربية بما فعلته باليهود.. وبالتالي بالثمن الذي يجب أن تواصل تسديده اليهم من خلال إسرائيل. وقد نجحت هذه السياسة طوال العقود الخمسة الأخيرة، مما شجع إسرائيل على ارتكاب المزيد من الخطايا والأخطاء التي بدت من خلالها دولة خارجة على القانون.
فهي دولة نووية ترفض الانضمام الى معاهدة عدم انتشار الاسلحة النووية. وهي دولة محتلة لأراضي دول أخرى. وهذه الظاهرة أي ظاهرة الاحتلال هي الوحيدة المستمرة في عالم القران الواحد والعشرين.. وهي دولة معتدية على الدول المجاورة. وهي دولة ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، كما اكد ذلك تقرير الأمم المتحدة الذي وضعته اللجنة القانونية برئاسة القاضي اليهودي- ريتشارد غولدستون.
وهي دولة تمارس الارهاب فتغتال شخصيات وطنية لمجرد اعتبار انها تشكل خطراً على أمنها، فتنتهك سيادة دولة سيدة (الامارات العربية المتحدة) وتزوّر جوازات سفر دول كبرى (بريطانيا وألمانيا وفرنسا واستراليا وبلجيكا)، وتصادر السفن في أعالي البحار السفينة التركية - وتقتل المتطوعين من الأبرياء العزل، وتمارس التمييز العنصري الديني ضد العرب المسلمين والمسيحيين الذين تهدم بيوتهم وتصادر أراضيهم وتنسف بيوت العبادة المقدسة لديهم. حتى ان الكاتب والروائي الإسرائيلي عاموس عوز قال في مقال نشرته له مجلة نيويرك تايمز :
"على مدار ألفي عام، عرف اليهود صورة القوة فقط في صورة ضربات السياط على أظهرنا. وعلى مدار العقود القليلة الماضية، كنا قادرين على استخدام القوة بأنفسنا، وهذه القوة، مراراً وتكراراً، أضرّتنا ".
ومنذ حرب الأيام الستة عام 1967، ركزت إسرائيل اهتمامها على القوة العسكرية. وكما يقول المثل "ان من يحمل مطرقة كبيرة، تبدو له كل مشكلة وكأنها مسمار". وبعد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة والمقاطعة العنيفة للسفن المدنية التي تحمل المساعدات الانسانية، وُلد الشعار الذي يقول "إن ما لا يمكن فعله بالقوة يمكن فعله بقوة أكبر". وتنبع وجهة النظر هذه من الافتراض الخاطئ بأن سيطرة حماس على غزة يمكن إنهاؤها بقوة السلاح، أو بصفة عامة يمكن سحق المشكلة الفلسطينية بدلا من حلها ".
لم يكن يجرؤ انسان غربي على تحذير إسرائيل من انها في خطر. فكيف إذا كان هذا الانسان يهوديا.. بل ويهوديا صهيونياً ايضاً؟
لقد أعرب المفكر الفرنسي اليهودي بيرنار هنري ليفي المعروف بتأييده لإسرائيل، عن قلقه على وجود الدولة العبرية بسبب استمرار الاحتلال والاستيطان، داعياً الإسرائيليين الى التخلي عن "حلم إسرائيل الكبرى" والفلسطينيين الى التخلي عن جزء من حلمهم بالعودة. وقال ليفي في مقابلة مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن "اي شخص يحب هذا البلد الفريد إسرائيل- يجب أن يفهم أن وجوده في خطر بسبب الاحتلال والاستيطان". في ضوء هذه الوقائع بدأت تتكون عناصر ثقافة عالمية جديدة تقوم على قاعدة ان إسرائيل هي ضد العالم كله، في مقابل الثقافة اليهودية التي قامت على أساس أن العالم كله هو ضد اليهود!!
لقد مرّ جنوب افريقيا بهذه المرحلة ايضاً، فلم يستطع عليها صبراً، إذ سرعان ما تهاوى وانهار نظام التمييز العنصري. فإلى متى تستطيع إسرائيل أن تصمد؟.
لقد بدأ التفكك من الداخل. والداخل هنا ليس المجتمع الإسرائيلي فقط، انما المجتمع اليهودي الأوسع. ذلك انه بقدر ما تتغلل العلمانية (من خلال الزواج المختلط والحياة المشتركة) بين يهود أوروبة والولايات المتحدة على وجه الخصوص مع غير اليهود، يزداد جنوح المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف الديني. فاستناداً الى جريدة هآرتس الإسرائيلية فان عدد المتدينين الشبان في صفوف الجيش الإسرائيلي ارتفع من 2 في المئة عام 1990 الى 30 في المئة حالياً. وحتى عام 2008 كان 60 في المئة من الضباط في الوحدات القتالية في الجيش من اتباع التيار الديني الصهيوني و70 في المئة منهم من ألوية المشاة المختارة، و75 في المئة من الوحدات الخاصة. وكشف الرئيس الأسبق للشاباك يعكوف بيري أن معظم مسؤولي المناطق في الجهاز أصبحوا من أتباع التيار الديني. وهذا يعني ان إسرائيل تسير نحو التهويد والتطرف الديني، وان المجتمعات اليهودية في العالم تسير أكثر فأكثر نحو العلمانية. تشير هذه التحولات المتناقضة بين ما يحدث داخل المجتمع الإسرائيلي وما يحدث داخل المجتمعات الغربية (الأميركية والأوروبية) الى ارتفاع حدة الصراع بين ثقافة تقول بأن العالم ضد اليهود.. وثقافة معاكسة تقول بل ان إسرائيل هي ضد العالم. ويبدو ان تقرير مستقبل إسرائيل في الشرق الأوسط يتوقف على أي الثقافتين سوف تسود وتنتصر!!.