منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75448
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Empty
مُساهمةموضوع: تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب   تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Emptyالثلاثاء 01 أكتوبر 2024, 9:12 am

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 0901a5b0-63e4-42fd-8836-7db42255c5f7



الشافعية يستوطنون الشام بالجوائز وسقوط الفاطميين يفتح مصر للحنابلة.. تعرف على تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب
يقول القاضي ابن العربي الأندلسي المالكي (ت 543هـ/1148م) في كتابه ’قانون التأويل’: "ولقد كنتُ يوما مع بعض المعلِّمين، فجلس إلينا أبي..، فدخل إلينا أحد السماسرة وعلى يديه رُزْمة كُتُب..، فإذا بها من تأليف [أبي جعفر] السِّمْناني (ت 444هـ/1053م) شيخ [أبي الوليد سليمان بن خَلَف] الباجي (ت 474هـ/1082م). فسمعتُ جميعَهم يقولون: هذه كتب عظيمة وعلوم جليلة جلبها الباجي من المشرق؛ فصدَّعتْ هذه الكلمة كبدي..، وجعلوا يوردون في ذكْره ويُصْدِرون، ويحكون أن فقهاء بلادنا لا يفهمون عنه ولا يعقلون"!!
من ذلك المشهد المفعم بتعظيم الراحلين في طلب العلوم العائدين إلى بلادهم بنفائس أوعيتها؛ تملّكت ابنَ العربي الغيرةُ العلميةُ فكانت ردة فعله على ما سمعه -من مُجالِسي والده الوزير العالم محمد بن عبد الله المَعافري الإشبيلي (ت 493هـ/1100م)- ما عبّر عنه هو بقوله: "ونذرتُ في نفسي طِيَّةً (= نِيَّةً) لئن ملكتُ أمري (= بلغت سن الرشد) لأهاجرنَّ إلى هذه المقامات (= حواضر العلم بالمشرق)، ولأفدنَّ على أولاء الرجالات، ولأتمرسنَّ بما لديهم من.. المقالات"!!
تلك إذن كانت ردة الفعل النفسية التي قابل بها ابن العربي الإشادةَ بالكتب التي جلبها الإمام الباجي من المشرق، فدفعته -وهو فتى يافع- إلى رحلة علمية مشرقية مشابهة -غَرَضاً وأمَداً- لرحلة الباجي أنفق فيها 11 عاما من عمره العامر بالعطاء علما وعملا، وعاد منها إلى بلاده الأندلس سنة 496هـ/1103م بحصاد علمي وفير حقق به أمنيته الأثيرة!!
وفي هذه المقالة؛ نرصد ظاهرة التأريخ لهجرة الكتب وانتقال الآراء والمذاهب من قُطْر إلى آخر ومن عصر إلى عصر، كاشفين معالم هذه الظاهرة الثقافية الفريدة التي تُبرز احتفاءَ المسلمين الشديد بكل كتاب جديد في فنه؛ مما جعلهم يخلّدون -في دواوين تواريخهم- أسماءَ وسِيَر من نقلوا تلك المعارف والمصنفات، ناسبين إليهم الفضل في السبق إلى تحقيق ذلك!
وهذا التوثيق الأصولي لجذور المعارف والتقصي لحركية انتشارها الجغرافي يعدّان من متمِّمات قراءة واستيعاب تاريخ الأفكار وخرائط تنقلاتها، ومن دواعي فهم أسباب ازدهار أو كساد بعضها في لحظة تاريخية معينة.
ولعل هذا كان هو الدافع الرئيس لأن تنشأ في تراثنا المعرفي مصنَّفات "الفهارس" و"الأثبات" و"المعاجم" و" الطبقات"، وغيرها من التصانيف المعرفية التي تتحرى ضبط "سلاسل توريد" أصول ومصادر الصناعات الفكرية، وتتعقب أحوال حَمَلتها من الرجال والنساء، وتعيّن مواضع نشأتها وأولياتها في شتى الأمصار وتحولاتها وتأثيراتها في مختلف الأعصار.
ومن ثمرات هذه العملية التأريخية معرفة كيف تتوالد حلقات العلوم، والوقوف على التطورات والتأثيرات الحاصلة فيها، وهو أمر مهم لعمليات التقويم والإصلاح والتجديد؛ فالوعي التاريخي بسُنن تداول المعارف (ظهورا وضمورا) والمذاهب (ازدهارا واندثارا) يدفع لاستمرارية الإبداع والتطوير المعرفي، ولعل هذا من أنفع مواريث تلك الخبرة المعرفية التي حرص على توثيقها مؤرخو الأفكار في الحضارة الإسلامية كما سنطالعه مبسوطا في هذه المقالة!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 3-BOOK-ssssssscopy
دوافع منهجية
يعود اهتمام مؤرخي الأفكار ورواد التاريخ الثقافي الإسلامي برصد أوَّليات انتشار المعارف وهجرات الكتب وترحال الآراء والمذاهب -من مواطن أصحابها إلى مختلف الأقاليم والأمصار- لعدة أسباب؛ أهمها حرصُ المسلمين على اتصال السند، واعتزازُهم بالرحلة ولقاءِ الأكابر، وتصنيفُهم لكتب طبقات علماء المذاهب والطوائف والمعارف، وتأريخُهم لأوائل العلوم والأشياء والأحداث.

ومن ذلك أيضا تأليفُهم لما يسمونه "البرامج" و"الفهارس" و"الأثبات" و"معاجم الشيوخ"، وهي كتب يوّثق فيها أحدهم -بذكر طُرُق الروايات والأسانيد- ما أخذه من كتب علمية وعمن أخذها من الشيوخ، وأين ومتى وكيف أخذها؟ فهذه المصنفات كان لها الإسهام الأهم في التأريخ للمعرفة وانتقال الآراء والمذاهب بين الأعصار والأمصار. وهو ما يساعد الدارسين في تحديد نشأة الأفكار والمذاهب والفرق، والتعرف على مسارات انتقالها وساحات انتشارها، ورصد تطور الحركة الثقافية والفكرية -في الأقطار الإسلامية- وما تولّد عنها من علوم وأعلام وأعمال.


ومحورية تلك الفهارس في ذلك ينبئنا عنها قول ابن إسحق النديم (ت 380هـ/991م) في مقدمة ’الفهرست’: "هذا فهرستُ كُتُبِ جميعِ الأمم من العرب والعجم، الموجود منها بلغة العرب وقلمها، في أصناف العلوم وأخبار مصنفيها، وطبقات مؤلفيها وأنسابهم وتاريخ مواليدهم، ومبلغ أعمارهم وأوقات وفاتهم، وأماكن بلدانهم ومناقبهم ومثالبهم، منذ ابتداء كل علم اختُـرِع إلى عصرنا هذا، وهو سنة سبع وسبعين وثلاثمئة للهجرة"!
ودلالةً على أهمية هذه التوثيقات والأسانيد؛ شاعت بين العلماء العبارةُ التي نقلها الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ’فتح الباري’- عن بعض الفضلاء، وهي أن "الأسانيد أنساب الكتب"! كما يُنْبئنا العنوانُ الذي اختاره جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1506م) لأحد كتب معاجم شيوخه عن حضور هذا البعد التأريخي التوثيقي في أذهان السلف؛ إذ سمَّاه: ’أنشاب الكُثُب في أنساب الكُتُب’!
ولذا اهتم المسلمون مبكرا بتأليف كتب "الطبقات" فكانت سلاسل رواة العلم معروفة محفوظة، ومحطات انتقاله مدوّنة، وخرائط انتشاره مرسومة بعناية ومؤرخة بدقة، و"براءات" امتلاك أولية حمله ونشره في الأقاليم محفوظة بأسماء من تحملوا عبء ذلك، فحازوا بذلك "فضيلة السبق" التي منحها قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- للخطاط الشهير ابن مقلة (ت 328هـ/939م) لأنه "كان أول" من طوَّر الخط الكوفي!
ولم يوّثق علماؤنا أنساب كتبهم وسلاسل مروياتهم فقط، بل تعدوا ذلك إلى توثيق حقوق وضع المصطلحات والمفاهيم العلمية! ومن ذلك ما نجده عند اللغوي أحمد بن فارس القزويني (ت 395هـ/1005م) حين ذكر قول ابن دريد الأَزْدي (ت 321هـ/933م) إن الأصمعي (ت 216هـ/831م) يُخطِّئ "قولَ العامة: ‘هذا مُجانِسٌ لهذا‘، ويقول: ليس بعربي صحيح"! فعلّق ابن فارس: "وأنا أقول: إن هذا غلط على الأصمعي لأنه الذي وضع كتاب ‘الأجناس‘، وهو أول من جاء بهذا اللقب (= المصطلح) في اللغة".
وكذلك فعل برهان الدين الأبناسي الشافعي (ت 802هـ/1399م) -في ‘الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح‘- لما تحدث عن معنى مصطلح "المدبَّج" في أنواع الحديث النبوي، فنصَّ على أن الإمام "الدارقُطْنيَّ (ت 385هـ/996م).. أولُ من سمّاه المدبَّج، وأول من صنَّف فيه كتابا سمّاه ‘المدبج‘ في مجلد".
أما علم أوائل الأشياء والأعمال وبدايات الأحداث والمسميات فقد برَّز فيه المسلمون وكتبوا فيه كتبا منوعة، وله حضوره الجليُّ في المصنفات التاريخية؛ فالإنسان بطبعه له اهتمام بذلك وتطلّع إلى معرفته، كما قال أبو هلال العسكري (ت 395هـ/1006م) في كتابه ’الأوائل’ الرائد في هذا الباب: "وقد رأيت أكثر الخاصة وجُلَّ العامة لَهِجِين (= مولَعين) بالسؤال عن أوائل الأعمال، ومتقدمات الأسماء والأفعال"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 211e4945-3a7e-4515-b358-93a2e62db57b
سفراء المذاهب
حين يرى الباحث تراث مذهب فقهي أو فِرْقَة فكرية في قُطْر من الأقطار الإسلامية؛ يخيّل إليه بداهة أن ذلك الثراء الفقهي والتنظيري والتاريخي قام به -في مبدئه- آلاف الفقهاء ومئات العلماء، والحقيقة أن ذلك الكم الهائل من المؤلفات والعلماء والمناظرات والنضال المذهبي يرجع في بداية أمره غالبا إلى رجل واحد، رحل من مسقط رأسه إلى شيخ المذهب الأول أو أحد تلاميذه الكبار وعاد بالمذهب، أو أن رجلا آخر هاجر من محل ميلاد المذهب وتغرب في مصرٍ من الأمصار فنشر فيه المذهب والعلم الذي ارتضاه.

فهذه مصرُ كانت غارقة في الولع بثقافة الملاحم وقصص المواعظ حتى قيّض الله لها إماما من أبنائها هو يزيد بن أبي حبيب النوبي (ت 128هـ/746م)، الذي يصفه الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه "أحد الأعلام.. وكان أسود حبشيا.. وكان مفتي أهل مصر"! ثم يتحدث الذهبي عن الأوّلية المعرفية التي حظي بها هذا الإمام الحبشي بإحداثه تحولا تاريخيا في أرض الكنانة أصبحت به إحدى كبريات قلاع العلوم النقلية والعقلية في عالم الإسلام؛ فيقول إنه "هو أول من أظهر العلم والمسائل [الفقهية] والحلال والحرام بمصر، وقبل ذلك كانوا يتحدثون في الترغيب والملاحم والفتن"!!
وأما بعد تبلور نشأة المذاهب الفقهية في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ فقد عرفت مصرُ -التي أنجبت الإمام الطحاوي الأزديّ (ت 321هـ/833م) أحدَ أعظم أئمة ومؤصلي المذهب الحنفي الذي نشأ بالكوفة- هذا المذهبَ عن طريق رجل ليس بتلك الشهرة التاريخية، ونقصد القاضي العراقي إسماعيل بن اليسع (ت 167هـ/783م) الذي هو "أول من أدخل مذهب أبي حنيفة مصرَ.. وكانوا لا يعرفونه"؛ كما في ’رفْع الإصْر‘ لابن حجر.
وغيرَ بعيد من الكوفة نفسها؛ نجد أن أول "من جلب رأي أبي حنيفة إلى البصرة" هو الفقيه يوسف بن خالد السَّمْتي (ت 190هـ/806م)، وهو أيضا -حسب ابن حجر في ’تهذيب التهذيب’- يعدّ "أول من وضع كتاب الشروط"، أي علم الوثائق الذي يعتني بقواعد كتابة السجلات وتوثيق المعاملات المدنية.
ومن الشام -التي نشأ فيها مذهب الإمام الأوزاعي (ت 157هـ/774م)- تحوّل الفقيه المحدّث صَعْصَعَةُ بن سلّام (ت 192هـ/808م) "إلى الأندلس، فاستوطنها في زمن عبد الرحمن بن معاوية (= عبد الرحمن الداخل ت 172هـ/788م) وابنه هشام (ت 181هـ/796م)؛ وهو أول من أدخل علم الحديث ومذهب الأوزاعي إلى بلاد الأندلس".
وفي المقابل؛ يقول الإمام الذهبي إن القاضي أبا زرعة الثقفي (ت 302هـ/914م) أدخل إلى بلاد الشام "مذهبَ الشافعي (ت 204هـ/820م) [حين تولَّى قضاءَ] دمشق وحَكَم به القضاةُ، وكان الغالبَ عليها قولُ الأوزاعي". لقد كان هذا القاضي شديد الإخلاص لمذهب الشافعي "يوالي عليه ويصانع"! ومن نصرته له أنه "شَرَط لمن يحفظ «مختصر المزني» مئة دينار (أي نحو 16.6 ألف دولار أميركي الآن) يهبها له"! وكان رجلا غنيا "له مال كثير وضِيَاع (= عقار وأراض) كبار بالشام".
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 1920-1280-3
رصد دقيق
ولم يحتجْ انتقالُ المذهب الشافعي إلى العراق المجاور للشام إلى دفع أموال لانتشاره كما فعل القاضي الثقفي في الشام؛ فقد قام بالمهمة الفقيه أبو عاصم الأنماطي (ت 288هـ/901م) الذي يخبرنا تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) -في ’طبقات الشافعية الكبرى’- بأنه أخذ المذهب عن تلميذيْ الشافعي إبراهيم المزني (ت 264هـ/878م) والربيع المرادي (ت 270هـ/883م)، ثم "اشتهرت به كتُب الشافعي ببغداد، وعليه تفقه شيخ المذهب [بالعراق] أبو العباس بن سُرَيج (ت 306هـ/918م)".

ووفقا للذهبي في ‘السير‘؛ فقد وصل المذهب الشافعي إلى إقليم خراسان بواسطة الإمام محمد بن عبد الوهاب الثقفي (ت 328هـ/940م)، الذي قال إنه "هو أول من حمل علوم الشافعي ودقائق ابن سريج [من العراق] إلى خراسان". وأما إقليم ما وراء النهر (= آسيا الوسطى)؛ فقد عرف المذهب الشافعية على يديْ أحمد بن الحسين الفارسي (ت 305هـ/917م) بعد أن "تفقه على المزني.. [فكان] أولَ من درَّس مذهب الشافعي بِبَلْـخ (تقع اليوم بأفغانستان) برواية المزني".
ونحن نجد أحيانا تحديدا دقيقا يرصد دخول هذا المذهب إلى مدن بعينها وليس الإقليم العام فحسب؛ فالذهبي ينصّ -في ’تاريخ الإسلام’- على أن دخول المذهب الشافعي إلى أَسْفَرايِين -الواقعة اليوم بإيران- من خراسان كان بواسطة الحافظ أبي عَوانة الأَسْفَراييني (ت 316هـ/928م)، فهو "أول من أدخل مذهب الشافعي وتصانيفه إلى أَسْفَرايِين، أخذ ذلك عن إبراهيم المزني والربيع" المرادي.
كما منح السبكي فضيلة السبق لنشره تحديدا في مدينة نيسابور -وهي من حواضر خراسان- إلى أحمد بن إسحق النيسابوري المعروف بالصِّبْغي (ت 342هـ/953م)؛ "فإنه أول من حمل إليها علم المزني" تلميذ الشافعي، والصِّبْغي هذا ممن حلّاهم الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بلقب "شيخ الإسلام"!
وفي اليمن الذي عاش فيه الإمام الشافعي بُرْهَةً وغادره إلى العراق سنة 184هـ/800م؛ كان الفقيه إبراهيم الخِداشي (ت 450هـ/1059م) "أول من نشر مذهب الشافعي [هناك]..، وكان [الخِداشي] فقيها كبيرا"؛ كما في ’قلائد النحر’ للطيب بامخرمة الحضرمي (ت 947هـ/1541م). وقد أرجع عفيف الدين اليافعي (ت 668هـ/1269م) -في ’مرآة الجنان’- ظهورَ المذهب الشافعي باليمن إلى عدد "من الفقهاء الجِلَّة" موردا أسماءهم.
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 8c517593-3410-413b-8048-779a2bb9c1ab
مغادرة للمنشأ
ولعل المذهبيْن المالكي والظاهري هما أجدر المذاهب بتتبع الانتشار؛ فرغم نشأتهما بالمشرق فإنهما سرعان ما غرّبا فكان ازدهارهما خارج منطقة الميلاد! ففي مصر غير البعيدة من المدينة المنورة كان الفقيه الشاب عبد الرحمن بن خالد الجمحي المصري (ت 163هـ/880م)، "أول من أدخل [إلى] مصر فقهَ [الإمام] مالك (ت 179هـ/796م)، وبه تفقه ابن القاسم (ت 191هـ/806م) قبل رحلته إلى مالك وكان من الصالحين"، وهو "من قدماء أصحاب مالك وكان معجبا به وبفهمه"؛ كما في ’تاريخ الإسلام’ للذهبي.

وفي بلاد الأندلس -التي هيمن فيها الدرس المالكي معظمَ تاريخها- نجد أن فقيهَها زياد بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بشَبَطون (ت 193هـ/809م) كان "أول من أدخل مذهب [شيخه] مالك إلى الجزيرة الأندلسية، وقبل ذلك كانوا يتفقهون للأوزاعي وغيره"؛ طبقا للذهبي -في ’تاريخ الإسلام‘- الذي يضيف أن ابن القاسم قال: "سمعت زيادا فقيه الأندلس يسأل مالكا"! كما كان الفقيه الأندلسي عيسى بن دينار (ت 212هـ/827م) "أولَ من أدخل الأندلس رأي ابن القاسم" الفقيه المالكي المصري الأبرز.
وكان سفير مذهب أهل المدينة إلى المغرب الأقصى (المملكة المغربية اليوم) الفقيه الزاهد دَرّاس بن إسماعيل الفاسي (ت 357هـ/971م)؛ فهو -كما في ’جذوة الاقتباس’ لابن القاضي (ت 1025هـ/1616م)- "ممن أدخل مذهبَ مالكٍ المغربَ، فإنه كان الغالب على المغرب في القديم مذهبُ الكوفيين (= الحنفية)".
وتفصيلا لما أجمله ابن القاضي؛ يقول مؤرخ المذهب المالكي القاضي عياض (ت 544هـ/1149م) -في ’ترتيب المدارك’- إن الحنفية غلبوا على "إفريقية (= تونس) وما وراءها من المغرب.. إلى أن دخل علي بن زياد (العبسي ت 183هـ/199م) و[عبد الرحيم] بن أشرس والبهلول بن راشد (العبسي ت 183هـ/199م)، وبعدهم أسد بن الفرات (الفارسي ت 213هـ/828م) وغيرهم بمذهب مالك؛ فأخذ به كثير من الناس، ولم يزل يفشو إلى أن جاء سَحْنون (بن سعيد ت 240هـ/854م) فغلب في أيامه وفَضَّ حِلَقَ المخالفين"!!
وفي العراق الذي شهد نهضة مالكية في بعض عصوره؛ كان لدخول مذهبهم إلى البصرة قصة طريفة تسببت في نشأة علم "أصول الفقه"! ففي ’مناقب الشافعي’ للبيهقي (ت 458هـ/1067م) أن موسى بن عبد الرحمن بن مَهْدي قال: "أولُ مَن أظهر رأيَ مالك.. بالبصرة أبي (= عبد الرحمن بن مَهْدي ت 198هـ/814م)؛ [فإنه] احتجم ومسح الحجامة ودخل المسجد فصلى ولم يتوضأ، فاشتد ذلك على الناس، وثبت أبي على أمره! وبلغه خبر الشافعي ببغداد، فكتب إليه يشكو ما هو فيه، فوضع له كتاب ‘الرسالة‘ وبعث به إلى أبي، فَسُرّ به سروراً شديداً، قال موسى: فإني لأعرف ذلك الكتاب بذلك الخط عندنا"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D8%B8-9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
تحولات وفرص
أما المذهب الحنبلي فربما كان أقل المذاهب الفقهية الباقية معلومات بشأن وضوح مراحل انتشاره وأوليات نقل مصنفاته؛ ورغم ذلك فإننا واجدون فيها إضاءات يتوازى حجمُها مع الحيّز الجغرافي المحدود الذي انتشر فيه هذا المذهب تاريخيا، فقد أفادنا الإمام السيوطي -في ‘حسن المحاضرة‘- بأولية خروج المذهب من العراق حيث نشأ وترعرع، فقال إن "الإمام أحمد (بن حنبل ت 241هـ/855م).. كان في القرن الثالث (= التاسع الميلادي)، ولم يبرز مذهبه خارج العراق إلا في القرن الرابع (= العاشر الميلادي)".

ولا ينطلق السيوطي هنا من فراغ في تحديد بداية ظهور الحنابلة في المشهد العلمي خارج موطن نشأتهم العراق؛ إذ يقول الذهبي -في ‘السِّيَر‘- مسجلا الإسهام الحاسم من الإمام الحنبلي الخلّال البغدادي (ت 311هـ/923م) في جمع آراء هذا المذهب وصيانته من الاندثار: "ولم يكن قَبله للإمام [أحمد] مذهبٌ مستقلٌّ، حتى تتبع هو نصوص أحمد ودوَّنها وبرْهَنَها بعد [سَنة] الثلاثمئة (= 300هـ/912م)".
وبحكم الجوار الجغرافي؛ كانت محطة الحنابلة التالية للعراق غربا هي الشام الذي سيُصبح معقلَهم الأهمَّ حين يفقدون قلعتهم الحصينة بالعراق جراء الاجتياح المغولي للبلاد 656هـ/1258م؛ فقد وصل التمدد الحنبلي إلى الشام -في النصف الثاني مع القرن الخامس/الحادي عشر الميلادي- بواسطة الإمام عبد الواحد الشيرازي (ت 486هـ/1093م)، الذي "قَدِم الشام فسكن ببيت المقدس فنشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله، ثم أقام بدمشق فنشر المذهب وتخرج به الأصحاب"؛ حسب ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘.
وفي القرن السادس الموالي؛ وصل إشعاع المذهب الحنبلي إلى مصر بعد أن أزال السلطان صلاحُ الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) الدولةَ الفاطمية، وعزَّز ذلك ما عُرف به هذا السلطان من احتضان لأهل الحديث. ويُفهم من كلام السيوطي أن سبب تأخر دخول الحنابلة مصر هو تزامن خروجهم من العراق مع سيطرة الفاطميين عليها، ثم زال السلطان الفاطمي عنها "أواخر القرن السادس فتراجعت إليها الأئمة من سائر المذاهب" السُّنّية!
وحين ذكر السيوطي "مَنْ كان بمصر من أئمة الفقهاء الحنابلة"؛ قال: "هم في الديار المصرية قليلٌ جدا، ولم أسمع بخبرهم فيها إلا في القرن السابع وما بعده..، وأول إمام من الحنابلة علمتُ حلولَه بمصر [هو] الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 600هـ/1203م)".
أما المذهب الظاهري؛ فقد نقله من العراق -حيث عاش إمامه داود الأصبهاني (ت 270هـ/884م)- إلى الأندلس -التي احتضنته قرونا على حذَر-ٍ الإمامُ عبد الله بن محمد بن قاسم بن هلال القرطبي (ت 272هـ/888م)؛ فقد جاء في ’تاريخ علماء الأندلس’ لابن الفَرَضي الأزدي (ت 403هـ/1013م) أن ابن هلال هذا "رحل ودخل العراق، ولقي أبا سليمان داود بن علي القِياسي (= داود الظاهري ولعل وصْفه بـ‘القياسي‘ هنا نسبة إلى القياس الفقهي لكونه يرفضه كما قالوا ‘قدري‘ في نسبة من ينفي القَدَر) فكتب عنه كُتُبَه كلها، وأدخلها الأندلس فأخلّت به عند أهل وقته".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75448
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب   تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Emptyالثلاثاء 01 أكتوبر 2024, 9:16 am

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 1920-1280-5
اهتمام محايد
ولم يقتصر مؤرخو الثقافة والمعارف على التأريخ لبدايات انتشار المذاهب الفقهية، بل اهتموا كذلك برصد انتقال العلوم والعقائد وأصول الفِرَق والطوائف؛ فهذا الحافظ ابن حجر يترجم -في ‘لسان الميزان‘- للمحدِّث الشيعي البارز إبراهيم بن هاشم القُمِّي (توفي في النصف الأول من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي)، فيقول إن "أصله كوفي وهو أول من نشر ‘حديث الكوفيين‘ (= المرويات المنسوبة لأئمة آل البيت) بِـقُمْ..، روى عن.. أصحاب [الإمام] جعفر الصادق (ت 148هـ/765م)".

وفي المقابل؛ يفيدنا الذهبي -في ’تاريخ الإسلام’- بأن الإمام النضر بن شُمَيْل (ت 204هـ/820م) كان نزيل مدينة مَرْو (تقع اليوم بتركمانستان)، وهو "أولُ من أظهر السُّنَّة بمَرْوَ وجميع خراسان"، وأن الحافظ حميد بن زَنْجُويَه الأزدي (ت 247هـ/861م)ـ هو الذي أظهر السُّنَّة بِنَسَا (كانت تقع بتركمانستان)".
وفي كتاب ’الثقات’ لابن حِبّان (ت 345هـ959) أن أبا قُدامة عُبيد الله بن سعيد السَّرَخْسي (ت 241هـ/855م) "هو الذي أظهر السُّنَّة بسَرَخْس (تقع اليوم بتركمانستان) ودعا الناس إليها"، كما كان الْمُهلب بن الأخطل الْأَزْدِيّ (ت 259هـ/873م) "أولَ من أظهر السُّنَّة بتست (كذا في المصدر؟ ولعلها: بُسْتْ التي هي اليوم لشكر كاه بأفغانستان)، ودعا إِلَيْهَا النَّاسَ على عبَادَة دائمة وورع شَدِيد"!!
وغالبا ما يكون ظهور السُّنَّة في بلد مرتبطا بانتشار رواية الحديث النبوي الصحيح فيه؛ ولذلك رصد مؤرخو العلوم الشرعية أوّلياتٍ في هذا الباب، فقال السبكي -في طبقات الشافعية‘- إن "أول من اشتهر بحفظ الحديث وعلله بنيسابور -بعد الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ/875م)- إبراهيم بن أبي طالب (النيسابوري ت 295هـ/911م)"، الذي وصفه الذهبي -في ‘السير‘- بأنه "إمام المحدّثين في زمانه"!
وقد أرَّخوا لنا أيضا نشأة المذهب المعتزلي فقالوا إن "أول من قال في [نفْي] القَدَر بالبصرة مَعْبَد الجهني (ت 80هـ/699م)"؛ كما في ‘طبقات الشافعية‘ للسبكي. ويحدثنا ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ’معجم الأدباء’- بأن مدينة زَمَخْشَر -التي أنجبت الإمام الزَّمَخْشَري المعتزلي (ت 538هـ/1143م)- عَرفت فكر المعتزلة عبر شيخ له اسمه محمود بن جرير الضبي (ت 508هـ/1114م)، كان هو الذي أدخل "إلى خوارزم مذهب المعتزلة ونشره بها، فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتَمَذْهَبوا بمذهبه، منهم أبو القاسم الزمخشري".
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 14580517757_1f67f63d04_b
فِرَق مغرِّبة
وكان للمذهب الأشعري -الذي عمَّ طوال الألفية الماضية أرجاءَ العالم الإسلامي- أئمةٌ ناشرون؛ فالمحدث أبو ذر الهروي (ت 435هـ/1044م) كان "أول من حَمَل الكلام إلى الحَرَم [المكي] وأول من بثه في المغاربة"؛ كما في ’درء تعارض العقل والنقل’ لابن تيمية (ت 728هـ/1328م) الذي أدرك محورية الهروي في نشر الأشعرية، فقال: "وأهل المغرب كانوا يحجّون فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة (= الأشعرية)..، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق" فيأخذها عنه.

وفي ’أزهار الرياض’ للمقري (ت 1041هـ/1632م) أن قاضي المرابطين أبا بكر المرادي الحضرمي (ت 480هـ/1087م) "كان أول من أدخل علوم الاعتقاد إلى المغرب الأقصى"، ومعروف أن المرادي هذا كان أشعريَّ المُعتقَد.
وعن حضور فرقة الخوارج في الغرب الإسلامي الذي كان أولى المناطق التي استطاعوا إقامة دولة فيها أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، بعد أن قويت في إقليمه شوكتُهم حينا من الدهر؛ يخبرنا الحافظ ابن حجر -في ’تهذيب التهذيب’- أن إمام التفسير عكرمة البربري (ت 107هـ/726م) مولى ابن عباس (ت 68هـ/688م) "كان أول من أحدث فيهم -أي أهل المغرب- رأيَ الصُّفْرية (= فرقة من الخوارج)"!!
ويروي مؤرخ المذهب الإباضي يحيى بن أبي بكر الوارَجْلاني (ت 471هـ/1078م) -في كتابه ‘سِيَر الأئمة وأخبارهم‘- عن أحد أئمتهم أن "أول من جاء.. [بـ]ـمذهب الإباضية [إلى إفريقية/تونس].. سَلَمَة بن سعد (الحضرمي ت نحو 135هـ/752م)، قدِم.. من أرض البصرة هو وعكرمة مولى ابن عباس وهما راكبان على جمل واحد حملا عليه زادهما؛ سلمة.. يدعو إلى الإباضية، وعكرمة.. يدعو إلى الصُّفْرية"!!
وإن تعجبْ من وصول رجل مثل عكرمة -كان ملازما لترجمان القرآن ابن عباس ودُفن بالمدينة- إلى ذلك الإقليم القصيّ والعَصِيّ؛ فإن الحافظ الذهبي يجيبك -في ’تاريخ الإسلام’- بأن عكرمة كان "كثير التطواف، كثير العلم، ويأخذ جوائز الأمراء"! كما يصفه ابن حجر بمرح الروح فيروي أن عكرمة ما عُلم أن "أحدا ذمَّه بشيء الا بدُعابة كانت فيه"؛ فيا له من "خارجي" فنان!!
وكما وصل الإباضية إلى الغرب الإسلامي دخله الشيعة أيضا؛ فهذا المؤرخ العُماني الصُّحاري (ت 511هـ/1117م) يقول -في كتابه ’الأنساب’- إن علي بن الحسين البَجَلي هو "الذي أدخل مذهب أهل البيت في المغرب وانتهى إلى السّوس (= جنوبي المملكة المغربية)..، وكان متفننا في العلوم كثيرَ الرواية عن رجال أهل البيت".
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب %D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A5%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF-00000000ازدهار مَقرئي
اقتصر الأندلسيون في بداية أمرهم على قراءة أهل المدينة، وكان رائدهم في ذلك الغازي بن قيس القرطبي (ت 199هـ/814م) الذي "قرأ على [مُقرئ المدينة] نافع (بن أبي نُعَيْم ت 170هـ/776م) وضبط عنه اختياره..، وهو أول من أدخل قراءة نافع" إلى الأندلس؛ كما في ’تاريخ الإسلام’ للذهبي.

وبعد وفاة الغازي بقرنين ونيّف؛ ازدهرت الدارسات القرآنية الأندلسية بفضل جهود شيخ مَقْرَأتِها أبي عمرو الداني (ت 444هـ/1053م)، وكانت الأندلس عرفت القراءات -حسب ابن الجَزَري (ت 833هـ/1430م) في ’غاية النهاية‘- على يد الإمام الطَّلَمَنْكي (ت 429هـ/1039م)؛ فقد رحل إلى المشرق "ورجع إلى الأندلس بعلم كثير وكان أول من أدخل القراءات إليها".
وفي إفريقية/تونس؛ كان محمد بن محمد بن خيرون القروي (ت 301هـ/913م) "إماما في القرآن مشهورا بذلك، قدم بقراءة نافع على أهل إفريقية وكان الغالب على قراءتهم حرفُ (= قراءة) حمزة (الكوفي ت 156هـ/173م)، ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلا خواصّ، حتى قدِم ابن خيرون فاجتمع إليه الناس"؛ وفقا لابن الفرضي.
ومن مفارقات تاريخ هجرة كتب القراءات إلى الأندلس أن قصيدة ’حِرْز الأماني’ التي نظمها الإمام الأندلسي القاسم بن فِيرُّه الشاطبي (ت 590هـ/1194م) خارج إقليمه دخلت إليه على يد رجل آخر؛ إذ يحدثنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ’المُقَفَّى الكبير’- بأن المقرئ محمد بن محمد بن وضاح اللخمي الإشبيلي (ت 634هـ/1236م) كان "أول من أدخل القصيدة الشاطبية في القراءات إلى الأندلس، وعنه أخذها الناسُ هناك"!
ولم تكن الأندلس تميز بين المذاهب والفرق في الاهتمام بتأريخ قدوم الكتب إليها؛ فقد حفظ لنا المؤرخون تاريخ قدوم تفسير الزمخشري المعروف بـ‘الكَشّاف عن حقائق التنزيل‘ الذي أحدث رَنَّة في العالم الإسلامي منذ أن كُتب، إذ يفيدنا ابن حجر -في ’تبصير المنتبه بتحرير المشتبه’- بأن أحمد بن أحمد الحضرمي الإشبيلي المعروف برأس غَنَمة (ت 640هـ/1242م) "كان أول من أدخل ‘الكَشّاف‘ بلاد الأندلس، وكان َحَّج بعد سنة 590هـ/1194م"؛ أي أن تفسير ’الكشاف’ -الذي اكتمل تأليفه 528هـ/1134م- مكث عقودا تتعاطاه المجامع العلمية قبل أن يصل إلى الأندلس!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب %D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%ABخطة إمداد
وكان الإشبيلي هذا ورفيقُ رحلته وبلديُّه أبو بكر محمد بن أحمد الكناني الإشبيلي (ت 608هـ/1211م) يشعران بأنهما يؤديان مهمة مقدسة لقُطرهما الأندلسي، فوضعا خطة تضمن إنجاز أهدافهما بكفاءة.

فقد أورد ابن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ/1303م) -في ‘الذيل والتكملة‘- أنهما أديا في حدود 595هـ/1199م "فريضة الحج ولقيا هنالك بقايا الشيوخ..، وقَفَلا (= رجعا) إلى الأندلس واستصحبا فوائد جمة وغرائب كتب لا عهد لأهل الأندلس بها، انتسخاها هنالك وتوافقا على أن ينسخ أو يقابل أحدُهما غيرَ ما ينسخه رفيقه أو يقابله استعجالا لتحصيل الفائدة، حتى إذا ألقيا عصا التَّسْيار بمقرّهما إشبيلية انتسخ كلُّ واحد منهما من قِبل صاحبه ما فاته نَسْخُه بتلك البلاد!
فكان مما جلباه: ‘الكشاف عن حقائق التنزيل‘ صَنْعَة (= تصنيف) جار الله.. الخوارزمي الزمخشري، وكان مما تولَّى نسخَه أبو العباس (= رأس غَنَمة).. من الأصل المحبَّس (= الموقوف) بمدرسة القاضي الفاضل أبي علي عبد الرحيم.. البَيْساني (ت 596هـ/1200م).. بالقاهرة، وهو مسموع على مصنِّفه" الزمخشري ولذلك فإنه يعدّ نسخة نفيسة متقَنة ونادرة الوجود، مما يعطي قيمة خاصة للنسخة التي دخلت من هذا التفسير إلى بلاد الأندلس، لاسيما ان كاتبها أبا العباس الإشبيلي كان "نبيل الخط نقي الوراقة حسن الطريقة" في النسخ والكتابة؛ طبقا للمراكشي.
كما جلب هذان الرفيقان ’مقامات الزمخشري الخمسون’، و’شرح السُّنة’ للبغوي (ت 511هـ/1117م)، و’تاج اللغة وصحاح العربية’ للجوهري (ت 393هـ/1004م)، "وهو مما قابله أبو العباس [الإشبيلي] هذا، وكانت النسخة التي جلباها من هذا الكتاب في ثمانية أسفار بخط مشرقي"!
وينقل لنا المراكشي موقف بعض فقهاء الأندلس حينها من استجلاب تفسير الزمخشري؛ فيذكر أن الفقيه أبا الحسين محمد بن محمد بن زرقون (ت 621هـ/1224م) انتقد على أبي العباس الإشبيلي هذا جَلْبَه تفسيرَ ‘الكشاف‘ إلى الأندلس، لما يتضمنه من آراء معتزلية، فكان يقول: "كانت الأندلس منزَّهة عن هذا وأشباهه! ولم يزل أهلها -على مرور الأيام- أغنياء عن النظر في مثله، وإن في غيره من تصانيف أهل السنة في التفسير غُنْيَة عنه".
والواقع أن ما ذهب إليه ابن زرقون من أن الأندلس ظلت "منزَّهة" عن الفكر الاعتزالي حتى جاء الإشبيلي بـ‘الكشاف‘؛ أمرٌ غير مسلَّم به لما ثبت من دخول هذا الفكر إليها منذ أوائل النصف الأخير من القرن الثالث، كما نجد في تراجم أعلام أبرزهم خليل بن عبد الملك القرطبي (ت نحو 298هـ/910م) الذي كان يصدع بآراء المعتزلة بالأندلس. فقد قال ابن الفرضي إنه "رحل إلى المشرق..، وكان خليل مشهورا بالقَدَر (= الاعتزال) لا يَتَسَتَّر به"!
وهذه المجاهرة بالرأي الاعتزالي أضرّت بصداقة خليل القرطبي لعلماء بينهم المحدّث الكبير محمد بن وضّاح (ت 287هـ/901م) وجلبت له مشاكل جمَّة مع أهل البلاد، حتى إنه لما مات جاءت "جماعة من الفقهاء وأخرجت كتبه وأحرقتـ[ـها] بالنار، إلا ما كان فيها [من] كتب المسائل (= الفقه)"!! ويورد ابن الفرضي ما يفيد بكون خليل هذا أولَ أندلسي روى بالعراق التفسير المنسوب إلى الحسن البصري (ت 110هـ/728م) وأدخله الأندلس.
ولعل هذا الظهور المبكر لفكر المعتزلة في الأندلس هو الذي فتح الباب لاحقا لشيوع المذاهب الفلسفية فيها، حتى بلغ من اهتمام الأندلسيين بالفلسفة أنهم وثقوا لنا اسم من جاءهم بأحد أهم مؤلفاتها المشرقية وهو كتاب ‘رسائل إخوان الصفا‘؛ فقد نقل ابن أبي أُصَيْبِعة (ت 668هـ/1270م) -في ‘عيون الأنباء‘- عن القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي (ت 462هـ/1071م) أن معاصره المهندس الطبيب أبا الحكم عمر بن أحمد الكرماني القرطبي (ت 458هـ/1067م) "رحل إلى ديار المشرق.. ثم رجع إلى الأندلس..، وجلب معه الرسائل المعروفة بـ‘رسائل إخوان الصفاء‘، ولا نعلم أحدا أدخلها الأندلس قبله"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 1920-1280-4
علاج وإنتاج
يرى المالكية أن كتاب ‘الموطأ‘ لإمامهم مالك هو أول كتاب ألِّفَ في الإسلام، وينقل القاضي عياض -في ’ترتيب المدارك’- أن علي بن زياد التونسي العبسي (ت 183هـ/799م) كان "أول من أدخل ‘الموطأ‘ و‘جامِع سفيان‘ [إلى] المغرب..، وكان قد دخل الحجاز والعراق في طلب العلم". أما الغازي بن قيس القرطبي -المتقدم ذكره- فهو "أول من أدخل موطأ مالك.. [فقد] شهِد مالكاً وهو يؤلف ‘الموطأ‘..، وانصرف إلى الأندلس بعلم عظيم نفع الله به أهلها"؛ حسبما يرويه عياض.

ولا يمكن الحديث عن هجرة الكتب والروايات الحديثية من المشرق إلى الأندلس دون ذكر محدّثها بَقِيّ بن مَخْلَد (ت 276هـ/889م) الذي يقول ابن الفَرَضي إنه "رحل إلى المشرق فلقي جماعة من أئمة المحدِّثين وكبار المُسْنِدين..، [فكان] عِدَّةَ الرجالِ الذين لقيهم بَقِيّ وسمع منهم: مئتا رجل وأربع وثمانون رجلا"!
ثم عاد بَقِيُّ إلى الأندلس "وكان مما انفرد [بجلبه من الكتب].. ولم يُدْخِله سواه: ‘مصنفُ ابن أبي شيبة‘ (ت 235هـ/849م).. وكتاب [‘الأم‘ للشافعي في] الفقه..، وكتاب ‘التاريخ‘ لخليفة بن خَيّاط (البصري ت 240هـ/854م)". وبجهود بقيّ هذا ومحمد بن وضّاح -المتقدم ذكْرُه- وما جلباه من كتب انتشرتْ مروياتُ السُّنة بالبلاد "فصارت الأندلسُ دارَ حديثٍ وإسناد"!
وفي ’جذوة المقتبس‘ للحُميدي الأزدي (ت 488هـ/1095م) أن محمد بن معاوية المعروف بابن الأحمر (ت 347هـ/958م) "رحل قبل الثلاثمئة ودخل العراق وغيرها"، وقد رآه أبو سعيد بن يونس (ت 347هـ/958م) "بمصر في مجلس أبي عبد الرحمن النَّسائي (ت 303هـ/915م).. قبل سنة ثلاثمئة"، ثم يقرر الحُميدي أن ابن الأحمر "هو أول من أدخل الأندلس مصنفَه في السُّنن (= سنن النَّسائي)، وحدّث به وانتشر عنه"!
ويفيدنا الحُميدي بأن السبب الأصلي لرحلة ابن الأحمر لم يكن تحصيل العلم بل ذهب في رحلة استشفائية قادته إلى الهند، لكنه "اشتغل في رجوعه بطلب العلم وروايات الكتب فحصل له علم جَمٌّ وبورك له فيه"! ويحكي الحُميدي عن شيخه الإمام ابن حزم (ت 456هـ/1063م) أنه قال: "لم أزل أسمع المشايخ يقولون: إن سبب خروجه إلى المشرق كان أنه خرجت بأنفه أو ببعض جسده قُرْحَةٌ، فلم يجد لها بالأندلس مُداوياً..، فأسرَع الخروجَ إلى المشرق، فقيل له لا دواء لها إلا بالهند" فذهب إليها ووجد فيها العلاج!
وفي إطار رصد رحلة مدونات الحديث وعلومه من المشرق إلى الأندلس؛ يقول ابن بَشْكُوالَ الأندلسي (ت 578هـ/1181م) -في كتابه ‘الصِّلة‘- إن عثمان بن أبي بكر الصَّدَفي السفاقسي (ت 440هـ/1049م) وصل إلى الأندلس سنة 436هـ/1045م "بعد أن تجوّل بالمشرق وأخذ عن علمائها ومحدثيها..، ودخل قرطبة في هذا التاريخ وأسمع الناسَ بها، وحدَّث عنه مشيختُها وعلماؤها، وتطوّف بسائر بلاد الأندلس..؛ وهو أول من أدخل كتاب ‘غريب الحديث‘ للخَطّابي (البُسْتي ت 388هـ/999م) الأندلسَ".
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب F424b60c-ffc8-4307-b030-63beb740084d
تحقيق جماعي
وعلى ذكر ‘الموطأ‘ و‘سُنن النَّسائي‘؛ فإن ’صحيح البخاري’ بما ناله من مكانة لدى المسلمين كان وصوله إلى أي قطر إسلامي حَرِيًّا بالتأريخ والتوثيق، ويخبرنا الذهبي -في ’السِّيَر‘- أن الإمام سعيد بن عثمان البزّاز (ت 353هـ/964م) "نزل مصر بعد أن أكثر الترحال ما بين النهرين: نهر جيحون ونهر النيل"، ولقي في رحلته الطويلة بخراسان محمد بن يوسف الفِـَربْري (ت 320هـ/932م) الذي هو أوثقُ من روى ‘صحيح البخاري‘ فأخذه عنه، وبذلك كان البزاز "أولَ من جلب [كتاب] ‘الصحيح‘ إلى مصر وحدَّث به" فيها!

وجاء في كتاب ’الإمام المازري’ لمؤرخ الثقافة التونسية حسن حسني عبد الوهاب (ت 1388هـ/1968م) أن أبا الحسن القابسي (ت 403هـ/1013م) كان "من كبار الفقهاء المحدّثين، قرأ في القيروان ثم رحل إلى المشرق، وسمع من عِلْيَةِ رُواة الحديث، وهو أول من أدخل ’صحيح البخاري’ إلى إفريقية".
وبلغت نُسَخٌ من ‘صحيح البخاري‘ من الدقة والضبط أنه كان يؤرَّخ لوصولها إلى قُطْر ما؛ ومن ذلك ما ذكره المؤرخ الناصري السلاوي (ت 1315هـ/1898م) -في كتابه ’الاستقصا‘- من أن المحدّث أبا العباس ابن ناصر الدرعي (ت 1129هـ/1716م) "كان معتنياً بشراء الكتب واقتنائها، حتى قيل إنه اشترى بمصر في آخر حجاته [ما قيمتُه] مئة مثقالِ ذهبٍ (= اليوم 18 ألف دولار أميركي تقريبا) من الكتب..، [كما] اشترى نسخة من صحيح البخاري بمكة بثلاثة وسبعين مثقالا ذهباً، وهو أول من أدخل ‘اليونينية‘ للمغرب ولم تُرَ قبله ولا بعده"!
و"اليونينية" -المذكورة هنا في كلام السلاوي- هي نسخة ‘صحيح البخاري‘ التي حققتْها على عدة نُسَخ مجموعةٌ من العلماء المختلفي التخصصات -بينهم الإمام ابن مالك النحوي (ت 672هـ/1274م)- بإشراف الإمام المحدِّث شرف الدين اليونيني (ت 701هـ/1301م).
ولم يكن الاعتناء بالأصول الحديثية مقتصرا على العلماء والمحدِّثين؛ فهذا السلطان المغربي العالم سيدي محمد بن عبد الله العلوي (ت 1204هـ/1790م) صنّف مؤلفات في الحديث النبوي، وكان "أول من أدخل ‘المسانيد الأربعة‘ للمغرب من الحرم الشريف"؛ حسبما أورده الحجوي الفاسي (ت 1376هـ/1956م) في ‘الفكر السامي‘.
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D8%B8-7-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
أوليات الأمهات
بعد استقرار المذاهب الفقهية في الأمصار؛ صار لكل مذهب فقهي كتبه المعتمدة التي جمع فيها رجالُه فقهَ كبار علماء مذهبهم، وكان وصول هذه الكتب إلى أحد البلدان علامة فارقة في تاريخ انتشار المذهب فيه وفي إقليمه؛ فهذا عبد الرحمن بن دينار القرطبي (ت 201هـ/816م) "كانت له رحلات استوطن في إحداهن المدينة [المنورة]، وهو الذي أدخل [إلى الأندلس] الكتبَ المعروفة بالمدينة فسمعها منه أخوه عيسى (بن دينار ت 212هـ/827م)، ثم خرج (= رحل) بها عيسى فلقي ابنَ القاسم [تلميذ مالك] فعرضها عليه [بمصر]"؛ وفقا لابن الفرضي.

وأما ’المدونة الكبرى’ التي هي أمُّ الفقه المالكي؛ فيقول القاضي عياض إن عثمان بن أيوب ابن أبي الصَّلْت القرطبي (ت 267هـ/880م) رحل إلى القيروان حيث سمعها من مدوّنها سحنون، وهو "أول من أدخل المدونة بالأندلس". وفي ’الاستقصا’ للسلاوي أن أول من أدخل ‘المدونة‘ إلى مدينة فاس هو الفقيه درّاس بن إسماعيل الفاسي المذكور آنفا.
وحسب عياض أيضا؛ فقد رحل الفقيه الأديب محمد بن وازع الضرير القرطبي (ت 374هـ/985م) إلى المشرق، وكان ممن سمع منهم ببغداد إمام المالكية بالعراق أبو بكر الأبهَري (ت 375هـ/986م) فـ"أخذ عنه كتبه وانصرف إلى الأندلس..، وهو أول من أدخل كتب الأبهري وابن أبي زيد (القيرواني ت 386هـ/997م) قرطبة".
كما نجد لدى السلاوي توثيقا لتاريخ وصول ’مختصر خليل’ الفقهي للشيخ خليل بن إسحق المالكي (ت 776هـ/1374م) -الذي صار عمدة أهل المذهب المالكي تدريسا وإفتاءً- إلى المغرب الأقصى؛ إذ يقول إن الفقيه محمد بن عمر ابن الفتوح التلمساني (ت 818هـ/1415م) هو "أول من أدخلـ(ـه) مدينةَ فاس والمغرب".
ولم يكن الشافعية بأزهد من المالكية في التأريخ لهجرات أمهات مذهبهم؛ فالسبكي يقول -في ‘طبقات الشافعية‘- إن مؤرخ مَرْوَ وفقيهها أحمد بن سيار المروزي (ت 268هـ/881م) هو الذي "حمل كتب الشافعي إلى مَرْو وأعجِب بها الناس"، وكان حريصا على هذه الكتب جدا حتى إنه منع النظر فيها لأحد الفقهاء الذين يرجع لهم الفضل بعده في نشر المذهب الشافعي بمرو.
فمن مناقب الفقيه ومحدّث عصره في مرو عبدان بن محمد بن عيسى المروزي (ت 293هـ/906م) أنه كان "أول من حمل ‘مختصر المزني‘ إلى مرو، وقرأ علم الشافعي على المزني والربيع وكان فقيها حافظا للحديث". ويقول السبكي إن سبب رحلة عبدان إلى مصر -حيث التقى كبار تلامذة الشافعي- أنه لما نظر في الكتب التي جلبها أحمد بن سيار -المتقدم ذكره- منَعَه من نسخها، "فباع ضيعة (= عقارا أو أرضا) له بِجَنوجِـرْد (= قرية بمَرْوَ) وخرج إلى مصر وأدرك الربيع وغيره من أصحاب الشافعي ونسخ كتبه، وأدرك من المشايخَ والفقهاءَ ما لم يُدرك غيره وحمل عنهم".
ومن كتب الشافعية المدرسية كتابُ ‘المهذَّب‘ لإمام مذهبهم في زمانه بالعراق أبي إسحق الشيرازي (ت 476هـ/1084م)؛ ويقول ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1679م) -في ‘شذرات الذهب‘- إن دخول هذا الكتاب المهم إلى أرض اليمن كان بواسطة الفقيه التاجر الثري محمد بن عَبْدُويَهْ (ت 525هـ/1131م)، الذي "تفقّه بالشيخ أبي إسحق ببغداد، وقرأ عليه كتابه ‘المهذَّب‘.. وهو أول من دخل بـ‘المهذَّب‘ إلى اليمن"!
ومنها كذلك كتاب ’العزيز شرح الوجيز’ للإمام عبد الكريم الرافعي الشافعي (ت 623هـ/1226م)، وكان عبد الرحمن بن سعيد الهمداني (ت 690هـ/1291م) "أول من أدخله إلى الجبال" أي المناطق الوعرة باليمن؛ حسبما في ’قلائد النحر’ للحضرمي. ويذكر المؤرخ اليمني عبد الوهاب البُرَيْهي (ت 904هـ/1499م) -في طبقات صُلَحاء اليمن‘- أن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن صقر الغساني الدمشقي (ت 785هـ/1383م) "هو أول من أدخل كتاب ‘المهمات‘ إلى اليمن"، وهذا المصنَّف من تأليف جمال الدين الإسْنَوي (ت 772هـ/1370م) ويعدّ من نفائس كتب الفقه الشافعي.
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 3-BOOK-Template-c%D8%B3opy
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75448
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب   تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Emptyالثلاثاء 01 أكتوبر 2024, 9:17 am

مفارقة لافتة
كان أهل الكوفة والبصرة هم رواد تدوين العلوم اللغوية بنحوها وصرفها ومعجمها وآدابها، ولكون أغلبية هؤلاء الرواد مسلمين فإنه يبدو غريبا أن يدخل أول معجم عربي -وهو كتاب ‘العين‘ للخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (ت 175هـ/791م)- عاصمة العباسيين بغداد لأول مرة على يد طبيب مسيحي هو حُنَين بن إسحق العِـبَادي (ت 260هـ/874م)!

فجمال الدين القِفْطي (ت 646هـ/1055م) يفيدنا -في ‘إخبار العلماء بأخبار الحكماء‘- بأن هذا الطبيب الماهر والمترجم البارز "كان فصيحا في اللسان اليوناني وفي اللسان العربي، بارعا شاعرا خطيبا فصيحا لَسِنًا، ونهض من بغداد إلى أرض فارس ودخل البصرة ولزم الخليل بن أحمد حتى برع في اللسان العربي، وأدخل كتاب ‘العين‘ ببغداد"!!
ولما كانت الرحلة إلى المِصْرَيْن (البصرة والكوفة) مجدا يتنافس فيه طلبة العلم من الأقطار الإسلامية طلبا للأصول من مصنَّفات معارف اللغة وإعلاءً للسند فيها؛ فإن وصول تلك المؤلفات العراقية إلى الأقاليم النائية في الأندلس وجوارها المغاربي ظلَّ محلَّ احتفاء وابتهاج، يستحق صاحبه أن يخلَّد اسمُه في صفحات التاريخ ومدونات التراجم والطبقات.
ومن أوائل مَنْ شدَّ الرحالَ من أهل الأندلس إلى العراق النحويُّ جودي بْن عُثْمَان العَبْسِي (ت 198هـ/814م)؛ فقد "رَحل إِلَى الْمشرق فلقي [الإماميْن] الكِسَائي (ت 189هـ/805م) والفَرَّاء (ت 207هـ/822م)..، وَهُوَ أول من أَدخل الأندلس كتابَ الكسَائي..، وَكَانَت لَهُ حَلقَة وأدَّبَ أَوْلَاد الْخُلَفَاء وَظهر عَلَى من تقدمه"؛ كما في ’التكملة’ لابن الأبّار القضاعي (ت 658هـ/1260).
ويخبرنا مؤرخ علماء الأندلس ابنُ الفَرَضي أن قاسم بن ثابت بن حزم العوفي (ت 302هـ/914م) "رحل مع أبيه فسمع بمصر ومكة… وعُني بجمع الحديث واللغة هو وأبوه، فأدخلا الأندلس علما كثيرا، ويقال إنهما أول من أدخل إلينا: كتاب ’العين’" للخليل الفراهيدي.
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 001-12
استقطاب أندلسي
وانتقل إمام اللغة والأدب أبو علي القالي (ت 356هـ/967م) من العراق إلى الأندلس سنة 328هـ/940م فقدمها سنة 330هـ/942م بدعوة من خليفتها الأموي عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/961م)، وجلب معه علما كثيرا وأخبارا فريدة وأشعارا وافرة، أوصل ابنُ خير الإشبيلي (ت 575هـ/1179م) مؤلفاتِها -في كتابه ’الفهرسة’- إلى أكثر من أربعين عنوانا، بعضها في حوالي خمسين جزءا! هذا "سوى ما تزايل (= تنازل) عنه وأخِذَ بالقيروان منه"!!

وقد عَرفتْ كتبُ الجاحظ (ت 255هـ/869م) طريقها إلى الأندلس عبر الأديب الطبيب فَرَج بن سلام القرطبي (ت نحو 273هـ/886م) الذي يقول ابن الفرضي إنه كان "معتنيا بالأخبار والأشعار والآداب وكان يُطبِّب، ورحل إلى المشرق ودخل العراق فلقي.. الجاحظ؛ وأخذ منه كتاب ‘البيان والتبيين‘ وغير ذلك من مكتوباته، وأدخلها الأندلس رواية عنه".
وفي وقت قريب من نهاية القرن الثالث؛ قرر محمد بن علاقة القرطبي (ت 325هـ/937م) أن يسجل اسمه في الأندلسيين الخالدين من جَلَبَة كنوز المعارف، فـ"رحل إلى المشرق وأخذ عن.. أبي الحسن بن سليمان الأخفش (ت 315هـ/927م).. ‘كامل‘ المبرّد (ت 285هـ/898م)، وصار أصلُه (= نسخته الأصلية) منه إلى [الخليفة الأموي بالأندلس] الحَكَم المستنصر بالله (ت 366هـ/977م). [وقد] قال الحَكَم: ولم يصح كتاب ‘الكامل‘ عندنا برواية إلا من قِـبل ابن علاقة"!! وفقا لابن الأبّار.
أما كتب الإمام اللغوي أبي جعفر النَّحّاس (ت 311هـ/923م) فقد قام بجلبها إلى الأندلس محمد بن مفرج المَعافري القرطبي (ت 371هـ/988م)؛ إذ رحل إلى المشرق فلقي أعلاما منهم النحاس الذي روى عنه من تآليفه: ’إعراب القرآن’ و’المعاني’ و’الناسخ والمنسوخ’ وغيرها، وكان بذلك "أول من أدخل هذه الكتب الأندلس"؛ وفقا لابن الفرضي.
وفي نموذج آخر -معاكسٍ وجهةً وغايةً ومطابِـقٍ قيمةً ونتيجةً- لرحلة ابن الأحمر الأندلسي إلى الهند المذكورة آنفا؛ يروي لنا الشنتريني (ت 542هـ/1147م) -في كتابه ‘الذخيرة‘- قصة مغامرات الوزير والسفير الشاعر أبي الفضل محمد بن عبد الواحد البغدادي الدارمي (ت 455هـ/1066م)، التي قادته -طوال سنواتٍ- من بلاط الهند الغزنوية شرقا إلى قصور العباسيين ببغداد والمرداسيين بحلب والفاطميين بالقاهرة والصنهاجيين بالقيروان، وألقت به غربا في إمارة أسرة ذي النون الهَوّارية بطليطلة الأندلسية؛ حيث وصلها سنة 454هـ/1065م فكان "أولَ من أدخل كتاب ‘اليتيمة‘ للثعالبي (أبي منصور ت 429هـ/1038م) عندهم" في الأندلس!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 6044e91a-fd5d-4325-9fc0-d0603a13df3a
نزوح ورسوخ
في كتابه ’المدارس النحوية’ أرخ العلامة شوقي ضيف (ت 1426هـ/2005م) لما أسماها المدرسة الأندلسية والمصرية في النحو، وكانت تلك الكتب اللغوية -التي رصدنا تواريخ وصولها إلى الأندلس والغرب الإسلامي- هي البذرةَ الأولى لتلك المدرسة المتميزة، التي خدمت لغة القرآن وارتقت بالدراسات اللغوية في تلك الأقطار انطلاقا من مصر، لاسيما أن ذلك تعزز بهجرة واسعة نحو المشرق اضطُرّ إليها علماء الأندلس منذ بدأت حواضرها في التساقط في أيدي المسيحيين مع مطلع القرن السادس الهجري/الـ12م.

ومثل الأندلسِ في انتقال الكتب مصرُ؛ فممن نقل علوم اللغة إلى أرض الكنانة الإمام النحوي الوليد بن محمد التميمي المعروف بولّاد (ت 263هـ/877م)، كان "أصله من البصرة ونشأ بمصر، ورحل إلى العراق وعاد إلى مصر، وهو الذي أدخل إليها كتب اللغة ولم تكن بها قبله، [فقد] لقي الخليل [الفراهيدي] بالبصرة ولازمه وأخذ عنه".
وممن خدم اللغة في مصر أبو الطيب السبتي المالكي (ت 695هـ/1300م) "نزيل قوص كان من العلماء العاملين الفقهاء…، وهو الذي أدخل شرح ابن أبي الربيع (السبتي ت 688هـ/1289م) [لكتاب ‘الإيضاح‘ لأبي علي الفارسي (ت 377هـ/988م)] إلى مصر"؛ كما في ’الوافي بالوفيات’ للصفدي (ت 764هـ/1364م). والسبتي هذا ومعه تلميذه أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ/1345م) وغيرهما ممن نزح إلى مصر بسبب الاضطرابات في الأندلس؛ كانوا هم أساس النهضة النحوية والأدبية في مصر التي ورثت الزعامة الثقافية للعالم الإسلامي غداة أفول نجم العراق والشام وتهاوي الأندلس!!
وكما حصل في العلوم النقلية؛ لم يغب التأريخ لانتقال كتب العلوم التجريبية -في أقطار الإسلام شرقا وغربا- عن دائرة رصد المهتمين بحركة الأفكار والعلوم وتنقُّـل مصنفاتها بين البلدان والأقاليم البعيدة؛ ففي المجال الطبي يحدثنا ابن أبي أصيبعة ضمن ترجمته -في ‘عيون الأنباء‘- للطبيب الأندلسي الكبير أبي العلاء بن زُهر (ت 525هـ/1131م) عن أنه "في زمانه وصل كتاب ‘القانون‘ لابن سينا (ت 428هـ/1038م) إلى المغرب..، [وذلك] أن رجلا من التجار جلب من العراق إلى الأندلس نسخة من هذا الكتاب قد بولغ في تحسينها، فأتحف بها لأبي العلاء بن زهر تقرُّباً إليه ولم يكن هذا الكتاب وقع إليه قبل ذلك، فلما تأمله ذمَّه واطَّرَحه"!!
ويذكر ابن أبي أصيبعة أيضا أنه في سنة 632هـ/1235م "وصل إلى دمشق تاجر من بلاد العجم (= فارس إلى آسيا الوسطى)، ومعه نسخة من شرح ابن أبي صادق (النيسابوري ت نحو 470هـ/1077م) لكتاب ‘منافع الأعضاء‘ لجالينوس (ت 216م)، وهي صحيحة.. من خط المصنف، ولم يكن قبل ذلك منها نسخة في الشام"!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75448
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب   تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Emptyالثلاثاء 01 أكتوبر 2024, 9:19 am

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 9b5a4380-755b-43e7-b129-fc9c9a7d9895



الشافعي روى لـ300 شاعر مجنون والذهبي سمع كتب نوادرهم وأخضعهم المعتزلة للدراسة.. مجانين العرب ثوار وأولياء وعاشقون
في الوقت الذي أسس فيه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (ت 95هـ/715م) أول مستشفى في الإسلام كان ضمن خدماته توفير الرعاية لمرضى الصحة النفسية أواخر القرن الأول الهجري/مطلع القرن الثامن الميلادي؛ فإن البلاد الأوروبية لم تعرف أول مستشفى للأمراض النفسية إلا في القرن التاسع الهجري/الـ15م، وذلك ببناء أول مأوى للمصابين بالأمراض النفسية في فرنسا على مثال "بيمارستان قلاوون" الذي بُني في القاهرة عام 683هـ/1284م.
ومن المعروف أن العرب لم يهتموا فقط بظاهرة الجنون علاجا ورعاية، بل أيضا انشغلوا بالنظر إليها باعتبارها حالةً معرفيةً؛ فقد صمّم العرب نظاما منهجيا في غاية العمق لرصد ظاهرة الجنون، وجمعوا آثار المجانين وأشعارهم ومقولاتهم، وفرّقوا بشكل دقيق بين حالات الجنون التي تصيب العقل بسبب اضطراب إدراكي، وبين ما يعتري النفس من اختلاط وأوهام ووَجْد وعشق غياب واكتئاب.
ومن الأشياء اللافتة التي ترصدها هذه المقالة تلك العناية العجيبة التي أولتها شخصيات من تيار المعتزلة لأحوال المجانين، وحرصهم على الاجتماع بهم واختبار أفكارهم، ومبعث العجب في هذا الأمر هو تمركز المعتزلة حول العقل وإعلاؤهم من شأنه ونفورهم الشديد من أي تغييب للنظر العقلي المنطقي. وربما لا يكون لنا من تفسير لهذا الأمر إلا تعليل إمام معتزلي كبير مثل أبي عثمان الجاحظ (ت 255هـ/869م) الذي كشفت دراستنا هذه -لأول مرة فيما نعلم- عن كتاب مفقود له خصصه للمجانين.
فقد اعتبر أبو عثمان أن الغرائب التي تختلف عن مادة العقل تخصب التفكير وتُرْوِي ظمأَ التأمل، وبالتالي فإن هذا الاختلاط بأعاجيب الأحوال وغرائبها يعدّ من مستثيرات الفكر والنظر. والواقع أن المعتزلة ليسوا وحدهم في ذلك؛ فهناك كثير من أئمة الفقهاء والمحدِّثين اعتنوْا بتدوين ودراسة وحفظ أقوال المجانين وأشعارهم ونوادرهم، وقد عرضنا لنماذج من هؤلاء الأئمة في صلب المادة.
ومن أبرز ما انشغلت به هذه المقالة سعيُها لأن تمد جسرا بين شعراء المجانين ونظرائهم من العشاق ورجال المتصوفة، وكيف أن مجانين الحب العذري أثّروا -بالصور الشعرية الغزلية العفيفة والأخّاذة التي رسموها- على أدب المتصوفة المطوِّف في آفاق "الحب الإلهي"، وهذا التواصل والانتقال ما بين العشق الأرضي والحب السماوي يؤكد أن كثيرا من أحوال وأدبيات المتصوفة المسلمين كانت وليدة مؤثرات محلية وليست دخيلة أو مستوردة.
وإلى جانب ذلك؛ رصدت المقالة تحليلات مهمة قدمها فقهاء ومفكرون مسلمون لظاهرة "عقلاء المجانين" معللين الأسباب التي قادت بعضهم إلى تلك الوضعية، حيث أرجع نفر منهم ظهور بعض تلك الحالات إلى توجه تلك الشخصيات نحو الانصراف عن الحياة، أو اختيارهم العيش على حافتها، والبقاء في موقع المراقب من الخارج الساخر من الأوضاع المحيطة به، وأنه بسبب الانصراف والانشغال عن تفاصيل الحياة صَفَتْ نفوسُهم، فتواردت عيلهم الانجذابات الروحية والنفسية العميقة، وهي أحوال لا تستدعي مطاردتهم أو القسوة عليهم بل تفرض أن يحاطوا بعناية خاصة ملؤها التفهم والرحمة.
وهكذا؛ فإن هذه المقالة تكشف الأفق السامي الذي بلغته الثقافة العربية الإسلامية في احتفائها المدهش بفئة المجانين وليس فقط تسامحها العظيم مع أوضاعها وأوجاعها، كما تبرز المقالة عمق ما اتصفت به تلك الثقافة من المرونة والرحابة إزاء تلك الظاهرة، في الوقت الذي كانت تنظر فيه ثقافات أخرى إلى المجنون باعتباره وحشا، والجنون بوصفه حالة شيطانية يجب أن تُعزل وتُنفى وتُبعد؛ كما يقول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (ت 1415هـ/1984م) الذي قدم -في كتابه ‘الجنون في العصور الكلاسيكية‘- أهمَّ دراسة عن تاريخ الجنون بالغرب في العصر الكلاسيكي. وفي المقابل؛ تعرض دراستنا هذه نمطا من الشغف العجيب عند مفكري الإسلام برصد جانب آخر من الحقيقة لا يمكن الإمساك به إلا عندما يصمت العقل!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 7ebe786e-b496-481c-81e3-8dac2296ef95
عقلاء المجانين
لعل أهم ما يمكن أن نطرق به مقاربة المسلمين لظاهرة الجنون ونظرتهم إلى فئة المجانين هو المدخل القرآني لهذا الموضوع؛ فقد وردت كلمة "مجنون" في القرآن 11 مرة، وغالبا ما يكون ذلك وصفا للأنبياء ورد على ألسنة المكذِّبين برسالاتهم من أقوامهم.

ويحلل الإمام أبو القاسم بن حبيب النَّيْسابوري (ت 406هـ/1016م) -في كتابه ‘عقلاء المجانين‘- سبب رمي الأنبياء بالجنون بقوله "دعت الأممُ الرسلَ مجانين لأنهم شقّوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه". وفي أحاديث صحيحيْ البخاري ومسلم وردت كلمة "مجنون" أو "به جنون" 21 مرة.وأول ما يلفت الانتباه في نظرة العرب إلى الجنون أو ما يشابهه هو كثرة المترادفات اللغوية للفظة الجنون؛ فقد رصد الباحث المعاصر أحمد الخصوصي -في كتابه ‘الحمق والجنون فى التراث العربي‘- غزارة مترادفات الجنون في معجم "لسان العرب"، إذْ وصل عددها إلى 80 مفردة، بينما بلغت اشتقاقات الحُمْق نحو 400 لفظة.
ولعل ذلك هو ما دفع أبا حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) لقوله -في ‘الإمتاع والمؤانسة‘- إن "العقل بين أصحابه ذو عَرْض واسع، وبقدر ذلك يتفاضلون التفاضل الذي لا سبيل إلى حصره، وكذلك الجنون بين أهله ذو عَرْض واسع، وبحسب ذلك يتفاوتون التفاوت الذي لا مطمع في تحصيله.
وكما أنه يبدر من العاقل بعض ما لا يتوقع إلا من المجنون؛ كذلك يبدر من المجنون بعض ما لا يتوقع إلا من العاقل، ولا يعتد بذلك ولا بهذا، أعني أن العاقل بذلك المقدار لا يُرَى مجنونا، والمجنون بذلك المقدار لا يُسمَّى عاقلا". وواضح من هذا التنظير أن مفكري المسلمين فطنوا إلى ذلك التوازي بين العقل والجنون، وأنه طالما أن العقل متحرك فإن الجنون سيسايره في الحركة والاتساع.
ويدهشنا أبو الفرَج النديم أو ابن النديم (ت 384هـ/995م) -في كتابه ‘الفِهْرِسْتْ‘- بحقيقة أن المسلمين صنّفوا مبكرا في ظاهرة الجنون والحمق؛ فقد قال إن المؤرخ أبا الحسن المدائني (ت 225هـ/840م) –وهو "العلامة الحافظ الصادق" وفق تعبير الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م)- ألّف مصنفا سماه "كتاب الحمقى"، فلعله أقدم ما وُضع في هذا الموضوع.
وهناك عدة كتب ألِّفت في رصد ظاهرة الجنون والمجانين ذكرها كل من النديم والنيسابوري، وأكد الأخير سماعه كتبا عاش مؤلفوها في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وهي مفقودة الآن؛ حيث قال "وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب، مثل كتاب الجاحظ (ت 255هـ/869م) وكتاب ابن أبي الدنيا (ت 281هـ/894م)، وأحمد بن لقمان (بن عبد الله أبي بكر السمرقندي المعروف بالقَبّابي من رجال النصف الأول من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي)، وأبي علي سهل بن علي البغدادي (الدُّوري المتوفى 290هـ/903م)".
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب A18aff8e-5e1e-446f-8b63-50404f391b4d
سباق معرفي
ويعني هذا الكلام أن للجاحظ كتابا خاصا بالمجانين الذين ما كان لهم أن يغيبوا عن دائرة رصده واهتمامه، وهو الباحث الولوع بدراسة الظواهر المجتمعية وغرائبها، لكن أثر هذا الكتاب ليس معلوما بدقة، ولا أعلم هل انتبه أحد المهتمين بتراث الرجل لأهمية البحث عن هذا الكتاب لإخراجه للناس، لكن يبدو أن أغلبية مادته موجودة في كتبه المشهورة التي تكتنز الكثير من النوادر والحكايات عن المجانين، سواء تلك التي استمدها من واقع الناس المعيش أو التي جاد بها خياله الأدبي الخِصب.

وعلى غرار النيسابوري؛ ذكر سبطُ ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان في تواريخ الأعيان‘- ضمن ترجمته لابن أبي الدنيا (ت 281هـ/894م) أنه صنف كتابا بعنوان "حكماء المجانين"، ولعل هذا العنوان محقّقا للقول المتداول بين الناس "خذوا الحكمة من أفواه المجانين".
لكن ما يلفت النظر أكثر هو أن عنوانا مثل "عقلاء المجانين" اعتلى أغلفة عدد كبير من الكتب التراثية؛ فقد عنْون به أبو بكر ابن أبي الأزهر (ت 325هـ/937م) كتابا في هذا الموضوع، وهناك رسالة مطبوعة بعنوان «عقلاء المجانين والموسوسين» لابن إسماعيل الضرّاب المصري (ت 392هـ/1003م).
ورغم أن الضرّاب معاصر لابن حبيب النيسابوري؛ فإن كتاب الأخير المسمى «عقلاء المجانين» يظل أبرز مؤلفات هذا الباب، فهو مكتوب على طريقة المرويات، ويقدمه مؤلفه بقوله: "ألَّفت هذا الكتاب على غير سَمْتِ (= منهج) تلك الكتب [السابقة عليه]، وهو كتاب يكفي الناظرَ فيه التردادَ وتصفحَ الكتب، وأرجو أني لم أُسبَق إلى مثله".
أما مقولة "عقلاء المجانين" نفسها فقد كانت أشبه بمصطلح جوّال يكتنز محاولة معرفية لجمع شتات أقوال شخصيات تاريخية مسّها طائف من الاضطراب النفسي أو العقلي، فتمّ جمعها وتوثيقها تحسبا ربما لوقتٍ ما يمكن أن يكون فيه مجانين الأمس هم عقلاء اليوم!!
ويسهل رصد هذا المصطلح بغزارة في بحور كتب التراجم والتاريخ والأدب؛ ففي ‘تاريخ بغداد‘ للخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) جاء أن العباس بن محمد ابن الضحاك الأشهلي (ت 263هـ/877م) "روى عن أبيه أخبار عقلاء المجانين"، وابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) وضع -في ‘صِفة الصفوة‘- بابا بعنوان: «ومن عقلاء المجانين بالبصرة».
كما أرخ الذهبي لصنف من هؤلاء في كتابه ‘تاريخ الإسلام ووَفيات المشاهير الأعلام‘، فقد قال في ترجمة الحرفوش عبد الله الفاتولة الحلبي (ت 700هـ/1300م) إنه "كانت جنازته مشهودة"، رغم أن الناس كانوا "يعدّونه من عُقلاء المجانين"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب E20df786-2fc2-4437-9848-ee18ca23ece3
لقاح للعقل
وهناك كتب أخرى تناولت هذه الظاهرة لكن في إطار فئة "الحمقى"، وهي دائرة أوسع من الجنون وإن كانت تتّحد معه في العديد من المظاهر النفسية والعقلية، مثل ما نسبه ابن النديم إلى الكتنجي (ت بعد 275هـ/888م) -الذي يصفه بأنه "في طبقة أبي العَنْبَس (الصَّيْمَري المتوفى 275هـ/888م) وأبي العِبَر (الهاشمي المتوفى 250هـ/862م) وقيل إنه خلف أبا العبر على الحماقة بعد موته"!!- من تأليفه كتابيْ: ‘كتاب المُلَح والمحمَّقين‘ و‘كتاب جامع الحماقات وأصل الرَّقاعات‘.

لكن يبقى ابن الجوزي حالة مميزة في هذا الباب بكتابه ‘أخبار الحمقى والمغفلين‘؛ إذْ أكد لنا الفكرة التي ذكرها التوحيدي بشأن توازي حركة العقل مع حركة الجنون أو الحمق، حيث يقول "إني لما شرعت في جمع أخبار الأذكياء وذكرت بعض المنقول عنهم ليكون مثالاً يُحْتذَى -لأن أخبار الشجعان تُعلِّم الشجاعة- آثرتُ أن أجمع أخبار الحمقى والمغفلين".
وأفرد ابن الجوزي بابا واسعا لسرد معاني الحمق وصفات الحمقى وأشكالهم الجسمانية، وفرَّق بين الحمق والجنون معرِّفا الأول بأنه "الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود"، أما الجنون فهو "عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعا".
وبالتالي فهو يفرق بين ما هو مرضي مثل الجنون، وما هو ضعف أو اضطراب في التفكير وهو الحمق. ومن رأيه أن الحمق "غريزة لا ينفعها التأديب، وإنما ينتفع [صاحبها] بالرياضة.. فتدفع الرياضة العوارض المفسدة"، وهو ما تعززه الحكمة العربية المأثورة والقاضية بأن "الحماقة أعيتْ مَن يداويها"! وهذا يعني أن مواجهة هذه السلوكيات بالعنف والوسائل الخشنة لن تفيد، وأن أصحابها يحتاجون إلى برامج معالجة تأهيلية متخصصة لتذهب عنهم هذه العوارض.
وإلى جانب الكتب المتخصصة في عالم المجانين والحمقى؛ عرَفت المكتبة العربية التراثية الكثيرَ من الكتب الأدبية والعامة التي احتوت مئات القصص من حكاياتهم، وفي طليعتها كتب الجاحظ وأبي الفَرَج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) وابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ/940م) وأبي حيان التوحيدي.
ويبدو أن هؤلاء جميعهم رغبوا -بإيرادهم هذه القصص- في تجاور وتداخل العادي مع المدهش في بعض مؤلفاتهم، يقول الجاحظ في فصل عقده عن "كلام النَّوْكَى والمُوَسْوِسين" في كتابه ‘البيان والتبيين‘: "وأحببنا ألا يكون مجموعا في مكان واحد إبقاءً على نشاط القارئ والمستمع". ولعل الجاحظ استثناء بين هؤلاء لأنه جمع بين المنهجين في التأليف كما رأينا في كتابه الضائع.
ولئن كان المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (ت 1415هـ/1984م) رأى أن العرب كانوا متسامحين مع ظاهرة إنسانية كالجنون؛ فإنه لم يفطن ربما إلى أن الأمر يتخطى التسامح والتندُّر وجمع الفكاهات إلى الموقف المعرفي الفعّال، ولم يكشف كذلك عن الدوافع التي جعلتهم يتخذون هذا الموقف المتسامح، وراكمت في ثقافتهم هذا التراث المدوَّن الهائل الذي يكشف في جانب منه عن شق آخر من الحياة العربية، وهو خطاب الجنون الذي لم يتم نبذه أو تهميشه أو إخراج أصحابه من مجتمعاتهم، كما حصل في المدن الأوروبية عبر ما كان يُسمَّى "سُفُن الحمقى" الشهيرة في الأدب الغربي، حيث ظل خطاب الجنون حاضرا ومصانا في الثقافة العربية.
وإذا حاولنا فهم بعض أسرار تشكُّل العقل العربي القديم الفذ؛ فسنجد أن من المفاتيح المهمة فيه -التي يجب أن تخضع لعناية الباحثين في التاريخ- حرص قطاع كبير من مختلف طبقات العلماء المسلمين على تكوين ذهني مشحون بالخاطف والغريب من أنماط التفكير، والسعي لاكتسابه من اللغة المتفجرة التي يوردها هؤلاء المغيبون.
فالإمام الشافعي (ت 204هـ/819م) كان أحد أشهر رواة شعر المجانين؛ وقد روى الإمامان المحدِّثان البَيْهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘مناقب الشافعي‘- والنووي (ت 676هـ/1277م) -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- أن محمد بن عبد الحكم (ت 268هـ/881م) –وكان تلميذا للشافعي- قال: "سمعت الشافعي يقول: أروي لثلاثمئة شاعر مجنون"!!
ويلخص ابن عبد ربه -في كتابه ‘العِقْد الفريد‘- وظيفة هذه النوعية من الآداب بقوله إنها إذا ما "أصغى إليها السامع وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميرا في الوحدة وأنيسا في الوحشة..، وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله، كما قالوا: ربّ رمية من غير رامٍ". وقبل ابن عبد ربه بعقود؛ رأى الجاحظ -في ‘البيان والتبيين‘- أن "الشيء مِن غير معدنه أغربُ…، وكلما كان أعجبَ كان أبدعَ! وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان ومُلَح المجانين"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Fc9661b9-1efa-4363-bef0-2e8c1f4617a7
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75448
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب   تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب Emptyالثلاثاء 01 أكتوبر 2024, 9:20 am

حوار النقيضين
وينقل ابن الجوزي -في ‘أخبار الحمق‘- عن الأصمعي (ت 216هـ/831م) قوله: "سمعت الرشيد (الخليفة العباسي المتوفى 193هـ/809م) يقول: النوادر تشحذ الأذهان وتفتق الآذان"! ويرى ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- أن بعض هؤلاء المجانين قد "غاب عن حسّه جملةً، فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال، وربما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق، وإدراك هؤلاء كلِّهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنه لا يحصل لهم الاتصال -وإن فقدوا الحس- إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه، ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك".

ولعل الأديب المعاصر مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ/1937م) حاول -في كتابه ‘وحي القلم‘- التعبيرَ عن تلك العلاقة التي قامت بين بعض صفوة رجال الأدب والفكر الإسلامي ونفر من هؤلاء المجانين، فقد ذهب إلى "أن من المجانين قوما ظرفاء يَدخُلهم الفساد في عقولهم من ناحيةِ فكرةٍ ملازمةٍ لا تبرح، فلا يكون جنونهم جنونا إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء…، ومثل هذا لا بد له ممن يستجيب لهذيانه كيما يحرِّك فيه خفَّته وطيشه وزهوه، وليكون عنده الشاهد على هذا الوجود الخيالي المبدَع الذي لا يوجد إلا في عقله المختلِّ، فإذا هو ظفِر بمن يُحاسنه (= يجامله) أو يُصانعه أو يُجاريه، حسبه مُذْعِنًا مؤمنا مصدِّقا، فلا يدَعُه من بعدها ويتعلَّق به أشدَّ التعلُّق، ويراه كأنه في ملكه…، فيتخذه صفِيًّا وهو يعتقد أنه رقيق، وقد يزعمه أستاذَه ليُفْهِمه من ذلك بحساب عقله… أنه تلميذه"!
وقد كان من المدهش حقا أمر اهتمام المعتزلة بالمجانين وعناية أئمتهم بجمع نوادرهم وأخبارهم ومحاورتهم، ومبعث العجب هنا أن المعتزلة عُرفوا بالانشغال بالعقل وأحواله وأنماطه انشغالا تاما؛ فما الذي دفعهم للبحث عن نقيض العقل والقفز في فضاءات الجنون؟! فهذا النيسابوري يذكر عن شيخ شيوخ المعتزلة أبي الهُذَيْل العَلّاف (ت 235هـ/850م) أنه نزل بأحد الأديرة وناظر أحد المجانين المقيمين فيه، وبعد أن سأله المجنون عدة أسئلة عرفه من نمط حجاجه فخاطبه قائلا له: "كُنْ أبا الهذيل العلاف"!
كما يحدثنا أبو إسحق الكتبي المعروف بالوَطْواط (ت 718هـ/1318م) أن إمام المعتزلة ثُمَامة بن أشْرَس (ت 213هـ/828م) قال: "بعثني الرشيد إلى دار المجانين (= مستشفاهم) لأصلِح ما فسد من حالهم"، أي أنه كان يتفقدهم ويعتني بأوضاعهم بتكليف رسمي من السلطة. وقد روى لنا ثمامة موقفا طريفا جرى له في "مناقشة كلامية عَقَدية" جرت بينه وبين أحدهم في إحدى دُور المجانين.
ومن المحاورات التي جرت بين ثمامة وبعض المجانين ما نقله النيسابوري -في كتابه ‘عقلاء المجانين‘-عن ثمامة أنه قال: "دخلت دَيْر هرقل (= دير للرهبان كان جنوبي بغداد) فرأيت فيه شابا مشدودا إلى سارية؛ فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ثمامة، قال: المتكلم؟ قلت: نعم! قال: يا ثمامة، هل للنوم لذة؟ قلت: نعم! قال: متى يجدها صاحبها؟ إن قلتَ: قبل النوم أحَلْتَ (= قلت مستحيلا)، وإن قلت: مع النوم أخطأت لأنه ذاهب العقل، وإن قلت: بعد النوم أخطأت لأنه قد انقضى! قلت: وما تقول أنت؟ قال: إن النعاس داء يَحُلّ بالبدن ودواؤه النوم"!!
وكان الإمام اللغوي أبو العباس المُبرّد (ت 285هـ/898م) –وهو ممن كان يُنسب إلى الفكر المعتزلي- كثير التردد على دُور ومجالس المجانين، التي أفادنا المستشرق الهولندي رينهارت دُوزي (ت 1300هـ/1883م) -في كتابه ‘تكملة المعاجم العربية‘ نقلا عن كتاب ‘ألف ليلة وليلة‘- باسم حارس إحداها فسماه "عرفشة"، وقال إنه "مراقب دار المجانين وحارسها"!
وكانت للمبرد مع هؤلاء المجانين مواقفُ وتجارب علمية عجيبة؛ فقد سأله أحد أصحابه ذات مرة قائلا: "يا أبا العباس بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى المُخَيِّس (= مكان سجن)، وإلى موضع المجانين والمعالجين فما معناك في ذلك؟ قال فقلت: إن فيهم طرائف من الكلام"؛ وفقا للإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في ‘تاريخ بغداد‘.
ولم يكن المبرد يرتاد دُور المجانين بمفرده بل كان يصطحب معه أحيانا بعض أصحابه من المعتزلة، وهو ما يدلنا على عنايتهم المنهجية بسلوك "عقلاء المجانين" هؤلاء؛ فقد نقل الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- هذه الحكاية التي نوردها على ما قد يكون فيها من صنعة خيال: "قال المبرد: دخلنا يوما على المجانين نزورهم -أنا وأصحاب معي- بالرَّقّة، فإذا فيهم شاب قريب العهد بالمكان عليه ثياب ناعمة، فلما بَصُرَ بنا قال: حياكم الله! ممن أنتم؟ قلنا: من أهل العراق؛ فقال: بأبي العراقَ وأهلَها! أنشدوني أو أنشدكم؟ قال: المبرد: بل أنشدنا أنت؛ فأنشأ يقول [….]:
يا راحل العِيس عجِّل كي أودعهم * يا راحل العيس في ترحـالك الأجلُ!
إني على العــهد لم أنقض مودتهم * فليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟!
فقال رجل من البُغَضاء (= الثقلاء) الذين معي: ماتوا! فقال الشاب: إذن أموتُ! فقال: إن شئت! فتمطَّى (= تمدَّد) واستند إلى سارية عنده ومات، وما برحنا حتى دفناه، رحمه الله"!!

تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 1e42ebec-724a-419b-9065-3ba283be43cf
الجنون فنون
والحقيقة أن العرب فطنوا مبكرا إلى حضور النبوغ الأدبي والفني في وديان الجنون -المشتق عندهم من "الجِنِّ"- التي سمَّوْا أحدها "وادي عَبْقَر"، ونسبوا إليه فقالوا "عبقري" لكل ما أعجبهم من الأشخاص والأفكار والأشياء؛ فقد قال الإمام اللغوي أبو عُبيد القاسم بن سلّام الهَرَوي (ت 224هـ/839م) -في كتابه ‘غريب الحديث‘- مفسِّرا معنى مفردة «عبقري»: "أصلُ هذا فيما يقال: إنه نُسِب إلى عَبْقَر، وهي أرض تسكنها الجن، فصارت مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع" وبديع بين أمثاله!!

وعبارة "الفنون الجنون" الشائعة بيننا اليوم قديمة جدا في تراثنا؛ فقد وردت -كما يفيدنا أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في كتابه ‘يتيمة الدهر‘- قبل ألف سنة في بيت لشاعر بلاط الدولة الغزنوية بخراسان (388-432هـ/998-1040م) أبي محمد عبد الله بن محمد الدوغابادي (ت نحو 429هـ/1039م):
ويُشرَب مِن فيه المُدامُ مُعلَّقا * على لَهَب، إن «الجنون فنون»!!

ثم جاء بعده الإمام جار الله الزَّمَخْشَري المعتزلي (ت 538هـ/1143م) فوظّفها أدبيا في المقامة السادسة والخمسين من مقاماته، والتي كانت بعنوان: "الجنون فنون، والفنون جنون"!! وينقل الجاحظ -في ‘البيان والتبيين‘- عمن يسميهم "المسجديِّين" في البصرة أن مَن "لم يَرْوِ أشعار المجانين.. كانوا لا يعدُّونه من الرواة"!!
وهنا يمكن أن نفهم سر ما قاله النيسابوري "سمعتُ كتبا في هذا الباب" يقصد بذلك أخبار المجانين، وأيضا ما ذكره الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) عن نفسه -في ‘سير أعلام النبلاء‘- ضمن ترجمته للنيسابوري هذا من أنه "العلامة المفسِّر الواعظ، صاحب كتاب ‘عقلاء المجانين‘ الذي «سمعناه» (= درسناه)"! وقوله -في ‘تاريخ الإسلام‘- مترجما لكمال الدين بن وريدة الحنبلي (ت 697هـ/1298م) المقرئ و"شيخ دار الحديث المستنصريّة" ببغداد إنه سمع "جزءَ ‘عقلاء المجانين‘ على ابن أبي حرب (أبو القاسم الفضل بن أبي حرب الجُرْجَاني المتوفى 488هـ/1095م)".
ومثلهم أبو يَعْقُوب الْعَطَّار الْبَغْدَادِيّ (ت بعد 281هـ/894م) الذي قال عنه المؤرخ ابن أيْبَك الصَّفَدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- إنه "جمع كتابا فيه [أخبار] عقلاء المجانين وحدّث به بطَرَسُوس (تقع اليوم جنوبي تركيا)، روى فيه عن أبي بكر بن أبي الدنيا…، ورواه عنه أبو عمرو" أحمد بن محمد ابن حكيم المدني الأصبهاني (ت 334هـ/946م) تلميذ الإمام ابن ماجه صاحب كتاب السُّنن (ت 273هـ/886م).
فإذا كان أئمة الحديث الكبار من أمثال الذهبي يُسجلون في تراجمهم "سماع" (دراسة) كتب أخبار المجانين والحمقى، ويدرّسونها في أماكن مثل طَرَسُوس التي كانت من الثغور العظيمة للجهاد والمرابطة، ويؤلفونها بأقلامهم كابن أبي الدنيا (ت 281هـ/894م) والنيسابوري وابن الجوزي فيما سنرى؛ فإن هذا يدل على احتفاء الطبقة العالمة والمثقفة قديما بمثل هذه المواضيع ومصنفاتها، وأنهم لم يكونوا يعتبرونها من قبيل العبث.
بل إن الذهبي وصف أحد أشهر المحمّقين في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي -وهو أبو العِبَر الهاشمي (ت 250هـ/862م)- بأنه "كان من أذكياء العالم"، ولم يستخدم الذهبي وصف "أذكياء العالم" إلا لقلة ممن ترجم لهم من "أعلام النبلاء". وكان الإمام ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) يقول -في كتابه ‘استنشاق نسيم الأنْس من نفحات رياض القدس‘- عن "عقلاء المجانين" هؤلاء: "وكانت أقوالهم و[أحوالهم] محفوظة غالبا، ويصدر منهم من الكلام الحسن شيء كثير"!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب B9dc54a3-88bd-4ed3-8c96-1b608ed77f46
الحاجة للجنون
من الأشياء التي تمكن ملاحظتها في تاريخ الجنون والحمق في التراث العربي ظاهرة "التحامق" أو "التجانن"، ويمكن إرجاعها إلى عدة أسباب منها التكيف والمسايرة مع سيطرة الجنون وهيمنته على المجال العام في لحظة تاريخية يصبح العقل فيها مهمشا وغريبا، ويمسي التعقل سببا في شقاء صاحبه!

ومن ذلك ما أورده الخطيب البغدادي -في ‘الجامع لأخلاق الراوي والسامع‘- من أن "عثمان الوراق (من رجال القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي).. رأى العتّابي الشاعر (ت 220هـ/835م) يأكل الخبز على الطريق بباب الشام [في بغداد]، فقال له: ويحك، أما تستحي؟ قال: أرأيت لو كنا في دار بقر كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟! قال الوراق: لا! قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر! فقام العتابي، فوعظ وقصّ ودعا؛ حتى كثـُر الزحام عليه، ثم قال لهم: روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانُه أرنبةَ أنفه لم يدخل النار! فما بقي أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدّره يبلغها أم لا! فلما تفرقوا التفت العتابي إلى صاحبه وقال: ألم أخبرك أنهم بقر؟!".
ويحكي النيسابوري أن أديبا شاعرا كان محروما من الجوائز الشعرية ثم "تحامق وأخذ في الهزل فحسُنت حاله وراج أمره حتى إن الملوك والأشراف أولِعوا به". ويروي القاضي المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن أبا العِبَر الهاشمي يقال إنه "كان في مبدأ أمره صالح الشعر، فرأى أن شعره -مع توسطه- لا يَنفُق (= يرُوج) مع [شعر] أبي تمام (ت 231هـ/846م) والبحتري (ت 284هـ/898م) وأضرابهما؛ فعدل إلى الحمق وكسب بذلك أضعاف ما كسبه كل شاعر بالجِد"!!
بل أن أبا العبر نفسه أقرّ بأنه تلقى تأهيلا نظريا وعمليا في أصول الحماقة لكي يرفع مستوى حظوظه المعاشية والمالية؛ فقد أورد أبو إسحق الحُصْري القيرواني (ت 453هـ/1062م) -في جمع ‘الجواهر في المُلَح والنوادر‘- أن أبا العبر قال: "كنا نختلف -ونحن أحداث- إلى رجل يعلمنا الهزل؛ فكان يقول: أول ما تريدون (= تفعلون) قلب الأشياء! فكنا نقول إذا أصبح: كيف أمسيتَ؟ وإذا أمسى: كيف أصبحتَ؟"، ولازم أن أبو العبر شيخه هذا إلى أن أجازه في "فنون" الحمق وأصوله!
وثمة نمط من التحامق يريد به أصحابه الإفلات من عقاب السلطة، كما نرى في الحكاية التي جمع فيها أحدهم متناقضات الولاءات المذهبية في وصفه لنفسه وخصمه أمام أحد الولاة! فقد روى ابن الجوزي -في أخبار الحمقى والمغفلين‘- عن ثمامة بن أشرس أنه قال: "شهدتُ رجلا وقد قدّم خصما له إلى أحد الولاة فقال: أصلحك الله، أنا رافضي ناصبي، وخصمي جَهميّ مُشبِّه مُجسِّم قَدَريّ، يشتمُ الحجّاج بن الزبير الذي هدم الكعبة على علي بن أبي سفيان، ويلعنُ معاوية بن أبي طالب؛ فقال له الوالي: ما أدري مَمَّ أتعجبُ؟! من علمك بالأنساب أم من معرفتك الوثيقة بالألقاب! قال: أصلحك الله، والله ما خرجتُ من الكُتَّاب حتى تعلمت هذا كله"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب %D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A5%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF-00جنون ثوري
جاء في كتاب ‘موجز تاريخ الجنون‘ للمؤرخ الطبي البريطاني روي بورتر (ت 1423هـ/2002م) قول أحد المجانين: "نحن المجانين نمتلك حرية التعبير عما يعتمل في أنفسنا فيقول المرء ما يشاء دون أن يسائله أحد"؛ إنه الجنون الثوري الذي يقوم على انتقاد الطغيان ومقاومته لكن على طريقة المجانين، وقد يكون الجنون حقيقيا أو ادعاء للهرب من العقاب؛ حيث يتحصن المعارض الثوري بالجنون لدفع غائلة السلطة.

وكان للوالي الأموي الحَجّاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م) حكايات مشهورة مع المتحامقين، وتبدو القصة التالية ذات مغزى خاص في فهم كيفية اتخاذ المعارضة السياسية الجنونَ إحدى آلياتها الانتقادية الفعالة لرواية الحقيقة المحجوبة من السلطة، ثم وسيلة للإفلات من تبعات ذلك؛ إذْ يحكي النيسابوري أن الحجاج خرج يوما للنزهة فوجد شيخا فسأله: "كيف ترون عمالكم؟ قال: شر عمال، يظلمون الناس ويستحلون أموالهم!
قال: فكيف قولك في الحجاج؟ قال: ذاك ما ولي العراقَ شرٌّ منه، قبحه الله وقبح من استعمله! قال: أتعرف من أنا؟ قال: لا، قال: أنا الحجاج، قال: جُعلتُ فداك! أو تعرف من أنا؟ قال: لا، قال: أنا… مجنون بني عِجْل! أُصرع في كل يوم مرتين…؛ فضحك الحجاج منه وأمر له بصِلة (= جائزة)"!!
وقد ظهرت في زمن العباسيين شخصيات كثيرة اتسمت بقدر من السلوك الغريب لكي تتسنى لها معارضة السلطة بأمان؛ ففي زمن الخليفة المهدي (ت 169هـ/785م) لمع نجم أحد هؤلاء المجانين الثوريين من رواة الحقيقة الممنوعة، فكان -كما يروي ابن عبد ربه في ‘العِقْد الفريد‘- يركب قصبة في كل جمعة يوميْ الاثنين والخميس، "فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلِّم على صبيانه (= تلامذته) حُكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلًّا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصدّيق، فأخِذ غلام فأجلِس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية، فقد عدلتَ وقمت بالقِسط وخلَفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، اذهبوا به إلى أعلى عليين"، ثم يفعل ذلك مع بقية الخلفاء الراشدين.
ثم يستمر هذا المجنون الثائر في رصد الخلفاء مستعرضا سلاطين بني أمية واحدا واحدا، فيوزعهم بين الجنة والنار حسب ما يقرره هو من عدالتهم مع رعاياهم، وحين يصل إلى زمن العباسيين يسكت "فقيل له: هذا أبو العباس [المهدي] أمير المؤمنين! قال: بَلَغَ أمرُنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 33209fcf-b101-44e4-810b-40a1918d8ddd
حُب وتصوف
وقد عرف العرب في تراثهم ظاهرة المحبّين المجانين، وهم طائفة واسعة لقوم سَلَبَ العشقُ ألبابَهم وإن ظلت نفوسهم ترشح بأعذب الشعر وأشجاه. وقد أوردهم النيسابوري ضمن طبقات «عقلاء المجانين»، وأفرد باباً للشاعر قيس بن الملوّح العامري (ت 68هـ/688م) وجذباته النفسية التي ندّت عن حب ميؤوس منه. فقد وصفه أبو الطيب الوشّاء (ت 325هـ/937م) بأنه "كان لا يعقل عقلا، فإذا ذُكرت ليلى ثاب إليه عقله"!!

وروى ابن حزم الظاهري الأندلسي (ت 456هـ/1065م) -في رسائله وكتابه ‘طوق الحمامة‘- حكايات عدة عن هذا الصنف من الجنون، ويلفت النظر أن قصصه عنه كانت تخص بعض الطبقات الاجتماعية والعلمية، وأن هذا الداء قد يصيب بعض كبار العلماء العاشقين؛ فيقول: "حدثني أبو بكر محمد بن بَقِيّ الحَجَري (ت بعد 400هـ/1010م)، وكان حكيم الطبع عاقلا فهيما، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذِكْره.. [أنه] أحبّ [جارية في بغداد].. فاختلط عقله وأقام في المارستان (= المستشفى) يعاني مدة طويلة"!!
وابن حزم في معالجاته لهذه الظاهرة العجيبة لم يكتف بالرصد بل قدّم تحليلا نفسيا عميقا لها؛ حيث رأى أن العشق ينتج عن "إدمان الفكر"، وأنه "إذا غلبت الفكرة وتمكن الخلط وتُرك التداوي خرج الأمر عن حد الحب إلى حد الوَلَه والجنون".
لكن من جانب آخر؛ هناك من التمس من لفيح صحراء العرب حرارةَ العشق، ولكنه وجّهها وجهة أخرى نحو محبوب أسمى، إنه "الحب الإلهي". ويبدو أن عشق مجنون بني عامر (المعروف بمجنون ليلى المتوفى 68هـ/688م) ألهم "مجانين" من نوع آخر هم المحبّون للرحمن سبحانه وتعالى، وعلى من يبحث عن ينابيعه الأصلية أن يذهب وراء هؤلاء الشعراء المجانين الذين عاشوا قديما في صحراء العرب.
فقد باتت أشعار مجنون ليلى وصوره عن "الديار وليلى والجدار" منبع إلهام للمتصوفة عبر القرون؛ إذ استعارها الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) حين كتب عن المشاهدة والتجربة والعشق الذي يتعدى ذات المحبوب إلى أثره، وكذلك حب الله تعالى إذا قوي وغلب على القلب.
ويحكي المؤرخ نور الدين السَّمْهُودي (ت 911هـ/1505م) -في ‘جواهر العِقدين في فضل الشرفيْن‘- عن شيخه الإمام شرف الدين المناوي (ت 871هـ/1466م) أنه "كان إذا خرج إلى الدرس يقف بدهليز بيته حتى يحصِّل النية ثم يخرج، وكان كثيرا ما ينشد هذا البيت [من شعر مجنون ليلى]:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً ** على غير ليلى فَهْوَ دمعٌ مُضيَّع!
ثم يبكي بكاءً كثيرا"!!

فمجانين التصوف المحبون الهائمون المسافرون من أمثال "سعدون المجنون" و"عُليّان المجنون" كلهم كانوا من دراويش المجانين. وقد قال الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) -في ‘رسالة في اتباع الرسول ﷺ‘ المنشورة ضمن كتابه ‘جامع المسائل‘- عن هذا النمط من الشخصيات: "لهم قلوب فيها تألُّه (= خشوع) وإنابة إلى الله تعالى ومحبة له، وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يسمون «عقلاء المجانين»". ثم حلّل سبب اختلال الواحد منهم بأنه لـ"وارد ورد عليه من المحبة أو المخافة أو الحزن أو الفرح حتى انحرف مزاجه". ورأى أنه لا يجوز الاقتداء بهم إلا فيما يوافق أحكام الشريعة.
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب C4c1924f-d603-4e8d-82a8-c0c1b2cc757a
بين ثقافتين
وبعد هذه الرحلة الطويلة مع الجنون والمجانين والحمقى في فضاء الثقافة العربية؛ نجد أنفسنا أمام مقارنة كتب عنها باقتضاب ميشيل فوكو في كتابه ‘الجنون في العصور الكلاسيكية‘، حين تناول الفروق بين منهج العرب في التعامل مع ظاهرة المجانين وموقف الغرب منها لاسيما فيما بعد عصور التنوير.

فقد أشاد فوكو -في مواضع من كتابه- بتسامح العرب مع خطابات الجنون، وقال إنهم شيّدوا في وقت مبكر مستشفيات خاصة بالمجانين في بغداد والقاهرة، وأن هذه المؤسسات العلاجية "كانت تستعمل في العلاج وصفةً روحية تستعين بالموسيقى والرقص والفُرجة والاستماع إلى حكايات غريبة"، ورأى أن مشافي المجانين انتقلت إلى أوروبا من الأندلس الإسلامية.
لقد كان من مظاهر الاهتمام بالمجانين في التاريخ الإسلامي العنايةُ بهم وتوفير البيئة الصحية الجيدة لهم، وهو ما سجله خبراء فرنسيون أثناء احتلال فرنسا لمصر أيام نابليون بونابرت (ت 1235هـ/1821م)، وربما يكون ميشيل فوكو قد اطّلع على تلك السجلات واستفاد منها في دراساته عن الجنون.
وكان من اللافت تركيز الفرنسيين -في أبحاثهم بمصر- على ترتيبات علاج أصحاب الأمراض العقلية والنفسية في مستشفى "المارستان المنصوري" الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م) في القاهرة سنة 684هـ/1285م، ووصفه المؤرخ الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه ‘قصة الحضارة‘- بأنه "أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق"!!
فقد ذكر الدكتور أحمد عيسى (ت 1365هـ/1945م) -في كتابه ‘تاريخ البيمارستانات في الإسلام‘- أنه "جاء في «خطط مصر» (= كتاب «وصف مصر») التي وضعتها الحملة الفرنسية على مصر من سنة 1798 (= 1212هـ) إلى سنة 1801 (= 1216هـ)؛ قال المسيو جومار (آدم فرانسوا جومار Edme François Jomard المتوفى 1278هـ/1862م) أحد العلماء الذين استقدمهم نابليون مع الحملة: أنشئ في القاهرة -منذ خمسة قرون أو ستة- عدة مارستانات (= مستشفيات) تضم الأعلّاء والمرضى والمجانين، ولم يبق منها سوى مارستان واحد هو مارستان قلاوون، تجتمع فيه المجانين من الجنسين.
ومارستان القاهرة هذا لا يزال أكثر شهرة من مارستان دمشق، وقد كان في الأصل مخصصا للمجانين، ثم جُعل لقبول كل نوع من الأمراض، وصَرف عليه سلاطين مصر مالا وافرا، وأفرِد فيه لكل مرض قاعة خاصة وطبيب خاص، وللذكور فيه قسم منعزل عن قسم الإناث. وكان يدخله كل المرضى فقراء وأغنياء بدون تمييز، وكان يُجْلب إليه الأطباء من مختلف جهات الشرق (= بلاد الإسلام) ويُجزل لهم العطاء، وكانت له خزانة شراب صيدلية مجهزة بالأدوية والأدوات.
ويقال إن كل مريض كانت نفقاته في كل يوم دينارا، وكان له شخصان يقومان بخدمته. وكان المؤرَّقون (= المصابون بالأرَق) من المرضى يُعزلون في قاعة منفردة يشنِّفون فيها آذانهم بسماع ألحان الموسيقى الشجية، أو يتسلَّوْن باستماع القصص يلقيها عليهم القُصّاص، وكان المرضى الذين يستعيدون صحتهم يعزلون عن باقي المرضى ويمتّعون بمشاهدة الرقص، وكانت تمثل أمامهـ[ـم] الروايات المضحكة، وكان يُعطَى لكل مريض حين خروجه من المارستان خمس قطع من الذهب، حتى لا يضطر إلى الالتجاء إلى العمل الشاق في الحال" حتى تتم عافيتهم!!
وأضاف التقرير الفرنسي أنه "كان يُصرف من [أموال] الوقف على بعض أجواق (= فرق موسيقية) تأتي كل يوم إلى المارستان لتسلية المرضى بالغناء أو بالعزف على الآلات الموسيقية. ولتخفيف ألم الانتظار وطول الوقت على المرضى؛ كان المؤذنون في المسجد يؤذنون في السَّحَر وفي الفجر ساعتين قبل الميعاد، حتى يخفف [الأذانُ] قلقَ المرضى الذين أضجرهم السهر وطول الوقت"!!
وكانت تلك الرعاية العلاجية مدعومة بمنظومة متكاملة من المرافق الصحية والخدمية اشتمل عليها مستشفى المنصور قلاوون، وقد وصف ديورانت جانبا منها فقال إن هذا المستشفى "كان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض، وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة، ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية زُوّدت بمناظر تسرّ العين"!!
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب 2-64
تمييز منهجي
وفي مقابل تلك الصورة الإنسانية المشرقة لعناية الحضارة الإسلامية بالمجانين ومعاناتهم العقلية والنفسية؛ كتب فوكو فصولا عن مآسي الإقصاء والنبذ والتعامل الوحشي مع المجانين في المنطقة الأوروبية، وكيف كانوا يُرسَلون فيما يسمى "سفن الحمقى" بعيدا عن المدن، بحيث يُلْقَوْنَ في أي أرض نائية خالية. كما تحدث عن زنازين وسجون المستشفيات والبؤس والشقاء والتعذيب، ورصد كيف كان يضاف إلى فئات الحمقى والمجانين الدراويشُ والشحاذون والفقراء والعاطلون، ليقذف بالجميع إلى "عالم الرعب"!!

ويُرجِع فوكو سبب تلك اللعنة التي حلت بمجانين الغرب إلى اللحظة التي دخل فيها العالم الغربي دائرة هيمنة العقل المتأله، وكانت نقطة البدء حينما أعلن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (ت 1060هـ/1650م) مقولته: "أنا أفكر إذن أنا موجود"! التي تحولت إلى "أنا أفكر إذن أنا أحتكر الوجود والحياة والمعرفة"، فصار العقلاء والأذكياء وحدهم هم الذين لهم حق الحياة، ولا عزاء للحمقى والمغفلين!!
وهذا أمر لم تعرفه الحضارة العربية الإسلامية التي كانت تؤمن بوجود العقل وكذلك بوجود معارف وحيٍ غيبية فوق العقل، وأن لحظة صمت العقل لا تعني موت الحقيقة كما يقول ابن خَلْدُون (ت 808هـ/1406م) بل هي لحظة مهمة لمعرفة جانب مختلف من الحقيقة، وأن «عقلاء المجانين» هم صنف من البشر فقد نوعا من العقول وهو العقل المعاشي، "وليس من فقد هذه الصّفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته"؛ طبقا لابن خَلْدُون في ‘المقدمة‘.
وهذا المنهج المعرفي العربي المركَّب هو أساس التعددية عند العرب التي منحت شريحة واسعة من المجانين والمغيَّبي الإدراك حقَّ الحياة وحق الكلام والاعتراض، طبقا لمبدأ ابن خلدون المناقض للصيغة الديكارتية، فالمبدأ العربي الخلدوني يصف المجنون بأنه "موجودُ الحقيقةِ معدومُ العقل التّكليفيّ".
والواقع أن الحكماء المسلمين كان يتعاملون بشيء من التوزان بين ظواهر الجنون المَرَضية والظواهر الإيمانية الكشفية، ولم يتركوا كل تلك الظواهر للتنصيف المَرَضي النفسي؛ فمثلا يرى الغزالي -في كتابه ‘معارج القدس في مدارج معرفه النفس‘- أن "المجانين قد يشاهدون ما يتخيلون"، وبالتالي لا يُستبعَد "أن يُخْبِروا بالأمور الكائنة فيَصْدُقوا في الكثير، ولذلك مقدمة وهي أن القوة المتخيِّلة كالموضوعة بين قوتين مستعمِلتين لها: سافلة (= الحسّ) وعالية (= العقل)"، وعلى هذا فالمعرفة الصاعدة من العقل الباطن قد يعارضها العقل الواعي ويصفّيها من الأوهام "فإنه بقوته يصرفها (= القوة المتخيِّلة) عن التخيل للكاذبات" مما لم يثبته الحس ولا العقل.
ولكن في حال ضعف الوعي وتراجع تأثيره تقوم الصور الباطنية بالصعود والهيمنة، كما يحدث في النوم وعند تعاطي المُسْكِرات التي تغيّب العقل والعقاقير المؤثرة في الوعي، وهي كذلك تَحْدُث كثيرا في حال الجنون إذْ "تقْوَى [القوة المتخيِّلة] على مقاومة العقل، وتمعن في ما هو فعلها الخاص غير ملتفتـ[ـة] إلى معاندة العقل، وهذا في حال النوم وعند إحضارها الصورة كالمشاهَدة، وتارة تتخلص عن سياسة العقل عند فساد الآلة التي يستعملها العقل في تدبير البدن".
ويفرّق الغزالي بوضوح بين هذه الحالة التي يغيب فيها العقل مَرَضِيًّا، وتلك التي يتراجع فيها في حالة الكشف الصوفي الذي يصفه بأنه "نور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف..؛ فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحرَّرة فقد ضيق رحمةَ الله تعالى الواسعة"، ثم يقرر أن هذا الكشف لا يطيح بالضروريات العقلية التي تظل "مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين".
والحقيقة أن المنهج المعرفي الإسلامي المركَّب تجاه ظاهرة الجنون وجماعة المجانين -بمن فيهم "عقلاء المجانين"- هو الذي منع ظهور ذلك الإقصاء والتوحش والإبادة التي حدثت للمجانين وعامة المخالفين في الحضارة الغربية، ولذلك ظلت الثقافة العربية الإسلامية تحافظ على مساحة من التجاور والتعايش بين "دار العقل" و"دائرة الجنون"؛ كما يقول الإمام ابن الجوزي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
تاريخ انتشار المذاهب وهجرة الكتب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  بين هجرة المسلمين إلى يثرب… وهجرة الصهاينة إلى فلسطين
» المذاهب الأربعة وأئمتها
»  الفقه على المذاهب الأربعة
» قصة المذاهب الفقهية المندثرة..
»  أحكام الزكـــــاة على المذاهب الأربعة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: