ما أرخصك أيها العربي المسكين!
ليس هناك شك في أن عدد الضحايا المدنيين الذين سحقتهم القنابل الإسرائيلية مساء الجمعة في عملية اغتيال أمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، كبير.
يكفي التذكير بقوة القنابل وعددها وإطلاقها في منطقة ضيقة مكتظة بالأبنية والبشر في ساعة الذروة من مساء يوم جمعة، للتأكد من أن الخسائر البشرية لا يمكن إلا أن تكون فادحة.
لكن لا أحد توقف عند هؤلاء الضحايا. بل إن بعض التقارير ذكرت أن عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة!
لا أحد سأل عن هوياتهم وأعمارهم، ناهيك عن قصصهم وأحلامهم التي جُزَّت في رمشة عين.
هل تعرفون لماذا؟
لأنه التطبيع مع الموت عندما يضرب هذه المنطقة من العالم ويكون الضحايا من أهلها فقط.
أكثر من التطبيع مع الموت، رخص قيمة الإنسان العربي واستطرادا التسامح واللامبالاة عندما يكون هو الضحية. قارن بين عناوين وسائل الإعلام الدولية عندما يسقط 50 شخصا في غزة بقذائف إسرائيلية، وعندما يُصاب إسرائيلي واحد برصاص أو خنجر فلسطيني، للتأكد من سعر هؤلاء وأؤلئك.
عجيبة درجة تقبّل العالم لقتل الإنسان العربي بهذه الأعداد غير المسبوقة في التاريخ المعاصر.
في غزة جعل جيش الاحتلال الإسرائيلي من القتل الجماعي تسلية يومية لجنوده. قتلوا أكثر من واحد وأربعين ألف إنسان (بعض التقديرات تضرب هذا الرقم في ثلاثة) ثلثاهم أطفال ونساء منذ السابع من أكتوبر. وشرّدوا وجوَّعوا أكثر من مليوني إنسان وأحرقوا البيوت والمدارس ودور العبادة وممتلكات الناس وكل مسببات الحياة من حولهم.
وفي أول يوم من غاراته الجوية على لبنان الأسبوع الماضي قتل «الجيش الأكثر أخلاقا في العالم» 500 إنسان بوتيرة تجاوزت وتيرة القتل حتى في غزة. وشرّد عشرات الآلاف وأحرق ما شاء من الممتلكات (كم كان سيقتل لو أنه الجيش الأقل أخلاقا في العالم؟).
عند كل مذبحة تزعم إسرائيل أنها تصرفت بناء على «معلومات أكيدة» واستهدفت مواقع أو مقاتلين لحماس أو حزب الله. وقبل كل مذبحة تدرك أن ما ستقدم عليه سيودي بعشرات وربما مئات الأبرياء، لكن ذلك لا يمنعها لأن عقيدتها تبيح ذلك ولأنها تدرك أن الأمر سيمر بلا حساب أو عقاب.
هذه الوتيرة الخطيرة في القتل الجماعي تجعل من الواجب تسمية الأشياء بمسمياتها: إبادة جماعية عمادها العقاب الجماعي لأن كل سكان الضاحية، من منظورها، مقاتلون مع حزب الله، وكل سكان غزة إرهابيون يستحقون البطش بهم.
الإعلام الذي منذ سنوات يحتفي بصاروخ يسقط في منتصف الطريق، ويعتبر إطلاق صافرات الإنذار في مدينة إسرائيلية انتصارا وردًّا ساحقا على قتل إسرائيل عشرات العرب، هذا الإعلام يتحمّل مسؤولية تربية الجمهور على انتصارات لا وجود لها
لو قُـتل 500 إنسان من أي جنسية أو عرق أو ديانة في يوم واحد لاهتزت الدنيا. بل لو قُتلت 500 سلحفاة في يوم واحد لانتفض «العالم المتحضر» ونصب المشانق لقاتليها.
لكن لأن القاتل إسرائيلي والمقتول عربي، فلا بأس من التزام الصمت.
خلال العقود الماضية كانت إسرائيل تتصرف بهمجية مختلفة. رغم استباحتها دماء من تعتبرهم أعداءها، كانت هناك مكابح تلجم تهورها. كانت تقتل ولا تتبجح. أما القتل الجماعي الذي مارسته في غزة خلال السنة المنقضية، وفي لبنان خلال الشهر الماضي، فهو ثمرة توظيف لعقيدتها التوراتية والحربية تجاه العرب. وهذا التوظيف نابع من عنصرية دفينة لا ترى خللا أو مشكلة في قتل مئات العرب، أطفالا ونساء وشيوخا، إذا كان ذلك سيحقق لها هدفا عسكريا أو سياسيا، ولو صغيرا.
هذه العنصرية الدفينة وحدها تفسّر قتل 300 فلسطيني لتحرير أربعة رهائن في مخيم النصيرات. ولا تجد غضاضة في قصف مدرسة أو مربع سكني على رؤوس الأبرياء العزّل لمجرد الاشتباه أن شخصية من حماس موجودة هناك. وتقتل عشرات الأبرياء في بيروت لأن بزعم أن اللوم على الشخص المستهدف لأنه اختبأ في عمارة مأهولة بالمدنيين.
هذه العنصرية وحدها تُفسر تفجير آلاف أجهزة الاتصال في أيدي حامليها وسط الناس في الأسواق والمستشفيات والبيوت وسيارات الأجرة. هذا إرهاب دولة لا يختلف عن تسميم خزان مياه الشرب في مدينة مأهولة بملايين الناس، ويستحق أشد أنواع العقاب.
الأشياء مربوط بعضها ببعض، هذه العنصرية الدفينة فاضت لأنها لم تجد من يلجمها ويُبدي الحد الأدنى من المروءة والرفض لها.
لهذا، وللإنصاف وحتى لا نظلم إسرائيل والغرب وحدهما، يجب القول إن العرب شركاء في هذه المذابح. كلٌّ بطريقته. بعض القادة شركاء مباشرون. بعضهم الآخر بالصمت والتواطؤ. الشعوب والنخب كذلك شريكة.
من المفروض القول إنه ليس من الطبيعي أن يصمت القادة العرب وإسرائيل تلقي حمم نيرانها على الضاحية فقط لأن تلك الحمم قد تريحهم من حسن نصر الله. لكن عندما نتذكر أنهم صمتوا على الإبادة الجماعية في غزة، وربما حرّض بعضهم عليها، يصبح صمتهم عن ذبح بيروت وجنوب لبنان أكثر من طبيعي.
النخب الثقافية ونشطاء الحقل العام شركاء هم أيضا بسوء التقدير وبسماحهم بالتطبيع مع هذا الوضع غير الطبيعي. الشعوب شريكة هي الأخرى بعجزها وباستسلامها للأمر الواقع.
الإعلام الذي منذ سنوات يحتفي بصاروخ يسقط في منتصف الطريق، أو يهلل للحظات من الذعر أصابت حفنة من المستوطنين الإسرائيليين، ويعتبر إطلاق صافرات الإنذار في مدينة إسرائيلية انتصارا استراتيجيا وردًّا ساحقا على قتل إسرائيل عشرات العرب، هذا الإعلام يتحمّل مسؤولية تربية الجمهور على انتصارات لا وجود لها وعلى الرضى بالحد الأدنى وعلى التقليل من قيمة روح الإنسان الفلسطيني أو اللبناني مقابل اليهودي الإسرائيلي.
التطبيع مع أرقام الضحايا العرب ليس وليد الصدفة ولم يبدأ في غزة أو لبنان خلال الشهور الماضية. إنه ثمرة تراكم ثقافي ونفسي في مجتمعات، بحكامها ونُخبها وشعوبها، تربَّت وسط رصيد هائل من الخلل الذي من أبرز تجلياته الانهزامية والرضى بالحد الأدنى مع واجب الشعور بالامتنان.