قضية خيمة...قصة قضية. 1/4
ترى هل يفعلها أو يؤجلها للغد؟ تملَّكه ارتباك غير قليل، وكان في كل يوم يفكِّر، وفي كل يوم يؤجِّل وظل يلعن ضعفه بعدما ذهبت الخيمة والقضية...ولا يستطيع؟! كيف سيستعيد ما أُخذ منه غدرًا؟ الشاهد ضعيف، رأسه ثابت لا يتحرك، وعيناه ساهمتان مثبتتان كعينَي ميت. قليل من الفتور، وكثير من التسليم بالأمر الواقع والقضاء والقدر، سرعان ما يعتاد ويصبح ما كان يجعله يقشعر لا يكاد يثير انتباهه بالمرة...بل ويقبله إلى حد يسارع في تنفيذ أمر الواقع. هو إنسان طيب جدًّا، ساذج جدًّا له ولاء للجميع وإخلاصه شأن خاص! هو من أولئك الناس الذين لم يكتفوا بالقناعة بمصيرهم، بل عبدوا ذلك المصير وبجَّلوه.
من أجل أن يحصل في آخر المطاف على "خراب". جحيم بشري، أرض خراب لا تصلح لبشر... جراء الجوع، والحصار والقتل بالغارات والغازات السامة.هذا جنون، أي بؤس هذا! أمَا من شجاعٍ واحدٍ يقول كلمة الحق في هذه المحرقة النازية؟ ولو... لا بد أن يقول شيئًا، ولو كلمة، ولو نوعًا من جبر الخاطر، كيف تضيع قضية - خيمة - من فوق سطح الأرض بكل بساطة؟! فالأمر لا سر فيه ولا يحزنون!! قضية او خيمة تمر بفترةٍ عصيبةٍ لم يشهد لها العالم مثيلًا في تاريخه، كانت في حالة حُمَّى أنقسام سلطوي بدرجة حرارة مرتفعةٌ، وانتهت عند حد المحرقة؛ وهناك من لا يريد أن ينتهي شلال الدماء. فلا يتسرَّع أحد ويخمِّن..؟!
فالقيمة المادية، أوالدموية لهذه الخيمة...القضية
لم تكن ذات وزن، وليست بالكثيرة التي تُضايق ولا بالقليلة التي تجلب موالسة الخراب، والسادة أتحاد ملاك القضية للمحاكمة. فهناك أناس يمكن التحدث باسمهم، او معهم في أمر كهذا؛ و على كل حال، لا يمكن أن يؤثر في مجرى حياتهم ضياع خيمة أو قضية مادية كانت أو دموية..!! وهناك ميكروب يرتدي قناع حزبي لا أول له ولا آخر؛ وأصبحت سياسة الدجل عالة. وأصبح التخلص منهم بالقانون ضرورة؛ كيف نفهم المغزى والمبررات؟!
الشاهد...حين عاد إلى النزوح الكبير، أو عاد النزوح إليه، كان أول ما فعله أن ألقى على الخيمة المحترقة، كهلهيل أرض الخراب نظرةً خاطفة، بل نظرة ترتجف باللهفة، وكأنما يختزن في جوفه بركانًا. ونبتت نقط عرق كثيرة فوق جبهته وحاول أن يبتلع ريقه الجاف. وانقبض حين لم يجد احد فوق تلك البقعة السوداء،
ولا يستطيع أن يحدِّد موضعها، ايقن تمامًا أن
لا بد قد ضاعت دماء أو تبخرت...أين تبخرت الأجساد الصغيرة؟! بدأ قلبه يدق وكأنه ينتظر نتيجة اختبار موت من حياة. يكاد يُغمى عليه، ولكن الأصوات تتتابع كلما تقدَّم، ويُحِس بالذهول وبأنه يُدلي بحبل في بئر لا قرار لها، وتتحلَّل اللغة وتصبح كلمات ونداءات وشتائم، وتهب رائحة البارود الخانقة، و شواء الجلود والدماء والعظام المتناثرة بفعل فاعل؛ ولم يتوقعها هكذا.. محرقة أخرى، و ضربة كضريبة غير شرعية فرضت عليه، أو حدثًا ضخمًا يطرق حياته بالحديد والنار.
ضاعت...من أين جاءه ذلك اليقين؟ لم يكن يدري. لعله تشاؤم كامن في النفس لا يبرز إلا في أوقات مثل تلك! لعله وهم! ومع هذا انطلق يبحث عنهم في باقي الأحداق. ولعل مبعث حماسه للبحث كان فقط لتكذيب ذلك اليقين المفاجئ الذي انتابه، وأكَّد له أن الأحداق ايضا قد احترقت، ما في ذلك أدنى ريب، ازداد اضطرابه وأصبح يكسوه مزيج من الرعب والتردد والحيرة. والحيرة أيضا تحتاج إلى جهود صعبة للتغلب عليها، وكأنها مخازن أمل يبقيها الإنسان ليلجا إليه حين يخاف أن يستحوذ عليه اليأس.
كانت من القماش الخشن الباهت جدًّا، قد ولادة معه بداية النكبة وقضت معه سنة الحرب وبقيت ملازمةً له بعدها، بقيت كالشريك المخالف كل يوم لها حادث، خيوط اهتراء...ثقوب بجانب الاهتراء، وتآكل سطح القماش الصلب نتيجة وفعل عوامل التنقل، والنزوح. وبتآثر الطقس خصوصا شكله المتطرف واحتكاك بسبب التنقل والحركة، ومن حرارة شمس الصيف، و زمهرير جهنم برد الشتاء..النتيجة مشابهة، حتى صرف عليها ثمنها وزهق منها وأصبح منظرها يثير الشفقة من كثرة استعمالها من القريب والبعيد.
أصبحت كفتلة الدوبارة، خيوطها الرفيعةً كعقدة الحبل الصري خفيف مثل الأنبوبُ المليء بالأوعية الدمويَّة، والذي يصِلُ الأم بجنينها؛ ومن خلال نسيجها المتآكل كان يلمح منظر تلك الدوائر من اللحم المتناثرة، يطل من بين ثقوبها المبعثرة فتفور له الدماء المحترقة. وينقلب الأمر إلى حد خطير. لم تكن ثمينةً إذن، ولكنه ما كاد يوقن أنها احترقت حتى انقبض، كمن اكتشف بنظرته تلك أنه عارٍ أو يكاد، ويحاول أن يجد شيئًا، شيئًا واحدًا فقط منها او من كانوا بداخلها، إن الإنسان لا يعرف قيمة الشيء إلا إذا فقده. طالما هو معه فهو معتاد عليه بل قد يكون ضيقًا به، ولكنه ما يكاد يضيع حتى يُحس وكأن جدارًا في نفسه قد انهار، وتبدأ حينئذٍ قيمة الشيء الحقيقية تأخذ مكانها في حياته.
هو ليس أبله كما قد يظن البعض؛ لا...هو كان لا يكف عن اهتزاز رأسه علامة الموافقة على كل كلمة ينطق بها موالسة الخراب، والسادة أتحاد ملاك القضية، ليدل على الموافقة التامة!! و يقلد الممثلين والأراجوز، بلا وحدة بلا ثورة، بدون محاكمة..فالثورة حلوًة وتغري بتكرارها. حتى لو كانت وحدة شعبه، و قبضته وقوته هي التي قد تجلب له النصر. لأنه قد ينهى به ذلك الصراع السلطوي الدموي بين أضلاع مثلث الخراب والدمار، الصهاينة، وموالسة الخراب، والسادة أتحاد ملاك القضية، بصلابتهم الهشة وضعفه؛ إذ إنه كان يُحس على الدوام أنهم أقوى منه، ويبدأ يفكِّر؛ ترى هل يفعلها أو يؤجلها للغد؟ ويتملَّكه ارتباك غير قليل، وكان في كل يوم يفكِّر، وفي كل يوم يؤجِّل وظل يلعن ضعفه بعدما ذهبت الخيمة،والقضية ولا يستطيع؟
أيام...تتقادم، و الخيمة والقضية. يفصل بينهما الحاضر أحقاب وأحقاب، وتصبح الكلمات فتحات من الصدأ ليس فيها غير تآكل الوتد، وأثر الحديد، وتخفت الحركة، وتندر الحكايات و تنقطع الآمال، ويصبح بينها وبين شموس الفرج مشوار، تتضخَّم الملامح وتغمق الوجوه وتنبت اللحى وتغزر الشوارب، وتتناقص الملابس، وتتهرَّأ وتتمزَّق وتفقد الكثير من أجزائها، ويظهر أناس بلا لباس، ويصبح البنطلون بلا قميص والجلباب بلا سروال، وتتضخَّم الاوجاع وتتورَّم الأرجل وكأنما قرصتها حية، كذلك يفعل الذباب. والحركة البطيئة الميتة للهوام الزاحفة، بين القضية والخيمة المنخفضة المتربة بالقبور التي ترقد على مرمى البصر.
يمضي وحوله خرائب، خيمة و قضية تتساند حتى لا تنهار، والناس هي الأخرى تتساند حتى لا تنهار. والعجوز يتحامل على شاب، والمبتور يساعده صبي، والعليل لا يسنده جدار، وخيط خفي يجمع الكل ويربطهم معًا وكأنهم حبات مسبحة، وكأنهم روح واحدة تحيا في أجساد كثيرة متفرقة. وتتفتَّت اللغة إلى أنصاف كلمات وأرباع، بتعبيرات و شتائم لا يفهمها سوى أصحابها، وتصبح اللغة سرسعةً وأصواتًا وحروفًا تتصاعد من حناجر شديدة البروز، تتصارع للبقاء، والبقاء للأكبر.
تختفي روائح الامان، وتمتلئ الأنوف بروائح البارود والأدخنة متصاعدةً، وتصبح الأجساد من التراب، وعلى التراب، بين أوساخ وماء وطين. وتموت الحركة وتختفي الاوقات، فالزمن لا قيمة له مثل الدماء. ولكن الأيام والدماء والخيام مهما كانت فالإنسان لا ينساها، تلك الأشياء الكبيرة التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لها اسمًا أو حتى يملك وصفها، هذه الأشياء تكشف على الدوام ،حقيقة، هؤلاء الناس البسطاء كيف يفكِّرون بمثل هذا الصدق؟ والحق ليس حاضرا كل الأوقات!
هو الطفل الميت أو الذي عاش، والرائح يقلد الممثلين والأراجوز، من موالسة الخراب ، والسادة أتحاد ملاك القضية، ويمضي وتحف به نظرات مشفقة مستغربة تتوجس، وراء كل نظرة كلمة قريب. ووراء القريب تساؤل، ووراء التساؤل حزب خطر. ثم يعود إلى الخيمة القضية، ويعود الذباب إلى الطنين. والشمس تصب أشعتها وتجعل كل ما فوق الأرض يغلي ويفور وتتصاعد من الارض الروائح، والنهار يُظهِر كل شيء ولا يخفي شيئًا، وشمس تشرق عن عمد وإصرار وكأنها تريد أن تنتقم وتحترق، سواد في سواد، الرائحة لا تُطاق، والخيمة القضية متآكلة وكأنما نهشتها أفواه ثعابين، وعليها تموجات الرمال ، رشح وماء وأملاح، فالخارج حار، و نار جهنم تنفذ إلى دخل الدماغ.
هو الغائب عن الوعي بين الخيمة والقضية. ويمد يدًا لا تريد أن تمتد، ويدق بابًا لا يحتمل الدق، ويحاول أن يرغم نفسه على البكاء ويعتصر عيناه، فلا تبكي ولا تهبط دمعة واحدة.. وأين عيناه؟ لتهبط منهما الدموع بلا بكاء، كالسماء حين تمطر بغير سحاب، ولو! فليكن هذا! فلتكن دمعة، تظهر كل شيء!
لم يعد أمامه أي خيار. وبرغم عنه انهمرت الدموع من عيناه، ويُحس بحد السيف يهبط في قلبه إلى قدميه ويرتفع بدمه إلى رأسه، ويثور في نفسه بركان، ويُخرج فحيحًا ملتهبًا من ملامحه وفمه ولسانه، ورأسه يهتز رافضًا أن يصدِّق، ويُحس بشيء ملتهب ينبثق في صدره كالنزيف؛ الشاهد اشتهي الرحيل من الخيمة و من القضية وذلك العالم، تلبَّدت السماء وحدها بالحمرة، أما المدينة المهدمة فقد كستها سُّحب رمادية وصفراء، ثم اسودَّت الأرض وأظلمت السماء.