المذهبية الدينية في النزاعات الدولية: حالة محور المقاومة
يشكل مفهوم المذهبية الدينية Sectarianism ا[2] توصيفاً لانتماء الفرد لـ”ثقافة فرعية دينية”
في إطار الانتماء إلى دين معيّن، وهو ما يترتب عليه “هوية” ثقافية وسياسية واجتماعية تميزه عن
غيره داخل الجماعة الدينية الكبرى نفسها، وتكاد هذه الظاهرة، المذهبية، أن تشكل قاسماً مشتركاً
بين كافة الأديان، بل إن المذهبية الدينية الواحدة قد تتجزأ إلى هويات فرعية، وقد تتصارع أحياناً فيما
بينها وبضراوة أشد من صراعها مع من هو خارجها، ويميل قدر من الباحثين إلى حصر أسباب
الحروب الداخلية في الأديان، بين المذاهب، في عاملين هما: تباين المنظومة المعرفية في فهم النص
الديني بحكم المستوى الفكري، وبحكم الإرث الثقافي الموروث قبل الانتماء الجمعي لدين معين من
ناحية، أو نتيجة توظيف النخب في كل مذهب للتباين لتوسيع دائرة نفوذ هذه النخب استناداً لمتغيرات
داخلية، سياسية أو اجتماعية، في المجتمع الديني أو متغيرات خارجية خصوصاً من المجتمعات
المغايرة من ناحية ثانية.[3]
وتدلّ المؤشرات الكمية في هذا الجانب على وجود أكثر من عشرة آلاف هوية دينية فرعية في العالم،
إلا أن المنتمين “لأغلب” هذه الهويات الفرعية لا يشكلون نسبة مهمة من عدد سكان العالم، بينما
تتمركز الكتلة السكانية الأكبر في الهويات الفرعية في الأديان الكبرى التي تمثل نحو 77% من
سكان العالم؛ المسيحية 31%، والإسلام 24%، والهندوسية 15%، والبوذية 7%، بينما يتوزع
الباقي على أديان كثيرة مثل اليهودية، أو أديان فولكلورية أو تقليدية مثل الطاوية، والسيخية،
والشنتوية، والزرادشتية…إلخ، إلى جانب 16% من سكان العالم لا ينتمون لدين محدد؛ ملحدون
Atheist، أو لا أدريون Agnostic، أو يؤمنون بوجود الله دون ربط ذلك بدين معين كبعض
العرفانيين Gnostic…إلخ، ذلك يعني أن ظاهرة المذهبية الدينية ليست حكراً على منطقة أو دين أو
إقليم معيّن، كما أن نظرية التجزؤ الهرمي Pyramidal-segmentary تفسر تأثير تداخل
الولاءات الفرعية على تنازع الأولويات بين النسق المذهبي والنسق القومي أو اللغوي أو الديني…
إلخ،[4] ناهيك عن أن هناك 43 دولة حالياً تنصّ على دين الدولة أو مذهبها الديني؛[5] هناك 27
دولة تحدد الإسلام ديناً للدولة، و13 تحدد المسيحية، ودولتان البوذية، وهناك 9 دول مسيحية
أوروبية تحدد “المذهب” الديني للدولة…إلخ.[6]
ومع أن نسبة الحروب الدينية inter-religious في التاريخ الإنساني المدون تصل إلى 6.98%
من مجموع الحروب؛ 123 حرباً دينية من مجموع 1,763حرباً في التاريخ الإنساني المدوَّن،[7]
فإن عدد الحروب الدينية الداخلية بين مذاهب الدين نفسه Intra- religious تمثل ملمحاً مركزياً
في إطار الحروب الدينية، فالتنازع بين الطوائف المسيحية خصوصاً بعد ما سمي الانقسام العظيم
Great Schism بين الأرثذوكس والكاثوليك ثم بين الكاثوليك والبروتستانت حول دور الكنيسة،
عرفته مناطق مختلفة من أوروبا امتدت خلال الفترة 1648-1524 مع فترات سلام هشة وقصيرة،
ولعل ما يسمى في الأدبيات الأوروبية بالحروب الدينية الثمانية (فرنسا) بين الكاثوليك والبروتستانت
تمثل نموذجاً لذلك، فقد امتدت هذه الحرب خلال الفترة 1598-1562، ناهيك عن ما عرف بحرب
الثلاثين سنة خلال الفترة 1648-1618، وفي العصر الحالي، ثمة نزاعات بين المذاهب المسيحية،
ونزاعات ذات بعد سياسي مذهبي كما في إيرلندا واسكوتلندا وغيرهما، وتتحول هذه النزاعات أحياناً
لصراعات،[8] وتشير بعض الدراسات إلى تمركز النزاعات والعنف بين المذاهب المسيحية حالياً في
ثلاث مناطق رئيسية هي أمريكا اللاتينية؛ خصوصاً بين الكاثوليك والبروتستانت والكنيسة الخمسينية
أو العَنصَرة pentecostal، وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ثم في شرق آسيا،[9] كذلك
عرفت الهند ظاهرة التنازع المذهبي داخل الهندوسية؛ بين الشيفات Shaivites، والفيشنافيون
Vaishnavites، والجاينيون Jains، والبوذيونBuddhists ، كما عرفتها اليابان في تاريخها
في القرون الوسطى من خلال الصراعات بين التيارات البوذية، بالرغم من ثقافة الـ”أهيمسا
Ahimsa” أي نزعة السلام والمحبة.[10] ناهيك عن كونها ظاهرة عرفها التاريخ الإسلامي
وغيره.
وتدلّ الدراسات الكمية المعاصرة أن رصد الأسباب وراء النزاعات الدولية على أساس ثنائية أسباب
دينية وغير دينية على ما يلي:[11]
إن الأسباب غير الدينية خلال الفترة 2015–1975 عرفت صعوداً خطياً من 35 نزاعاً سنة 1975
إلى نحو 65 نزاعاً سنة 1990، ثم بدأت هذه الأسباب غير الدينية تتراجع بشكل غير خطي إلى أن
بلغت نحو 58 نزاعاً سنة 2015.
لكن النظر إلى المحركات الدينية للنزاعات الدولية عرفت تصاعداً خطياً خلال الفترة نفسها 2015-
1975، حيث ارتفع العدد من 3 نزاعات سنة 1975 إلى 31 نزاعاً سنة 2015.
عند النظر في التوزيع الجغرافي للنزاعات التي تصطبغ بالصبغة الدينية نجد ما يلي، لأقرب نسبة
عشرية:
• 1% في القارة الأمريكية.
• 3% في أوروبا.
• 18% في الشرق الأوسط.
• 38% في آسيا.
• 41% في إفريقيا.
إن عدد النزاعات داخل الدين نفسه ما تزال أعلى من النزاعات بين أديان مختلفة وبفارق يفوق
الضعف تقريباً.
وتتباين محركات النزعة المذهبية بشكل عام بين المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بينما
يجري التركيز في تفسير النزاع بين المذاهب في البعد الديني على موضوعات “تأسيسية” في
النظرة المذهبية الدينية Promondial، أو بسبب التوظيف السياسي للخلاف المذهبي
Instrumental، أو نتيجة التباين بين المجتمعات في مستويات التحديث Modernization.
[12]
ماذا يعني ذلك كله:
إن النزاعات الدولية بين المذاهب الدينية ليست ظاهرة مقتصرة على دين معين أو منطقة معينة،
فالصراع المذهبي ظاهرة عايشتها كل الأديان تقريباً، فهي ليست ظاهرة إسلامية وشرق أوسطية كما
يحاول الإعلام الغربي تكريسه.
إن المؤشرات الكمية حول صراع الحضارات “بين الأديان” تنفي صحة نظرية صماويل هنتينجتون
Samuel Huntington، إذ إن مؤشرات الصراع “داخل” الحضارات نفسها، خصوصاً بسماتها
الدينية، تفوق عدد النزاعات “بين” الحضارات الدينية، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة هي
أحد هذه المؤشرات المعاصرة، وهو ما يتضح في انشطار الكنيسة الأرثذوكسية إلى روسية
وأوكرانية وكل منهما يقف إلى جانب أحد المتصارعين،[13] كما أن أغلب النزاعات في أمريكا
اللاتينية هي بين دول تغلب عليها الكاثوليكية…إلخ.
إن تقسيم العالم إلى مناطق حسب مستويات التطور السياسي والتقني والاقتصادي يكشف أن المناطق
المتطورة هي الأقل في عدد النزاعات “البين دينية” أو داخل الأديان.
إن الشرق الأوسط هو الأقل وبفارق واضح في عدد نزاعاته “البين دينية” أي المذهبية، فنصيب
الشرق الأوسط يصل إلى نحو 47% من نصيب آسيا، ونحو 44% مقارنة بإفريقيا كما يتضح من
المؤشرات أعلاه.
مذهبية بين التوظيف السياسي والتوظيف الديني في العلاقات العربية الإيرانية:
شكّلت الثورة الإيرانية نقطة تحول في التفاعلات السياسية في المشرق العربي بشكل خاص، وتغذت
هذه التفاعلات مع تزامنها في السنة نفسها، سنة 1979، مع الغزو السوفييتي لأفغانستان، ومع
هجوم جهيمان العتيبي Juhayman Al-Otaibi على الحرم المكي في السعودية، ثم تغيّر القيادة
في العراق، مع وصول صدام حسين للرئاسة، ثم توقيع مصر لمعاهدة السلام مع “إسرائيل”. وترتب
على هذه التفاعلات الاستراتيجية المتزامنة عدد من النتائج أبرزها:
تنامي النزعة الجهادية ضدّ عدة أطراف؛ أبرزها الشيوعية السوفييتية وظهور معسكرات التدريب
وصناديق التبرعات المالية لمساندة المجاهدين الأفغان، ثم وقع اغتيال الرئيس المصري وظهرت
الحركات الجهادية في فلسطين ولبنان وغيرهما، واتسعت قاعدة معارضة التغلغل الغربي في
المجتمعات العربية، والذي تجلى في نسب فوز الأحزاب الإسلامية في الانتخابات التشريعية،
خصوصاً التي توفر لها حدّ أدنى من الشفافية في دول عربية عديدة، إضافة لتركيا.
أدركت القوى الغربية و”إسرائيل” خطورة هذه الظاهرة فحاولت تبني سياسات تستهدف توظيف هذه
الظاهرة لصالحها وإضعاف أيّ محاولات لتوجيه دور هذا التيار المتنامي نحو مقاومة المدِّ الغربي
والإسرائيلي في المنطقة، فعملت على التغلغل في بعض أجنحته لتوجيهها في اتجاه معاكس، وعززت
ذلك بتشجيع التطبيع بين “إسرائيل” والمنطقة العربية لتحرم هذا التيار المتنامي من التوجه بهذا
الاتجاه.
انتهجت القوى الغربية و”إسرائيل” ديبلوماسية تفكيك هذه القوة الصاعدة التي تجسدت مؤخراً في
محور المقاومة، من خلال:
أ. تعميق الهواجس لدى الأنظمة السياسية العربية بأن هذه القوى ستعمل على السيطرة على السلطة،
مما دفع الأنظمة العربية إلى التنسيق بمستوى أو بآخر مع القوى الغربية لِلَجم تنامي هذه الظاهرة،
واتخذ هذا التنسيق أشكال الحروب الإعلامية ضدّ هذه القوة الصاعدة، والتغلغل الاستخباراتي في هذه
التنظيمات، والعمل على دفع هذه التنظيمات باتجاهات مريبة، خصوصاً من خلال إنشاء مجتمع مدني
موجّه نحو نشر ثقافة تشكك في أي دور تحرري أو تنموي لهذه التنظيمات.
ب. السعي لمنع وحدة هذه التنظيمات من خلال نبش التباينات الفقهية بين هذه التنظيمات، وشكل
البعد السني الشيعي القاعدة الأكثر صلاحية لإنجاز التفكيك، وقد لعبت العراق خلال الحرب العراقية
الإيرانية دوراً في تكريس هذه الثنائية، ثم بدأت “إسرائيل” ودول عربية عديدة بتغذية هذه السياسات
“المذهبية” لدوافع سياسية واضحة، وهو ما يتضح في مشروعات الشرق الأوسط الجديد والشرق
الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة، وأدبيات برنارد لويس Bernard Lewis وأوديد ينون Oded
Yinon وبرنارد ليفي Bernard Lévy وآخرون.[14]
وتكشف دراسة قام بها مركز دراسات أمريكي لصالح وزارة الخارجية الأمريكية عن مضمون المواد
التعليمية السعودية من خلال مئة كتاب مدرسي خلال الفترة 2020-2017 واستكماله لاحقاً حتى سنة
2022 عن مضمون يُشير إلى إعلاء النظرة لمذهب “الوهابية” قياساً للنظرة الدونية أو التشكيكية
بالمذاهب الإسلامية الأخرى، وعند مقارنة التعديلات على مضمون المواد التعليمية من الزاوية
المذهبية يمكن تلمس بوضوح الترابط بين التغيرات السياسية في الإقليم وبين مضمون
التعديلات.[15]
ج. تشديد الإجراءات الأمنية والتضييق على مصادر تنامي هذه الحركات مالياً وتعبوياً وبهجوم ثقافي
مضاد، وشكّلت النظم السياسية في دول الخليج العربي مركزاً لأداء هذه المهمة نتيجة الخوف من
سيطرة هذه التنظيمات على كرسي السلطة في المنطقة العربية والتي قد تمتد إلى الخليج.
د. توظيف الثنائية الشيعية السنية لمحاصرة إيران إلى جانب محاصرتها السياسية والإعلامية
والاقتصادية وتطويقها بنشر قواعد عسكرية حولها، وتشجيع معارضتها الداخلية، والتنسيق مع “
إسرائيل” في كل ذلك، نظراً لإدراك تلك القوى بأن إيران هي “قاعدة” محور المقاومة التي لا بدّ من
كسرها. ويلاحظ أن التركيز الإعلامي على أطراف المحور يربط بين المذهب وبين الأطراف الأخرى،
حزب الله وأنصار الله والحشد الشعبي، بينما يجري تجاوز سنية المكوِّن الفلسطيني وغيره من
التنظيمات السنية التي يساندها المحور.[16]
وعلى الرغم من أن الفترة 1970-1952 أو ما تسميه الأدبيات السياسية العربية مرحلة المدِّ القومي
وخصوصاً الناصري، عرفت موقفاً مخالفاً تماماً لما هو عليه الحال بعد الثورة الإيرانية، إلا أن
الحركات الدينية كانت في تلك الفترة تحظى بأكبر قدر من الدعم المالي والإعلامي من الدول التي
تناصبها العداء حالياً، وهو ما يؤكد النهج البراجماتي في علاقة الأنظمة السياسية العربية بالحركات
الدينية، أي أن موقف الأنظمة العربية من الحركات الدينية يتمحور حول “كيفية توظيف هذه
الحركات” ضدّ خصوم هذه الأنظمة، وبالتالي تبني النهج “الآداتي Instrumental” في العلاقة
معها، وهو ما جعل دور هذه التنظيمات الدينية “ملتبساً” لدى كثير من الباحثين وخصوصاً في
موضوع العلاقة مع إيران.
..... يتبع