التهويد الوشيك للمنطقة
قد تنكر العينُ ضوءَ الشمس من رمدٍ
وينكر الفمُ طعمَ الماء من سقمِ
وجَدّاتنا قُلن قديما: من لا يرى من خرم الغربال أعمى، مع الاعتذار لجدّاتنا فإن مَثَلَهم لم يعُد ساريا، فقد انقضى عهد الغربال ولم يبقَ إلا أن نسجّل على أمتنا أنها لا ترى الشمس في واضحة النهار ومن غير حجاب حقيقي، لأنها اختارت أن تنحاز لمن بيده سطوة القوة رجاء أن تنعم في ظلّه ولو بشُبهة حياة، أي حياة !!
ما زالت الأخبار القادمة من شمال غزة تنقل إلينا مضي الصهاينة في خطتهم لتفريغ الشمال، وهي اليوم تعتمد السواتر الترابية لفصل الشمال عن الجنوب، وفي الوقت ذاته تنظر شمالا إلى لبنان فتضرب في عمق بيروت وتستهدف الأبنية السكنيّة المزدحمة لتزرع الرعب في قلوب السكان فتجبرهم على النزوح راضخين، ويضحكني إلى حدّ البكاء ما خلص إليه (الخبراء) العسكريون من أن الأسلحة المستخدمة ضدّ بيروت هي أسلحة أمريكية، فهل هذا التخصيص في ذكر مصدر السلاح يأتي على أساس أن العرب يملكون مصانع سلاح لحاجاتهم العسكرية الملحّة؟ لا، وفوق ذلك لديهم ما يفيض عن الحاجة فيبيعونه لليهود لتبطش بالمسلمين والعرب بما كسبت أيديهم من عتاد وأسلحة!! وفي ذكر مصدر السلاح الفتاك في الأخبار والتأكيد على أنه أمريكي -مع أنها حقيقة بدهيّة- من التهكّم بالعرب والعذاب النفسي لكل عربي ومسلم ما لا يخفى، حين يستقر في أذهاننا هذا الخَوَر العربي بالارتهان إلى السلاح الأمريكي الذي لا يكاد يقتلنا سواه في الميدان !!
من غزة الشمال إلى غزة الجنوب إلى الضفة الغربية إلى عين صهيونية واسعة تنظر بطمع إلى ضفة النهر الشرقية إلى امتداد للعمق اللبناني، ومن قبل ذلك كله تلك الملكية الجبرية للحدود مع مصر وتهديم الطريق بين سيناء وغزة لقطع الأمل في أي طريق نافذ بين مصر وغزة، هذه العلائم كلها تعني أن دولة الاحتلال عازمة على تغيير وجه المنطقة بما تدعوه في قاموسها وقاموس “الكبار” الشرقَ الأوسطَ الجديد، وفي تجديد وجه الشرق الأوسط مهمات ضرورية يجب تنفيذها من قِبَل الاحتلال في المدى المتوسط على الأرض، أهمها إنهاء الدولة اللبنانية وتحضير سيناء لأغراض التهجير الذي تعمل عليه من قبل انبعاث الطوفان، والعمل على ضربة قاصمة لليمن تؤمن البحرين الأحمر والمتوسط لاستخدامهما في الحركتين الاقتصادية والسياسية لإنجاح اللعبة الصهيونية التوسعية، ولا أدّعي أن ما أقوله هنا هو اكتشاف شخصي حصري بعد نظر ودراسة، بل هو جزء من أخبار وتحذيرات تُتداول على ألسنة أشخاص دوليين وعاملين في حقل حقوق الإنسان العالمية، وسيقول لي أحدكم إن ما تُخوّفُنا منه ليس جديدا وإننا كنا نسمع آباءنا يتحدثون عن أنّ يوم تحقيق “إسرائيل” لنبوءة توراتها المحرّفة قادم لا محالة، واليهود يضعون في واجهات مؤسساتهم الرسمية يافطات مكتوبا عليها: أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل، إذن فالتطلعات الصهيونية أكبر من حجم بلاد الشام الأربعة، لأنها ممتدة إلى مصر والسودان حيث النيل وإلى العراق حيث دجلة والفرات، أليس هذا ما تريد أن تقوله في مقال اليوم؟
والجواب: هذه مقدمة ورم سرطاني خبيث اسمه الاحتلال المزمع للمنطقة برمّتها، والمحتل المجرِّب لا يتورع عن شيء، أثبتت ذلك اثنا عشر شهرا مضت من عمر الطوفان حاول الصهاينة مسابقة الزمن فيها متّبعين سياسة الأرض المحروقة، فهم يريدونها فارغة من المباني والسكان ليخططوها من جديد لأنفسهم كما يشتهون.
إن كل ما أريد الإشارة إليه هنا أنني أنظر ذات اليمين وذات الشمال فلا أرى دولا تحادد اليهود وقد اعتدّت لهم عدّتها، فهل سلوك الدول المحيطة بفلسطين المحتلّة يوحي باستعدادها للمواجهة الحتمية التي يخطط العدو ألا تطول وأن تسفر عن ابتلاع لكامل مساحة الأرض العربية الممتدة بين الفرات والنيل، ولا تحدثوني في الاستعدادات لِلَجم شهوة المحتل لابتلاع أرضنا العربية عن مناورات آنية وتدريبات مختلفة، فهذا وإن كان مطلوبا وضروريا لكنه لا يكفي، أفلا تهدي دولا عربيةً بقيةُ رشد فيهم إلى ضرورة العمل المشترك بين الدول المستهدفة لتشكيل طوق ناري يشدّد الوطأة على العدو ويدفّعه تكاليف باهظة تجعله يُعرِض عن تنفيذ ما يريد؟ أليس التنسيق الدبلوماسي المعتاد بين مصر والأردن معينا على تفكير استراتيجي يحتّم على الدولتين الشعور بالخطر الحقيقي والعمل على تجنّبه بالتلويح بقوة مصر العسكرية ودقة الظروف الحدودية الأردنية الفلسطينية وخطورتها على العدوّ؟
إن من شأن العقلاء أن يتحضروا لشرّ الغول، وإن الغول الذي نفّذ تهديده على الأرض لفلسطين وسورية ولبنان يوشك أن يُطمِعه برود بقية مَواطن استهدافه في أن يسرّع خطوات تنفيذ مخططاته.
ما يجب أن نقوله اليوم: إن الدول الواقعة في مرمى تهديد الصهاينة لا تملك ما يكفي من شعور المواطن بدفء علاقته معها، وإنها يمكن أن تعتمد على شعوبها لحماية ظهورها، وإنها يجب أن تتحلّل من كثير من التزاماتها الدولية في سبيل محاولتها الحفاظ على الذات، لا تحدثوني عن الأمن القومي والوطني حين أطلب من دول الحدود مع الصهاينة أن تغضّ الطرف عمّن يستطيعون إنهاك العدو وتخويفه وإشعاره أن من يستهدفهم هم أحياء غير أموات، وأنهم لن يسلّموا له بما يريد إلا بثمن باهظ يكلّفه أصل وجوده.
أشعر بحاجة ملحّة للتذكير بالمثل العربي مع ضرورة تعديله، فما نحن بثيران، وما (أُكِلنا إلا يوم أُكل “السّبُع” الأبيض)، إن فرطنا، ونرجو ألا نفرّط أو نفرُط أو نؤكَل.