بين الصداقة والأُخوّة: تحرير مصطلحات
كلّ يوم يمرّ على الأمة في مقارعة عدوّ ظاهر لئيم وعدو منافق عليم يتمايز عدونا من صديقنا، وتتضح صورة الاصطفافات أكثر.
والعداوة والصداقة ليس لهما ارتباط عقدي بالضرورة، العقيدة تصنع الأخوّة، والحلف السياسي أو العسكري يصنعان الصداقة أو العداوة بحسب التقاء المصالح أو تناقضها، ولأن كثيرين يخلطون بين المفاهيم والمصطلحات فقد ملؤوا جوّنا ضجيجا بخلافات أصلها اختلاط الفهم، ونبينا صل الله عليه وسلم يعلّمنا كيف نفهم مفردات الكلام في مواضعها ويفرّق بعربيّته البليغة الجميلة -التي هو أفصح الناطقين بها- بين كلمة وكلمة ليكون قدوة عليه الصلاة والسلام في دقة إطلاق المفردة المناسبة للدلالة على المعنى الدقيق المقصود، ألم يقل أمام أصحابه يوما:”واهاً لأحبابي” يعني شوقاً، فيقول الصحابة: يا رسول الله ألسنا أحبابك ؟ فيجيبهم: “أنتم أصحابي…”وهو بتحديد هذا المصطلح يحقق أمرين: الأول هو تحديد معنى مصطلح الصحابي الذي لا يُطلق إلا على من لقيَ النبي في حياته مؤمنا برسالته، والثاني هو قصده عليه الصلاة والسلام بمصطلح “الحبيب” وهو كل من آمن به دون أن يلقاه أو يجلس في مجلس من مجالسه.
إلى هذا الحدّ يهمنا تحرير المصطلحات، فلِكَي نحقق هدف هذا المقال لا بد أن نتّفق على أن صديقنا في هذه المواجهة هو من حمل معنا حجرا وألقاه على عدونا المجرم الذي بات يحرق أطفال غزة ولا يكتفي بقتلهم التقليدي، هَب أن هذا الصديق كان بالأمس عدوّنا وكنا نقاتله، لكنه اليوم يقف معنا في محنتنا، وقد أمرنا حبيبنا المصطفى ألا نشق عن قلبه.
سأتكلم اليوم بصراحة شديدة جارحة، فقد بات فريق من المسلمين عدوا لنفسه قبل أن يستعدي عليه غيره، وإنه بكل اختصار على كل من يحتح على وقوف فلان أو عِلاّن في صفنا في المعركة، مع أننا ندين الله أنه ليس شريكنا في صفاء عقيدتنا ولا في صحة تصورنا التديّني، على هذا المحتَجّ أن يُشمّر عن ساعديه وأن يُيَمّم وجهه شطر غزة أو الضفة وأن يَنفِر في سبيل الله بنفسه وماله بدل أن يكتفي بالكلام الناري، ورحم الله القائل: ليس كل من قال (نار) حرق فمه، وأنا لا أطالب بالمستحيل، فكل من يريد الجهاد بالمال والنفس يعرف الطريق إلى هدفه.
هذه هي جبهة لبنان تُبدِع أمس في إسقاط خنازير يهود صرعى حُمقِهم، وها هي أعماق فلسطين تحترق، فهل أتوجه لمخالفينا في العقيدة المتفقين معنا في مرمى الهدف، هل أقول لهم: كسّر الله أيديكم ؟! وكيف أخاطب أبا حذافة السهمي الذي قبّل رأس امبراطور الفُرس (انتبهوا: الفُرس) ليحرر أسرى المسلمين عنده، وردّ الفاروق على سلوكه الرشيد هذا بأمر المسلمين جميعا بتقبيل رأس أبي حذافة ؟! أيهما أكثر تعبيرا عن الولاء -لو حسب سلوك أبي حذافة في هذا الاتجاه، تقبيل رأس الكافر أم ادعاء الشهادة له؟
إنها جميعا أفعال وأقوال تندرج تحت الضرورة التي من جنسها أكل الميتة، أو تحت عنوان “تصرّفات مرتَجَلة” لا يُحكم على صاحبها من خلالها إلا كما يُحكم على النبيل الأصيل بِعَدّ أخطائه، و (كفى بالمرء نُبلا أن تُعدّ معايبه)
عندما تنجلي هذه الغمة وتصبح الأمة سيدة نفسها فليطلق من شاء ما شاء من قنابل غلظته وقلة حِكمته، لكننا اليوم لا نملك ترف الوقت إلا لنقضيه في جهاد أو في خلافة مجاهدين في أهلهم، وسلام على كل مستبصر حكيم.