معوقات التفكير العلمي في المجتمعات العربية
تعاني المجتمعات العربية اليوم في عمومها من ضعف بيّن في مستوى الثقافة العلمية، والتفكير
المنطقي القائم على مناهج المعرفة، ويُعزى هذا الاعتوار الفكري إلى معوقات ذاتية، ترتبط بطبيعة
البناء الاجتماعي المتكوّن عبر حقب تاريخية متباينة، من خلال التراكمات المتجمعة من الموروثات
والأحداث والمسارات والخبرات، التي ساهمت في تأسيس بنيته الفكرية ومنظومته الاجتماعية.
وترجع جذور هذه المعوقات إلى أسباب اعتقادية أو فكرية كامنة في نفوس الأفراد، أو في النظام
الاجتماعي والثقافة الشعبية المتداولة في المجتمعات العربية، فأورثتها نوعًا من السلوك السلبي
المعطل لحركية المجتمع ودافعيته، والثقافة المضادة للتفكير العلمي، والمعيقة لحركة التطور والبناء،
والتي أطلق عليها المفكر الجزائري مالك بن نبي (رحمه الله) مصطلح "الأفكار القاتلة والميتة".
فالأفكار القاتلة هي التي تقتل حركية الفرد ودافعيته للبناء والتجديد، أفكار تبعث على الخمول والكسل
وقهر الإرادة وتكلّس الفكر.
أما الأفكار الميتة فهي ما يجول بالخاطر من أفكار فاقدة للحياة، عديمة الفاعلية ومعاكِسة للسنن
الكونية والشرعية، كالخرافات والشعوذة، وتفسير الحقائق العلمية بالغيبيات والظنون وغيرها.
من المعوقات التي تصيب الفكر بالخمول والجمود افتقاد روح المبادرة والتحدي والمنطق البراغماتي
في معالجة المشكلات اليومية؛ فنحن نعاني في مجتمعاتنا من غياب ثقافة النقد البنَّاء والتخطيط
وفي عالمنا العربي نجد العديد من هذه المعوقات التي يجب أن نسلط عليها الضوء لتلافيها
ومعالجتها، ومن أبرزها نذكر:
الخرافة والأساطير: إن هذا المسلك الاعتقادي يعتبر العدو الأول للفكر العلمي، وهو بمثابة سجن
دامس يحجر على العقل الانطلاق، ويُبقيه في ظلمات الجهل والخرافة، ويكبل إرادته فيمنعها من أي
قدرة على الانعتاق فضلًا عن التفكير.
وللأسف، لا يزال هذا النمط من التفكير رابضًا على عقول كثيرين في مجتمعاتنا، إذ لا تزال مظاهر
الشعوذة والسحر والكهانة وأشكالها ضاربة بأطنابها، رغم تراجعها النسبي في الأعوام القليلة
المتأخّرة، إلا أن آثارها على العقول والنفوس لم تزل بعد، وهذه المعضلة العويصة تقف حاجزًا أمام
التفكير العلمي، فضلًا عن عملية توليد وإنتاج المعرفة.
والإشكال الأكبر أن أصحاب هذا التفكير الخرافي يناصبون العلم والمعرفة وأصحابهما العداء، وكذلك
كلَّ من يفكر تفكيرًا علميًا ناقدًا منطلقًا من أسس وركائز منطقية، وقد يحاربونه خوفًا على مكانتهم
الاجتماعية، التي ستتضرر بسبب الوعي الذي قد يحدث أثرًا إيجابيًا في عقول الناس.
التشبث بالأفكار الشائعة: ما أكثر هذه النزعة السلبية في مجتمعاتنا، والتي تدفعها للركون إلى الواقع
وقبول الأفكار المتوارثة، ولسان حالها يقول: "وهم مريح خير من علم صحيح" أو" خطأ مشهور
خير من صحيح مهجور"، في الوقت الذي تتصارع فيه الأمم لاقتناص المعرفة، وتتسابق نحو فتح
دروب فكرية جديدة.
ويزداد الأمر خطورة في العصر الرقمي مع كثرة تداول المعلومات والإشاعات عبر وسائل التواصل
الاجتماعي، وقلة التثبت وتمحيص المعلومة، وظهور تقنيات إلكترونية تعمل على توجيه الرأي العام
وتكريس الإشاعات والأكاذيب، من خلال كثرة نشرها على المنصات الإلكترونية المختلفة، حتى يسود
اعتقاد عام بصحتها بينما الأمر بخلاف ذلك تمامًا.
وقد ساهمت هذه التقنيات في تشويه العديد من الحقائق، وإثارة النعرات والصدامات التي تحوّلت إلى
صراعات دموية بين أبناء الوطن الواحد، فالأفكار والمعلومات والبيانات الأكثر انتشارًا أو تداولًا
ليست بالضرورة صحيحة، وإنما يجب أن تعرض على محك الانتقاد والتمحيص، وَفق قواعد العلم
والمنطق السليم.
ازدراء دور العقل: اعتبر القرآن تعطيل العقل وإنكاره عملًا أثيمًا وذنبًا شنيعًا، يستوجب دخول
الجحيم، وتَحسُّرَ أصحابه يوم القيامة على التفريط في استثمار وسائل الإدراك، فقال تعالى ﴿وَقَالُوا لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10
-11].
ومع كل هذا فقد واجه العقل البشري في مراحل نموه اتهامات متعددة، حيث ينظر إليه كأداة محدودة
في كشف الظواهر، أو أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي لا يصلح لقيادة الإنسان إلى
العلم واليقين، ولذلك كان الناس يبحثون عن أداة أخرى غير العقل، وعن وسيلة أخرى غير المعرفة
العلمية، كالكهانة والدجل والأبراج والسحر، والأعجب أنهم يرتاحون لهذه الطرق الخرافية في تفسير
الظواهر العلمية والطبيعية والكونية، وحتى التكنولوجية!
غياب المنطق العملي (اللافاعلية): من المعوقات التي تصيب الفكر بالخمول والجمود افتقاد روح
المبادرة والتحدي والمنطق البراغماتي في معالجة المشكلات اليومية؛ فنحن نعاني في مجتمعاتنا من
غياب ثقافة النقد البنَّاء والتخطيط، والمعالجة البصيرة للأزمات كمنهج عملي في جميع تفاصيل
الحياة، بل إن عملية النقد هي محل استهجان رغم ما تمثله من عامل تطهير وتقويم، وصقل للأفكار
وتنويع لزوايا النظر.
الخضوع السلطوي والاستبداد السياسي: أي التسليم والإذعان لمصدر أو جهة يعتقد بقدسيتها أو
أفضليتها المطلقة، فلا تناقَش في قرارها، ويتم الخضوع لها بناء على مركزها السياسي أو
الاجتماعي أو الفكري أو الديني، أو من خلال الإيمان بأن رأيها هو منتهى الحكمة، وأنها فوق
مستوى النقد، وأنها ترى بعين اليقين والبصيرة، كما هو الشأن مع المشيخات الدينية.
مَثَّل الاستبداد السياسي في العالم العربي عائقًا في وجه الانعتاق الفكري والإبداع المعرفي، ومن
المعلوم أن من أسباب جمود المعرفة في القرون الوسطى سطوة الكنيسة، وتحكمها في دواليب الحياة
العلمية، وقمعها للحريات الفكرية والمبادرات العلمية
فالخضوع المطلق لسلطة عليا فكرية كانت أو سياسية أو اجتماعية، وتقديس الأشخاص، والاعتقاد
بأن آراءهم غير قابلة للنقاش، وغلق باب الاجتهاد ووأد روح التجديد، تؤدي جميعها إلى الحَجْرِ على
الأفكار وتكلس العقول، الأمر الذي سيفضي إلى عقم الإنتاج المعرفي والتفكير النقدي والإبداعي.
وقد حذر المفكر مالك بن نبي من أن "غياب عالم الأفكار سيؤدي إلى انحصار المجتمع في عالمين
فقط هما: عالم الأشخاص وعالم الأشياء، ومن ثم فسيكون دوران المجتمع حول الأشخاص أو
الأشياء، وذلك نوع من الوثنية يحدث بسبب غياب عالم الأفكار"، لذا فهو يقول: "عندما تغرب
الفكرة يظهر الصنم".
كما مَثَّل الاستبداد السياسي في العالم العربي عائقًا في وجه الانعتاق الفكري والإبداع المعرفي، ومن
المعلوم أن من أسباب جمود المعرفة في القرون الوسطى سطوة الكنيسة، وتحكمها في دواليب الحياة
العلمية، وقمعها للحريات الفكرية والمبادرات العلمية.
وقد ورث العالم العربي عقب الاستقلال أنظمة سياسية لم تمجد العلم وأهله، ومارست – بنسب
متفاوتة – وصاية سلطوية على الفكر والإبداع، كما أنها لم تكترث بالبحث العلمي وبأوضاع العلماء
والمفكرين والنخب العلمية، الذين هاجر أغلبهم إلى الدول الغربية، فاستفادت من عبقريتهم
وإسهاماتهم.