تبدت المقولة الخلدونية الذائعة الصيت "المغلوب مولع بتقليد الغالب" في مضمار الصراع العربي الصهيوني عبر محاكاة المشروع الوطني الفلسطيني، للنموذج الصهيوني وسيلة للوصول إلى أهدافه.
وقد أفصح عن ذلك بصورة لا تقبل اللبس السيد أحمد قريع (أبو علاء) حين قال "كانت دروس الماضي وعظات التاريخ البليغة تملي علينا ضرورة محاكاة دروب كل حركة تحرير وطنية نجحت حيث أخفقنا.. وقلنا في أنفسنا ولأنفسنا لماذا نذهب بعيداً وأمامنا وتحت أنوفنا دروب المشروع الصهيوني ماثلة بكل وضوح ملء السمع والبصر".
تجدر الإشارة إلى أن التيار الرئيس في الحركة الصهيونية بزعامة ديفد بن غوريون أعلن قيام إسرائيل على مساحة 13% فقط من أرض فلسطين الانتدابية، بالرغم من تحفظ بعض التيارات الأخرى التي جعلت من السيطرة على الأرض هي الأولوية على حساب أولوية الدولة.
المرحلية وبرنامج الاستقلال
" القيادة الفلسطينية الرسمية عقدت العزم على الانكفاء على برنامج التحرير والعمل على إنهاء الصراع وتصفية القضية تحت شعار "الاستقلال", ولأجل هذا راحت تلك القيادة تعمل على تزييف الوعي باسم المرحلية " |
أفضت هذه المحاكاة إلى التخلي عن برنامج التحرير واستبداله بما يسمى "برنامج الاستقلال"، تحت يافطة المرحلية المضللة، حيث بات الهدف المركزي تكريس برنامج الكيانية الفلسطينية بتعبيرها السلطوي.ويبدو أن القيادة الفلسطينية الرسمية قد وصلت إلى هذه القناعة مبكراً، في أعقاب معركة الكرامة في عام 1968م مباشرة، حيث تولد لديها إدراك بأنها مهما فعلت لن تستطيع تحرير فلسطين.
لذلك عقدت العزم على الانكفاء على برنامج التحرير والعمل على إنهاء الصراع وتصفية القضية تحت شعار "الاستقلال". ولأجل هذا راحت تلك القيادة تعمل على تزييف الوعي باسم المرحلية، وهذا ما كشفه السيد هاني الحسن خلال محاضرة ألقاها في جامعة أوكسفورد عام 1990.
وكانت نقطة البداية الفعلية، والمنطلق هي الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، التي أقرت ما سمي "البرنامج المرحلي"، وقد تبين لاحقاً أن المرحلية الفلسطينية ليست سوى استجابة مفضوحة لمرحلية إسرائيل في أعقاب عدوان 1967، والتي كان الهدف منها استكمال البناء الذاتي لإسرائيل وتحقيق أهدافها العدوانية، ولكن على مراحل تتناسب ومدى تبلور أوضاع الاستيطان الصهيوني.
وبالتالي قدرته على إنجاز خطوات جديدة على طريق إدارتها لدورها الوظيفي في المنطقة وهنا تكمن خطورة المرحلية التي تبنتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي بلغت الذروة في إعلان الاستقلال على الورق في مؤتمر قصر الصنوبر في الجزائر عام 1988.
وقد اقتضى تكريس برنامج الكيانية الفلسطينية بتعبيرها السلطوي، إخضاع جميع الاعتبارات الأخرى لهذا الهدف بدءاً من تشخيص الصهيونية، ومروراً بتعريف الحركة الوطنية الفلسطينية، وصولاً إلى تحديد غايات الصراع وسبل الوصول إليها وكان طبيعياً أن تقلب هذه الثقافة المفاهيم رأساً على عقب لتخدم خطاً سياسياً مقلوباً على رأسه. محصلة اللعبة
ثمة مسألتان لم يلتفت إليهما دعاة المرحلية الفلسطينية، الأولى هي أن برنامج التحرير تشكل على أرضية الواقع بتناقضاته، بينما برنامج "الاستقلال" نبع من الرغبات الذاتية لأصحابه.
أما الثانية فهي أن محصلة المرحلية الصهيونية كانت أرباحاً صافية، أما المرحلية الفلسطينية فكانت خسائر صافية، إلى حد مالت معه اللعبة الصفرية المعهودة في الصراع العربي الصهيوني إلى ربح بنسبة 100% للطرف الإسرائيلي وخسارة 100% للطرف الفلسطيني.
والسبب في ذلك أن الكيانية الفلسطينية بتعبيرها السلطوي هي مصلحة إسرائيلية بامتياز حيث اتخذتها إسرائيل طوق نجاة من أزماتها.
إضافة إلى أنه وفي ظل مسار ما يسمى "التسوية السلمية" تحولت إسرائيل إلى ترسانة أسلحة متطورة من خلال "التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، وهي (إسرائيل) تعمل جاهدة في سياق ما يسمى "هجوم السلام" الفلسطيني على استكمال مشروعها في تهويد فلسطين، وعلى قاعدة علاقاتها المتميزة مع الولايات المتحدة تصلب مرتكزات عدوانها استعداداً لدور جديد.
المصلحة الإسرائيلية
تشكل الكيانية الفلسطينية بتعبيرها السلطوي مصلحة إسرائيلية بلا منازع، ويتبين ذلك من المعطيات التالية:
1- دعوة موشي شاريت أول وزير خارجية لإسرائيل في سبتمبر/أيلول عام 1949 إلى إنشاء دولة فلسطينية تستوعب تداعيات قيام إسرائيل.
2- إعلان المؤرخ العسكري الإسرائيلي المتخصص في علم الإستراتيجيات مارتن فان كريفيلد: "أن صراعنا ضد الفلسطينيين هو صراع خاسر، لقد كان خاسراً منذ اليوم الأول من أيام الانتفاضة الأولى وسوف يؤدي إلى القضاء علينا".
ولمواجهة هذا المآل اقترح خطة توصي بالعودة إلى مناطق الفلسطينيين الأمر الذي يستدعي حسب كريفيلد، قبل كل شيء "أن نحقق فصلاً بيننا وبينهم".
" وثيقة سرية أعدتها وزارة الخارجية الإسرائيلية تقرر أنه سيكون لإقامة دولة فلسطينية تأثير إيجابي على "قوة النزاع" وعلى استمراره, ففي معظم حالات الصراع وضعت إقامة دولة للطرف الضعيف حداً نهائياً للصراع القائم " |
ويبرر ذلك بقوله "لقد كنا نعمل بشكل جيد في مواجهة العرب خارج إسرائيل خلال كل السنوات الماضية، ففي أعلى تقدير كانوا يتحركون كل عشر سنوات لإثارة القلاقل، فكنا عندها نأخذ مطرقتنا الثقيلة ونضرب على رؤوسهم فيتحقق الهدوء لعشر سنوات أخرى وفي النهاية أصيب العرب بالإحباط، غير أن المشكلة الأساسية هي مع المواطنين في المناطق، وهؤلاء لا نستطيع أن نستخدم معهم المطرقة إذ ليس هناك من هدف".3- وثيقة سرية أعدتها دائرة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ونشرتها صحيفة "يديعوت أحرنوت" (31/10/2005) قالت إنها تستند إلى رسالة دكتوراه أعدها الباحث الإسرائيلي أوري رزنكي يحلل فيها (389) نزاعاً إقليمياً على مدى التاريخ، خلص منها إلى أن "إقامة دولة مستقلة هي مصلحة إستراتيجية لإسرائيل وذلك لأنها ستلغي عنصر عدم التماثل الذي يمنح تفوقاً للجانب الفلسطيني".
وذلك من خلال نفي الصراع كصراع بين حركة تحرر وطني وكيان غاصب، وبالتالي يصبح صراعاً بين دولة ودولة، وتبين الوثيقة السرية أنه في كل النزاعات التي انتهت بين دولة (وهيئة غير دولة) نال الطرف الضعيف كل مطالبه.
فالقوة في مرات كثيرة كانت تكمن في الضعف ولهذا تقرر الوثيقة أنه سيكون لإقامة دولة فلسطينية تأثير إيجابي على "قوة النزاع" وعلى استمراره، ففي معظم الحالات -كما تستنتج الوثيقة- وضعت إقامة دولة للطرف الضعيف حداً نهائياً للصراع.
ولعل هذا يفسر لنا لماذا تحدث شارون عندما أعلن برنامج حزب كاديما عن الدولة الفلسطينية التي يريد؟. المعروف أن الدولة بالمواصفات الشارونية هي دولة منزوعة السيادة والسلاح مجزأة الأوصال محاصرة بجدار الفصل العنصري، والطرق العنصرية، ومعابر لا تسيطر عليها إلى جانب تصفية حق العودة، ومع ضم الكتل الاستيطانية وغور الأردن والقدس بما يساوي 58% من مساحة الضفة الغربية. أزمة إسرائيل
مما لاشك فيه أن أزمة إسرائيل هي أزمة وجودية لازمتها، ولاتزال منذ إنشائها إلى اليوم.
الجديد فيها هو انتقالها من مرحلة الكمون إلى السطح لتصبح في أجندة السياسة الإسرائيلية اليومية. ولعل النظر إلى ما جاء على لسان بعض الكتاب والمفكرين الإسرائيليين واليهود يشي بحقيقة حدة هذه الأزمة وثقل وطأتها وتحولها إلى هاجس يومي حتى لدى المستوطن العادي.
ففي وثيقة "أولغا" الصادرة في يوليو/تموز 2004 عن العديد من الشخصيات الإسرائيلية غير الرسمية جاء "أنهم كانوا يتوقعون أن يمنح تأسيس إسرائيل الأمن لليهود، لكنه منحهم مصيدة للموت، حيث يعيش المستوطنون في خطر مستمر لم يعرفه أي مجتمع آخر".
وتخلص الوثيقة إلى أن "كل من لديه آذان تسمع يعلم أن الخيار أمامنا هو: إما مائة عام أخرى من صراع سوف ينتهي بالإبادة أو بناء شراكة بين جميع من يقطنون هذه الأرض، ومن الممكن لهذه الشراكة أن تحولنا (اليهود) من أجانب في بلدهم إلى سكان أصليين".
إضافة إلى ما تقدم هناك نبوءة الباحث اليهودي الأميركي بنيامين شفارتس مدير تحرير صحيفة "أتلانتك" صاحبة التأثير الفعال في النخبة السياسية الأميركية والصهيونية، هل ستبقى إسرائيل موجودة بعد أن يبلغ عمرها مائة عام؟
وهو مقال توقع فيها شفارتس نهاية المشروع الصهيوني بعد (43) عاماً على اعتبار أن (57) عاماً قد مضت من عمر إسرائيل. والمقال نشر في مايو/أيار 2005.
اللافت في الأمر أن رد فعل النخبة العلمية والسياسية الإسرائيلية على نبوءة شفارتس لم تقم على تفنيدها ودحض معطياتها وتنبؤاتها، وإنما اقتصرت على الاعتراض على الطابع الحتمي لنبوءته، وأكدت فقط الطابع الاحتمالي.
الخسائر الفلسطينية
" الصهيونيون الأميركيون قالوا للفلسطينيين إن تفسيرنا للتوراة هو أنكم ستعطون صفراً في المائة من 42% من 8% من 22% من مائة في المائة من الأرض التي كانت لكم كلها " |
منذ أن طرحت الكيانية الفلسطينية (الدولة) والجغرافية الفلسطينية في حالة نزف مستمر لا يتوقف إلى حد أنه بالكاد تجد بقعة جغرافية ليست في قبضة الصهاينة.النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي د. أحمد الطيبي أورد التسلسل في نزيف الجغرافية الفلسطينية في صورة مضحكة مبكية في وقت واحد، وفق الآتي:
– مشروع التقسيم في الأمم المتحدة قال للفلسطينيين ستعطون 47% من مائة في المائة هي أصلاً لكم.
– اتفاقات أوسلو قالت للفلسطينيين ستعطون 22% من مائة في المائة هي أصلاً لكم كلها.
– العرض السخي الذي قدمه إيهود باراك إلى الفلسطينيين قال لهم ستعطون 80% من الـ22% من مائة في المائة هي أصلاً لكم كلها، وستبقى 42% تحت منع تجول دائم.
– الصهيونيون الأميركيون قالوا للفلسطينيين إن تفسيرنا للتوراة هو أنكم ستعطون صفراً في المائة من 42% من 8% من 22% من مائة في المائة من الأرض التي كانت لكم كلها.
– خريطة الطريق التي طلع بها جورج بوش قالت للفلسطينيين إذا توقفتم عن مقاومة الاحتلال، وإذا تخلى لاجئوكم عن حق العودة إلى أرض آبائهم وأجدادهم، وإذا وافقتم على انتخاب مسؤولين يقبل بهم بوش وأولمرت، وإذا وافقتم على احتجاز جميع مقاتلي المقاومة، وإذا وافقتم على قيادة سياراتكم على الطرق التي خصصها أولمرت لكم فقط، وإذا لم تعترضوا على الجدار الذي بدأه شارون ويكمله الآن أولمرت، وإذا قبلتم عدم المطالبة بالقدس عاصمة لكم، وإذا وافقتم على أن مناهج دراسة أطفالكم تضم فقط كتباً توافق عليها الحكومة الإسرائيلية، وإذا رضيتم ألا يزيد أطفال كل أسرة منكم على ثلاثة، وإذا توقفتم عن الشكوى من قانون يمنع العرب في إسرائيل من الزواج من فلسطينيين وفلسطينيات مع السماح لهم بالزواج من جنسيات أخرى في العالم، إذا وافقتم على كل هذا فالرئيس بوش سيفكر في الضغط على أولمرت للتفكير في التفاوض معكم على 42% من 80% من 22% من مائة في المائة من الأرض التي هي لكم أصلاً كلها.
– كما ارتد استبدال برنامج التحرير ببرنامج "الاستقلال" سلباً على مبدأ تكامل الأرض ووحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ووضع حق العودة تحت مقصلة التصفية، وحول الكل إلى خدمة الجزء الذي لا يعرف ماذا سيكون مصيره في ظل إصرار إسرائيل على التمسك بفكرة "أرض إسرائيل الكبرى" كما يقول المؤرخ الليبرالي الإسرائيلي د. ميرون بنفينستي، في حواره مع مركز الدراسات الفلسطينية الإسرائيلية "مدار" في نهاية مارس/آذار المنصرم: "لست واثقاً من أن فكرة أرض إسرائيل الكبرى قد انهارت وانتهت".
" الفرصة مازالت متاحة لعكس السيرورة الانحدارية للمشروع الوطني الفلسطيني وتحويلها إلى حركة لولبية صاعدة تقرب أيام إسرائيل من مصير نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، ولا يكون ذلك إلا بالعودة إلى برنامج التحرر الوطني ونبذ أوهام التسوية " |
– قصارى القول إنه وبفعل هذا الاستبدال دخل المشروع الوطني الفلسطيني في سيرورة انحدارية أوصلته إلى الحضيض، أبدلت مفاهيمه وإستراتيجياته، لتنتقل به من مواجهة المشروع الصهيوني إلى البحث في شروط التعايش معه تحت مسميات تفتقر إلى المعنى والدلالة، من قبيل الواقعية وفن الممكن.فبدل أن تكون الواقعية هي العمل على تغيير الواقع بالانتقال مما هو قائم إلى ما يجب أن يكون بفعل غنى الواقع بالإمكانيات حيث يدفع كل باتجاه الإمكانية التي يريد يصير الاستسلام للواقع ذروة الحصافة السياسية، وبالمثل يختزل فن الممكن إلى بعد واحد فيصبح هو الممكن الذي يصيغه العدو.
وبهذا تفقد السياسة طابعها الرسالي النضالي وتغدو في أحسن الأحوال حرفة، لتتقاذفها العصبيات العشائرية والجهوية التي بدأت في البروز وما يعنيه ذلك من تلاشي تدريجي لكل ما يشير إلى الهوية الوطنية الفلسطينية.
الوقت لم يفت، والفرصة مازالت متاحة لعكس هذه السيرورة الانحدارية وتحويلها إلى حركة لولبية صاعدة تقرب أيام إسرائيل من مصير نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، ولا يكون ذلك إلا بالعودة إلى برنامج التحرر الوطني ونبذ أوهام التسوية.