لا يدورنَّ بخَلَدك -أيها القارئ الكريم- أنها صور كالتي دأبتْ بعض الصحف في هذه الأيام على نشرها لنساء يَعرِضن أجسادَهن ومفاتِنهن، باسم الرياضة حينًا، والفنون الجميلة حينًا، سعيًا إلى الرَّواج، وتغريرًا بضعاف النفوس وإمعانًا في إضعاف أخلاق الشباب، ولكنها صور أدبيَّة خُلُقية تهذيبية تلائم رسالتنا، فيها الموعظة والطَّرافة من غير ما تزويق ولا مُبالغة.
1- جلال التقوى:
يُروى أن أحد الملوك صعِد يومًا إلى أعلى قصره يُروِّح عن نفسه، فلاحت منه التفاتة فرأى امرأة على سطح دار إلى جانب قصره لم يرَ الناظرون أبهى منها؛ فالتفت إلى إحدى جواريه وقال لها: لمن هذه؟
قالت: يا مولاي، هذه زوجة غلامك فيروز، وكان أحد رجال الحاشية.
فنزل الملك وقد تأثَّر بجمالها وشُغِف بها حبًّا، واستدعى فيروز، وقال له: امضِ بكتابي هذا إلى بلد كذا وائتني بالجواب.
أخذ فيروز الكتاب وتوجَّه إلى منزله فوضعه تحت رأسه، ولما أصبح ودَّع أهله، وسار مُنفِّذًا أمر المَلِك، وهو غافل عما دبِّر له.
أما المَلِك فبعد أن استوثَق من رحيل فيروز قام مُتخفِّيًا وتوجَّه إلى داره وقرَع الباب قرعًا خفيفًا. فقالت امرأة فيروز: مَن بالباب؟
قال: أنا الملك سيِّد زوجك، ففتحتْ له فدخل وجلَس.
قالت: أرى مولانا اليوم عندنا؟
قال: جئتُ زائرًا.
قالت: أعوذ بالله من تلك الزيارة، ما أظنُّ فيها خيرًا.
فقال لها: ويحك! إنني أنا الملِك سيد زوجك، وما أظنُّك عرفتِني.
قالت: يا مولاي لقد عرَفت دون شك أنك أنت المَلِك، ولكن سبَقك الأوائل في قولهم:
سأتْركُ ماءكـم من غـر وِرْدٍ وذاك لكَثْــرة الورادِ فيــه
إذا سَقَـط الذباب على طعـامٍ رَفعتُ يدِي ونفْسي تَشتهيه
وتَجتنِب الأسـودُ ورودَ مـاءٍ إذا كان الكِلاب ولَغْنَ فيـه
ويَرتَجِع الكريم خَميص بَطــنِ ولا يَرضى مشاركةَ السَّفيه
وما أحسنَ يا مولاي قول الشاعر:
قلْ للذي شفَّه الغرامُ بنا وصاحب الغَدر غير مَصحوب
والله لا قـال قائلٌ أبــدًا قد أكـل الليث فضْلـة الذِّيــب
ثم قالت: أيها الملك، تأتي إلى موضِعٍ شرب كلبك تَشرب منه!
فاستحى الملك من كلامها، وخرَج مذهولاً ناسيًا نعله في الدار، من هول الاضطراب والخَجَل.
أما فيروز فبعد أن قطَع شوطًا في مسيره إلى غايته، تحسَّس جيبه فلم يجد الخطاب فقفَل راجعًا يتلمَّسه في بيته، ووافَق أن كان دخوله إليه عقِب خروج الملِك فوجد نعلَه، فطاش عقله وطار حِلمه وفَهِم سرَّ بعْثته، ولكنه سكَت، ولم يَنْبس ببَنْت شَفَة، وأخذ الكتاب وواصَل مهمَّته.
وبعد أن قضاها وعاد إلى الملِك؛ أنعَم هذا عليه بمائة دينار، فأخذها ومضى إلى زوجته، فسلَّم عليها وأعطاها هِبة الملك، وقال لها: هيا لزيارة بيت أبيك، قالت: ولمَ؟ قال: إنَّ الملك أنعم علينا وأحِبُّ أن تُظهري لأهلك ذلك، قالت: حبًّا وكرامة، ثم قامت من ساعتها إلى بيت أبيها ففرِحوا بها وبما جاءت به، ولكنها ظلَّت هناك شهرًا، أتْبَعه شهورٌ، ولم يَحضُر فيه زوجها لأخذها، ولا حتى لمجرد السؤال عنها، وأخيرًا ضاق أخوها بهذا الحال ذْرعًا وتوجَّه إليه، وقال له: يا فيروز، إما أن تُخبِرني عن سبب غضبك، وإما أن نتحاكَم أمام المَلِك.
فقال فيروز: إن شئتُم الحُكم فافعَلوا، فما تركتُ لها عليَّ حقًّا.
فطلَبوه إلى الحكم فأتى معهم، وكان القاضي إذ ذاك عند المَلِك جالسًا إلى جانبه، فقال أخو الزوجة:
أيَّد الله مولانا قاضي القضاة، إني أجَّرتُ هذا الرجل بستانًا، متين الجدران ببئر ماء مَعين عامرة، وأشجار يانِعة مثمِرة؛ فأكل ثَمره، وخرَّب بئره، وهدَم جدرانه، فنظر القاضي إلى فيروز، وقال له: سمعتَ، فما تقول؟ فقال فيروز: أيها القاضي، قد استلَمتُ هذا البستان وسلَّمته إليه أحسن مما كان، فقال القاضي: هل سلَّم إليك البستان كما كان؟ قال: نعم، ولكن أريد السبب في ردِّه، فقال القاضي: ما قولك؟ قال: والله يا مولاي ما رددت البستان كراهيةً فيه، وإنما جئتُه يومًا من الأيام فوجدتُ أثر الأسد فيه فخِفت أن يَغتالني.
هنا كان الملِك مُتكئًا فاستوى جالسًا، وقال: يا فيروز، ارجِع إلى بستانك آمنًا مطمئنًّا؛ فوالله إن الأسد دخل فيه حقًّا، ولكن لم يؤثر فيه أثرًا ولا التمَس منه ورَقًا ولا ثَمرًا، ولم يلبَث فيه غير لحظة يسيرة وخرج من غير بأس، والله ما رأيتُ مِثل بستانك ولا أشدَّ احترازًا من حِيطانه على شجره.
فرجع فيروز إلى داره وردَّ زوجته من غير أن يَفهم القاضي حقيقة الدعوى وسرَّ المخاصمة.