رغيف "سِعدة"
مات الرجل ، تاركاً وراءه "عُرّ"أولاد ، وامرأة مستورة ، وبيتاً خالياً من الزاد والمؤن..الفقر والريح وحدهما يصفران في شبابيك ذلك البيت المتهالك الآيل للسقوط،في الليل عندما يأوي كل الى فراشه ويُطفأ سراج البيت على الوجوه الصغيرة النائمة ،تتورّم غيبة الأب في المكان...هذا ما كانت تشعر به الأرملة الشابة "سعدة" حيث جفت مياه خابيتها، ولم تجف دموعها على"زلمتها" الذي قطع بها نصف الطريق وغادر ..
بعد إن انقضت الأسابيع الأولى للوفاة،وقلّت زيارات الجارات، واختصرت لقاءات الأخوة ، و لم يعدْ يطرق بابها قريب أو يذكرها وأطفالها جار أو محسن ، فالكل ملهي بأشغاله ،يكدّ ليطعم جياعه...ولما تفشّى النسيان، واشتدّ العَوَز ، وتضوّرت جدران البيت من بكاء أطفالها المنسيين، كسرت "سعده" عدّتها وخرجت إلى البيادر..بيدها كيس صغير، تسلّم على الحصّادين من بعيد ،ثم تستأذنهم أن تلتقط السنابل الساقطة والمعفّرة بالتراب ليس إلاّ، ولأن "سعدة" عزيزة النفس، قانعة بالقليل، تخشى على كرامتها كانت تأخذ من كل بيدر عشر سنبلات ، ثم تذهب إلى البيدر الثاني ،ثم الثالث ، كي لا تميل كل الميل على محصول واحد...
عند المساء عادت إلى بيتها، أنزلت الكيس عن ظهرها، حلّت زنارها عن خصرها..ثم بدأت تفرك السنابل براحتيها وتغربلها تمهيداً لمرحلة الطحن...فرحت أنها استطاعت ان تؤمّن لقيمات لأولادها هذا المساء ،رامية حملها ورزق اليوم التالي على الله الذي لا ينساها وإن نسيها عباده..عجنت حفنتي القمح، ثم أوقدت حطباً لتخبز...توهّجت النار ،صافح العجين وجه الصاج ، انتفخ الرغيف ، انتشرت الحمرة على أطرافه بسرعة أصبح يشبه البدر في ليلة تمّوزية ..قلبته..حركته..وعندما نضج تماماً وضعته على طبق قريب..وبدأت تلملم الجمر المتناثر ليؤنس منظر بيتها و"يهيّب"عليها وعلى أطفالها أمام الغرباء .
.في هذه اللحظات غافلها "أبو الحصيني"خطف الرغيف الوحيد وركض...انتفضت سعدة ، وبدأت تركض وراءه وترجوه.."يابو الحصيني يا شيخ الوادي..تراك سرقت عشا أولادي".."هيييي يابو الحصيني...خطفت مني رغيف حضيني"...إلى أن توارى الثعلب عن أنظارها تماماً في العتمة والبراري..فتعبت أنفاسها..وقالت وهي تلهث: "خلص خذه صدقه عن روح جوزي..الله يسامحك"...
***
أخشى إذا ما يئسنا من استرجاع ما سرقته"حصينيات" الفساد أن نقول لهم في نهاية المطاف: "خلص خذوهن صدقه عن روح أمواتنا..مسامحينكو"..
* اشكر الاستاذ موسى الأعرج على ما يزودنا به من درر الماضي والتراث العربي الجميل.