اليوم خمر .. وغدا فنجان قهوة
لا أتذكر من يوم توقيع معاهدة عربة التي أريد أن أنساها عمدا سوى مشهد رسخ في ذاكرتي كالخنجر المسموم بجرح لا يبرء و يظل ينغص الحياة!
كان المشهد أكثر من رمزي و رسالته أكبر من المعاهدة نفسها و أخطر من كل بنودها عندما أُحضر أبناء و أحفاد الشهداء الاردنيين في الحروب مع العدو الصهيوني و نظرائهم من أبناء و أحفاد القتلى الاسرائيليين لتبادل السلام و الورود في مشهد كان يُقصد منه إسدال الستار على ما سبق و افتتاح مرحلة مستقبلية تطوي الصفحات و الذاكرة و تمشي و تعبر فوق كل الدماء و التضحيات و الخسائر!!
من يوم أن فرطوا بتلك الدماء و تاريخها و وضعوها و دفنوها دون دية أو قصاص قرأت في المشهد أن هذه هي السياسة القادمة مع كل الدماء في المستقبل، كلها موضوعة و كلها لا قيمة لها عند عرابي وادي عربة من الرأس الى الأذيال!!
لا أعرف من أين جاءت الإشاعة بأن شعوبنا دمها حار كناية عن الاستعداد و شدة البأس و التوثب و الهمة و الانقضاض، كناية انها لا تنام عن حقوقها و لا دمائها و لا أعراضها و لا أرضها؟!!!
من أين جاءت الشائعة يا ترى ان الذي يعادينا فلينتظر الويل و ان طرفنا لا يُمس و ان وطننا مزنر بالسيوف ام أن هذه أغان فقط للاستهلاك المحلي و للضحك على الشعب؟!
أتراها القوة و الغلبة و المرجلة و الاستئسادالذي نمارسه على بعض حتى عرفنا به و صارت سمعتنا في البطش عالمية اجتذبنا بها دول العالم ليستحدث سجونا سرية عندنا؟!
ام تراها الطوشات و الهوشات و المسبات التي نجيدها في جامعاتنا و شوارعنا بدعوى العصبيات و التحزبات؟!
في الجاهلية حتى السكير امرؤ القيس لما جاءه خبر قتل والده ليلا غير حياته و عزم أن يأخذ بثأره فور ما يصحو من سكرته فقال قولته المشهورة " اليوم خمر و غدا أمر" فلما جاء الصبح لبس لأمة الحرب و لم يخلعها حتى أثخن في قتلة أبيه، أما نحن فاليوم خمر و الغد كذلك و قد نظل مخمورين بعجزنا و قلة حيلتنا!!!
حتى في شريعة حمورابي التي تعتبر من أول الشرائع البشرية الدستورية لم يكن لأحد أن يتجاوز عن قدسية و حرمة الدماء بل أبسط من ذلك تم التوكيد على القصاص فيه فجعلت العين بالعين و السن بالسن و العدوان على المبتدىء بالظلم
أما في الاسلام فقد أُجلي بنو قينقاع و قُطعت العلاقات السياسية معهم من أجل ثوب رفعه اليهود فكشف عورة فما بالكم في دم أريق هدرا؟! هل من عورة أكبر من هذه؟!
لقد أوقف قائد من قادة جيوش المسلمين جيشه عن المسير ليبحث لجندي عن قعبه الذي فقده(قدح من الخشب) و أمر الجنود: ابحثوا لأخيكم عن قعبه،فبدأ الجنود كلهم يبحثون عن القعب المفقود والعدو ينظر اليهم بتعجب،وسأل قائدهم ما بهم ؟
فقالوا له: إن واحدا منهم قد أضاع قعبه وهم يبحثون له عنه فقال :إن كان هذا شأنهم في قعب صاحبهم،،فما بالكم لو قتلتم منهم أحدا؟!!فقالو : نصالحهم على ما يريدون إذا و انتصر الجيش بحرصه على أقل القليل مما يخص أفراده!
حتى السياسة العالمية التي لا نؤثر في صناعتها بل نتلقفها مطبقين مجبرين تعرف مبدأ معتبرا و هو المعاملة بالمثل reciprocity بمعنى ان دولة لا تملك ان تعتدي على الاخرى ثم تتوقع أن تدير الدولة الضحية ظهرها و تعطي خذها الاخر للضربة القادمة بمبدأ المسامح كريم!! او تكتفي بجعجعة الاستنكار و الشجب و الإدانة و كأن كثر الولولة او التباكي يرد ميتا او حقا!!!
ان المثير للسخرية أن كل التنسيق الامني بين الطرفين الاردني و الاسرائيلي لم يجد نفعا، كل هذا التعاون و الانبطاح و الانحناء لم يحفظ دم مواطن أردني مسالم يعمل في السلطة القضائية؟ او ربما ان الجندي الذي قتل القاضي الاردني رائد زعيتر لا يعرف حتى الانجليزية و لم يقرأ التعليمات على جوازه الاردني بتوجيهات الملك في تقديم العون و المساعدة لكل من يحمل الجواز الاردني؟! أين الامن و الامان و انت بمجرد ان حركت خطوة خارج بلدك لم يعد لك وزن و لا اعتبار و لا حماية؟!
يا ترى هل يشرب اليهود القهوة العربية؟ اذا لم يكونوا يشربونها فليسارعوا و ليخبرهم أحد أن دية قتلانا فنجان قهوة نحل به كل مشاكلنا مع المجرمين المحليين و يمكن ان ينطبق الامر مع من كانوا أعداء الامس و أصبحوا فجأة ابناء العم و حلفاء اليوم!!
على الاقل في التقاضي العشائري هناك قضاة معتبرون و شيوخ كبار يرجع اليهم الناس ليقولوا قولا فصلا يسكت الجميع و يرد الحقوق، أما القاضي فقد قتل و أما الكبار فالشعب الاردني يتيم ليس له كبار يأخذون بثأره فلو كان عندنا كبار عندهم دم لعرفوا ان الدم لا يهدأ الا بالقصاص و أن الهدأة قد تخفي ورائها بركانا قد ينفجر تحت كل الكراسي التي تنتصب على دمائنا
من يوم مذبحة كفر قاسم غرمت محاكم العدو جنودهم قرشا واحدا دية أكثر من خمسين شهيدا و من يوم لم يرد او يعترض احد ظلت قيمتنا و حرمة دمنا تتناقص فلم يعودوا حتى يدفعون القرش و أصبحوا فقط يعلنون ان القاتل مجنون ليرفعوا عنه حتى العتب!
نقول لكل من يتسمون بالكبار و يجلسون في الصدور على ظهرنا: الثأر لا يموت و لكن يستعد، هذا درس التاريخ ان كنتم تتعلمون
أما الدرس للشعب ان كان بنا بقية من دم فيقول:
إن ما ضُيع في ساح الوغى ** في سوى ساحاتها لا يُسترد