عن الحياة قبل الموت!
مرة أخرى يداهمك الموت، خلال أيام معدودة، ولا تستطيع أن تفكر أو تكتب خارج إطار هذه الحقيقة الكبرى التي تتصاغر أمامها كل الأشياء مهما كبرت..
وتبدأ عن غير قصد منك، في تأمله، واسستبطان ما قالوا عنه، وهم أحياء، ومن أسف، انك لا تجد أحدا يحدثك عنه، بعد أن ذاق «طعمه» فلم يعش أحد هذه التجربة، ليقول لنا نحن الأحياء ماذا رأى!
يأتيك خبر وفاة فلان وعلان، من أهل وأقارب معارف، وفي هاتفي تزداد القائمة التي تضم أرقام من رحلوا، ولا أجرؤ على شطبها، كأنني أنتظر أن «يرنوا» علي ذات يوم!
تعيدني أخبار الموت إلى تلك المشاعر المتناقضة، فأنت على بعد خفقة قلب من أن تلحق بمن رحل، وربما على بعد غيمة، أو دهر، لا تدري، وبين هذا وذاك، عليك أن تمضي في رحلة الحياة، وأن «تتعايش» مع الموت، وترقب من يرحلون، ولا تدري متى يحل دورك!
وكي أتوازن قليلا، فاستمر في هذا التعايش والتوازن بين حياة ترقب الموت، وموت يأخذ الأحياء واحدا تلو الآخر، رحت تبحث وتقرأ، ماذا قالوا عن الموت، لعلك تجد فيما يقولون بعض السلوى!
لا أقول هنا «من أجمل» ما قرأت عن الموت، بل من أكثر ما «أعجبني» جملة من المقتطفات، تجعلني أكثر قدرة على استيعاب هذا الحدث، يقول مصطفى خليفة: «إن الإنسان لا يموت دفعةً واحدة، كلما مات له قريب أو صديق أو أحد من معارفه فإن الجزء الذي يحتله هذا الصديق أو القريب يموت في نفس هذا الإنسان، ومع الأيام وتتابع سلسلة الموت تكثر الأجزاء التي تموت داخلنا ... تكبر المساحة التي يحتلها الموت»، أما محمد الماغوط، فله شان آخر مع الموت، حين يقول: «إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الكبرى هو ما يموت فينا ونحن أحياء» ويمسك مريد البرغوثي في كتابه «رأيت رام الله» بمعنى آخر من معاني الموت، حين يقول: «الغربة كالموت، المرء يشعر دائما أن الموت هو الشيء الذي يحدث للآخرين، منذ ذلك الصيف أصبحت ذلك الغريب الذي كنت أظنه دائما سواي» وحين يقول ايضا: «أتلمَّس أحوالي منذ وُلدتُ إلى اليوم، وفي يأسي أتذكر، أن هناك حياةً بعد الموتِ، هناك حياة بعد الموت، ولا مشكلة لدي، لكني أسأل: يا الله.. أهناك حياة قبل الموت؟»!!
وأصل إلى مقتطف آخر، يبعث في النفس هيبة من نوع خاص، مقتطف من عبد الرحمن الكواكبي، في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» حين يقول: «العوام هم قوَّة المستبد وقوته، بهم عليهم يصول و يطول يأسرهم، فيتهللون لشوكته، يغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بساسته، وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريما، و اذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيما، و يسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة»! وأختم مرة بالعودة مرة أخرى إلى نجيب محفوظ، في «أولاد حارتنا» حين يقول: «الموت الذي يقتل الحياة بالخوف حتى قبل أن يجيء. لو رُدَّ إلى الحياة لصاح بكل رجل: لا تخف! الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت»!!