الودود الولود في ميزان العدل الرباني
مرة أخرى نُذكر بأساسية منهجية في علوم الحديث تغيب عن من يقرأ الأحاديث المنسوبة إلى النبي –عليه السلام- قراءة فاعلة كنصوص شرعية تُحمل دينا في شريعتنا الإسلامية، فديننا نص موحى؛ قرآنا يُتلى ليُعمل به، وسُنة مثبتة صحيحة ليُحتذى فيها هدي النبي-عليه السلام. عندما نقول أن شريعتنا نص واحد فهذا يعني أن نصوص الشريعة قرآنا وسنة تُبيّن بعضها بعضا، ويؤازر بعضها بعضا فلا تناقض ولا تصادم. فإذا ثبت تعارض بينها قُدّم عند علماء الأصول وغيرهم القرآن على السنة، وهذا ما نؤمن به وندين في علاقة القرآن بالسنة.
عاقر، ما ذنب المرأة إذا كانت عاقرا لا تُنجب، فأكف عنها رغبة الخطّاب من الأزواج بنص منسوب للنبي تتأرجح أسانيد مروياته بين التضعيف والقبول إلى درجة التحسين وربما إلى درجة التصحيح لغيره. بنص منقول تتصادم حروفه عيانا مع خُلق النبي ورحمته وتفاصيل حياته الزوجية وأمهات المؤمنين كعائشة وغيرها –رضي الله عنهن- اللواتي لم يلدن له الولد جميعا سوى خديجة!
ليس نبينا –عليه السلام- في هذه الحال وحده؛ بل يُشاركه في ذلك أنبياء ورسل أخرون كإبراهيم وزكريا وعمران عليهم السلام؛ وما وجدنا القرآن يروي أن أيا منهم عيّب على زوجه أو نبذها أو فارقها طلبا للولد!
الحديث المروي في تجنب الزواج من إمرأة عاقر والحث على الزواج من امرأة قادرة عليه منسوب لسيدنا النبي-عليه السلام- في كتب السنن وغيرها حيث يقول:
عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صل الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها ؟ قال “ لا “ ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: “ تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم “ وفي رواية “مكاثر بكم الأنبياء”.
والحديث رواه أبو داود (2/542/2050) والنسائي (6/373-374/3227) وصححه ابن حبان (9/363-364/4056-4057) والحاكم (2/162) ووافقه الذهبي وصححه أبو محمد عبد الحق فيما نقل عنه الإمام القرطبي. وصححه الشيخ الألباني من طريق وحسّنه من آخرفي المعجم الأوسط، وجاء الشيخ شعيب الأرناؤوط وحسّن له سندا وصحح آخر كذلك في سياق النهي عن التبتل والحث على الباءة. وورد بألفاظ أخرى من طرق أخرى مسيئة مريعة منها ما روي في مسند الشاميين: حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الإيادي ثنا يزيد بن قبيس ثنا الجراح بن مليح عن أرطاة بن المنذر وإبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ( تزوجوا الودود الولود من النساء فإني مكاثر بكم النبيين يوم القيامة وإياكم والعواقر فإن مثل ذلك كمثل رجل قعد على رأس بئر يسقي أرضا سبخة فلا أرضه تنبت ولا عناه يذهب” حيث قال محقق الكتاب حمدي بن عبد المجيد السلفي بعدها : “محمد بن عبيدة صاحب مناكير”، مما يجعل الرواية ضعيفة منكرة!
وهذا الذي سبق كله -من دراسة أسانيد الحديث من طرقه المختلفة- جهد عظيم لعلمائنا نقف عنده في قراءتنا للحديث بكل التقدير والاحترام، ونحترم كذلك ونقدّر أن الدلالة التي وقفوا عندها هي أهمية التناسل والتكاثر في شريعتنا. إلا أن هذا المقصد ثابت بنصوص القرآن ومقاصده وبروايات صحيحة ثابتة عن نبيه الكريم.
لا ننسى إذن أن الحكم على الحديث الذي بين أيدينا لا يقف عند أسانيد طرقه فقط. بل يتجاوزه إلى متنها (نصها) وما يحمله معه من أحكام ومعان لا ينبغي أن تتناقض جملة وتفصيلا بحال مع ما استقرت عليه نصوص الشريعة ومقاصدها؛ بل وثوابتها وسنة نبينا الكريم ومن سبقه من أنبياء الهدى والرحمة.
لقد نزل القرآن بالعدل وأن الله هو الرازق وحده، فهو الذي بيده أن يجعل الأرحام تحمل الأجنة، وهو فقط الذي يجعل منها سبحانه الذكر أو الأنثى أو يزوجهم أو يجعل من يشاء عقيما قال ربنا:
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيما إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
فالله العليم الخبير الرزاق هو العدل فكيف يستوي أن يعاقب الله خلقه في الدنيا على ما رزقهم هو وحده سبحانه وكتب عليهم في دنياهم فيما لا يد لهم فيه؟
فالناظر في أحكام الشريعة سيجد خلاف ذلك، سيجد رحمة ورخصة وتجاوزا في كل مرة وُجد فيه العنت والتعب على العباد فيما لا طاقة لهم به لأن الله ربهم خلقهم وهو أعلم بأحوالهم. خذ على ذلك مثلا أن الله كتب على أصحاب الحاجات ما ابتلاهم به من ضعف فأتبعته الشريعة بالتخفيف والرخصة؛ لا بالإنقاص أو الملامة أو تجنب التعامل معهم فقال سبحانه في شأنهم: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}. فخفف عنهم تلطفا بهم في الجهاد وفي تكاليف كثيرة كل بحسب استطاعته. وفي أحوال النساء وجدنا مثال ذلك حيث كتب الله عنت الحيض على بنات حواء فكان هذا داعيا لتخفيف أحكام الشريعة عنهن في الصلاة والصيام دون لوم أو ذنب أو دعوة لتجنب لقائهن أو التعامل معهن. بل قال رسولنا الكريم لعائشة:” حيضتك ليست في يدك” حسما لكل طائف شيطاني يُنقص من قدر المرأة في عين نفسها أو عين غيرها بما كتبه الله عليها. فكيف يستوي إذن أن يكتب الله على إمرأة أن تكون عاقرا ثم يأمر الرجال على لسان نبيه بتجنب الزواج منها؟ أكان العقم أو الإنجاب من كسب يدها؟ وأي إعانة على تقبل البلاء هذه؟
ثم كيف لرجل مقبل على الزواج أن يعلم في هكذا رواية أن المرأة قادرة على الإنجاب دون أن تكون قد جربت الزواج من غيره وثبت أن عدم القدرة كان لعلة فيها؟ نعم كان العرب وغيرهم فيمن قبلنا يظنون أن عدم الإنجاب لا يكون إلا لعلة في المرأة وحدها والعلم يقول في زماننا خلاف ذلك فكلا الزوجين قد يكون مبتلى بهذا البلاء فما العمل؟ أنطلب من الخاطبين طلب فحوص مخبرية قبل الزواج لنتبين من يملك القدرة على الإنجاب لتتجنبه المرأة زوجا ويتجنبها الرجل زوجة! وهل كل بيوتنا ظللتها المودة والسكينة أو غابت عنها بالإنجاب وحده؟
لا نناقش أن طلب الولد حق مكفول في الشريعة لكلا الزوجين قبل فوات الفوت، لكن الشريعة نفسها التي جعلت التكاثر من سننها الكونية، لم تجعل فقدان القدرة عليه سببا للإنتقاص من أحد أو رفعه، أو سببا للإقبال عليه أو هجره . فالشريعة نفسها قررت أن هذه أرزاق كتبها الله وحده للعباد يدخل المنع فيها والعطاء حيّز البلاء الذي يُختبر فيه إيماننا وصبرنا وتسليمنا لما قدر الله علينا.