قديماً كنا نحرص على حفظ أشيائنا وأدواتنا ووضعها في أماكن آمنة، ونراقبها مراقبة دقيقة ونتابعها متابعة شخصية، ونخصص لأشيائنا القيمة حراساً مع أضخم الأقفال على أبواب من الحديد أو الخشب السميك.
أتت إلينا التكنولوجيا ووزعت علينا وسائل حديثة لتحمل عنا مشقة الحياة وثقل المراقبة والمتابعة الشخصية، وأراحتنا من تعب المراقبة الفردية، لكن في المقابل ابتلينا واكتشفنا بأن الحامي حرامي! أي إن التكنولوجيا ساعدتنا في أشياء وأضرتنا في أشياء أخرى كثيرة. ومن هذه الأشياء جاءت لتختصر الوقت فإذا بها تسرق الوقت. كانت أمورنا مرتبة .. نزور أرحامنا أولاً بأول وكانت صلة الرحم عندنا قوية، نجلس على مائدة واحدة مع العائلة، حواراتنا كانت موجودة بيننا وبين أطفالنا، وصلواتنا الخمس في المسجد.
ندخل السرير بعد صلاة العشاء ونقوم مبكراً لنكون شهوداً على شروق شمس يوم جديد ونتمتع بفيتامين دال من غير الوقوف في طوابير الدواء أمام الصيدلية، ونحن مسرورون ونتمتع بصحة جيدة ولا نعرف عن الاكتئاب والمهدئات شيئاً .. بالأمس القريب دخل علينا التلفزيون وسهرنا معه حتى وقت متأخر من الليل حيث تأخرنا عن صلاة الفجر في الجماعة، ثم بعد ذلك أرسلوا لنا السينما لنحرم من رؤية الشمس وهي تشرق علينا وتخبرنا بميلاد يوم جديد، والبعض لا يصلي إلا بعد طلوع الشمس.
وأتى إلينا الهاتف، وفرحنا أن نسمع صوت الأحباب والأرحام من غير تعب ولا مشقة زيارة. وحُرمنا من رؤيتهم والجلوس معهم، وطوروا لنا الهاتف بالرسائل المكتوبة حتى لا نسمع الأصوات ونكتفي بالرسالة اليومية، وفي أغلب الحالات الرسائل الأسبوعية ليوم الجمعة (نستقبلها من الأصدقاء ونرسلها للأحباب والأمهات والآباء) وتعدى ذلك إلى الكاميرا والفيديو في الهاتف لتعرف بأن أختك ولدت في المستشفى، وأرسلوا لك صورة المولود بالواتس أب من غير أن تتعب نفسك بالذهاب إلى المستشفى للتهنئة بالمولود الجديد، وتكتفي برسالة هاتفية واحدة “ما شاء الله، بالمبارك، الله يخليه، يشبه خاله، كيووووت”.
ثم يكبر الولد وبعد كم سنة تراه واقفاً أمام بيتهم ولا تعرف أنه ابن أختك رغم أنه يشبه خاله. ثم إذا سألنا بعضنا البعض لماذا تقلصت العلاقات؟ ولماذا لا نرى بعضنا البعض؟ ولماذا تراجعت الزيارات وصلة الرحم؟ الكل يلوم الزمن ويقول بصوت واحد: “تغير الزمن”.
لا يا عزيزي الزمن لم تغير بل نحن تغيرنا وتنازلنا عن كثير من مبادئنا وأعرافنا وأخلاقياتنا للتكنولوجيا مقابل الراحة وتضييع الوقت وإهدار الفرص المادية والمعنوية والانشغال بما لا يقدم ولا يؤخر (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد:11.
نعم إنها تكنولوجيا سلاح ذو حدين، الغرب يستعمله في الخير ونحن لا نعرف إلا الجانب السلبي منه.