فلسطين ديمقراطية علمانية والصراع مع لصوص الهيكل
انطلقت حركة التحرير الوطني الفلسطينية قبل تسعة وخمسين عاماً، كان قادة الحركة ممن تلقى التعليم الجامعي من الجيل الثاني لفلسطينيي الشتات في الدول العربية المجاورة، وضمت الحركة أطيافاً مختلفة من كافة الاتجاهات السياسية شابهت ما كان يدور في العالم العربي آنذاك.
طرحت الحركة في أدبياتها حلاً مبدعاً للقضية الفلسطينية وهو قيام دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود بسلام ومساواة، مع عودة اللاجئين الى بيوتهم التي طردوا منها عام 1948، وقد قدمت هذا الطرح التقدمي القوى اليسارية في الحركة التي فكرت بحل إنساني شامل لهذه المشكلة المستعصية.
بعد ثلاثين عاماً طبق نلسون مانديلا ما سبق وطرحه اليساريون الفلسطينون، إذ عقد مصالحة تاريخية ( Reconciliation) مع البيض سكان البلاد. كم هي عظيمة هذه الضحية التي تغفر لجلادها السابق خطاياه وآثامه بحقها، بينما نجد للمقارنة فقط أن فرنسا ترفض مجرد الاعتذار للجزائر عما اقترفته بحق الشعب الجزائري خلال استعمارها الطويل.
لم يكن اليمين الفلسطيني مستوعباً أو متقبلاً لفكرة تقدمية كهذه، تبني هذه الفكرة يتطلب نضالاً طويل النفس ويتطلب أساليب نضال مختلفة عما حدث فعلاً على أرض الواقع، كان اليمين في حركة فتح يؤمن بالحلول المرحلية قصيرة الأمد، وظهرت توجهاته منذ البداية بتأييد المملكة العربية المتحدة مع الأردن وحتى النهاية باتفاق أوسلو، وسبب ذلك بالطبع عدم التحليل الدقيق لطبيعة الصراع مع الصهيونية وارتباطاتها بالرأسمالية العالمية.
أما إسرائيل فقد أدركت خطورة هذه الفكرة التقدمية على مستقبلها فهي تمثل نقيضاً للفكرة الصهيونية على طول الخط.
في 10 أبريل 1973، تم اغتيال القادة الثلاثة كمال ناصر وكمال عدوان وأبي يوسف النجار ولم يعد أحد يسمع شيئاً عن الفكرة بعد ذلك.
عندما نفكر في التوجه العام للبشرية ابتداءً من القرن السابق، نجد أن المنحى العام في التطور هو تحول الأرض الى قرية كبيرة وسيادة المساواة بين البشر. ولكن كان هناك انحرافان كبيران أثّرا على هذا التطور.
الانحراف الأول: فكرة التفوق العرقي التي ابتدعها النازيون الألمان، الذين نادوا بسمو العرق الآري على غيره من الأعراق وترتيب باقي البشر على درجات حسب اقترابها أو بعدها من هذا العرق. للتخلص من هذا الانحراف عن الخط العام قامت حرب عالمية ثانية خسرت فيه البشرية ستين مليوناً من الضحايا.
يمكننا إضافة بعض الإنحرافات الصغيرة الممثلة في الاستعمار المباشر الذي انتهى، فهناك عدد يناهز 200 دولة مستقلة في الأمم المتحدة.
الانحراف الثاني: فكرة التفوق الديني التي نادت بها الصهيونية العالمية (شعب الله المختار)، اعتبرت الصهيونية أن الذين لا يدينون باليهودية مجرد حيوانات بشرية (جنتايل أو غوييم) ولذلك فهم لا يملكون حق الحياة وفي هذا ورثت عن النازية فكرة التفوق العرقي أيضاً، حتى هذه اللحظة ينادي الإسرائيليون بدولة يهودية خالصة على أرض فلسطين، وارتكبوا خلال وجودهم على أرض فلسطين منذ 1948 أفظع مظاهر التطهير العرقي بحق الفلسطينيين والعرب .
بينما نجد أن النازية لم تتمدد وانحصرت في المانيا وايطاليا الفاشية واليابان الامبراطوري، نجد أن الصهيونية عالمية لارتباطها بالرأسمالية ويمكن اعتبار إسرائيل رأس حربة لهذا الارتباط.
وجدنا كثيراً من الساسة في الدول الرأسمالية تصرح بحق إسرائيل في الوجود وبحقها في الدفاع عن النفس ( رغم كونها المعتدية) أو تصريح بعض الساسة بالقول (أنا صهيوني)، ولا يختلف هؤلاء الساسة عن تجار الهيكل الذي طردهم عيسى بن مريم منه :
"ووبَّخ الناس بشدة قائلًا: "مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" ) (متى 21: 12، 13).
"ولم يدع أحدًا يجتاز الهيكل بمتاع" "وقلب موائد الصيارفة، وكراسي باعة الحمام"،(مر 11: 16).
كان التجار ورجال الدين اليهود في تحالف مصالح، فرجال الدين يسمحون للتجار باستعمال الهيكل والتجار يقدمون لهم نسبة من أرباحهم.
ما اشبه اليوم بالبارحة فهناك دائماً لصوص هيكل جدد.
رغم أن الصهيونية تحمل بذور فنائها في داخلها مثل الانحراف النازي الا أنها لن تموت لوحدها، فقد سجل تاريخ 7 أكتوبر 2023 وضع أول مسمار حقيقي في نعشها، فالصراع يتركز في رأس الحربة التي أقامتها في فلسطين، بينما نجد أن الدول واجهت النازية في حرب استمرت ست سنوات، نجد الآن أن شعب فلسطين يقود شعوب المنطقة التي اكتوت بالوجود الصهيوني للتخلص منه.
ملفت للنظر فعلاً أن الأطراف العربية هي تنظيمات شعبية لا علاقة لها بالسلطة ( حكومة أنصار الله في اليمن تتلقى رواتب موظفيها من الطرف الآخر في عدن والرياض).
حركة الشعوب المناهضة للصهيونية ومذابحها تمتد على كامل الكرة الأرضية، وجدنا التظاهرات في كل عواصم العالم بما فيها نيويورك حيث توجد أكبر جالية يهودية بعد فلسطين.
هل هناك نقيض للصهيونية؟ إنها الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود بكامل المساواة وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وتعويضهم عن معاناتهم الطويلة خلال سنيّ تشردهم.
مثل هذا الحل الذي يجاري التطور الإنساني للبشرية هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراع والقتل ويحمل الأمل لكل الشعوب أن المصالحة ممكنة وأن السلام ممكن.
هذا اقتراح لكافة الفصائل الفلسطينية المقاومة بغض النظر عن توجهها السياسي أن تتبنى هذا الاقتراح، قد يعطي فرصة لليهود الذين يعيشون في فلسطين أن يجدوا بديلاً قابلاً للحياة بدل الموت الذي تقدمه لهم الصهيونية، لأنه عندما نستذكر التاريخ نجد أن اليهود عاشوا مع العرب والمسلمين بدَعةٍ وسلام بينما كان الأوروبيون يضطهدونهم.
النصر دائماً للشعوب والفجر قادم.