ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: فلسفة الجسد الجمعة 18 أبريل 2014, 9:48 am | |
| [size=32]فلسفة الجسد[/size]
د. ماهر الصراف لعل نظرة الانسان للجسد هي الأهم في حياته مقارنة لنظرته لأمور معيشية أخرى بل إن فلسفته تجاه جسده قد تكون المفتاح الأهم لعلاقته بالفلسفات تجاه أمور الدنيا الأخرى. وحتى يضمن الفرد فلسفة راسخة عن جسده يجب عليه أن يكون على دراية بعمل وتركيبة وآفاق هذا الجسد، ولكن كل ذلك غير متوفر للإنسان ... فمن منا رأى أمعاءه ومن منا يعرف كيف تبدو شرايين قلبه ناهيك عن عمل دماغه، وصل الإنسان بفضل دماغه أن يعرف الكثير عن العلوم الطبيعية والرياضية والفيزيائية والفلكية حتى أنه استطاع أن يهبط على القمر. لكن هذا الدماغ الذي اكتشف القمر واخترع إمكانية النزول عليه لم يكن هو نفسه يعرف نفسه، وكيف للإنسان العاقل الذي وجد على الأرض قبل حوالي مائة وستون الف عام أن لا تصل إليه بعض من المعرفة الفسيولوجية عن جسده إلا قبل 300 عام وتفهمه لأسلوب نشاط مخه إلا في العشرين سنة الماضية؟ إذا ما كانت المعلومة العلمية عن الجسد بهذه الضحالة على امتداد التاريخ الإنساني فعن ماذا وكيف للفلاسفة أن يكتبوا عنه لمدة أكثر من ألفيتين. الحقيقة وفي رأيي الخاص أن كلا من الفلاسفة والمتدينيين قد تبجحوا كثيراً في ادعاءاتهم بمعرفة الإنسان. ولذلك ومن هذا المنطلق سنتحدث عن الفلسفة بأفواه الفلاسفة على امتداد التاريخ ومن ثم ننتقل إلى النظر للنتائج العلمية الحديثة بالنسبة لاكتشاف الجسم ومن ثم الدماغ. الجسد عند الفلاسفة بغض النظر عن «ديمقراطيس» الذي تحدث عن أن الجسد هو مجموع ذرات وهو الأقرب للواقع المادي الذي وصلنا الى معرفته اليوم إلا أن الجدل الفلسفي الحقيقي بدأ مع «سقراط» وكان واضحاً جداً في محاورات «أفلاطون» و»فيدون» فهو يقول أن الطبيعة الإنسانية تشتمل على جزأين هما الجسد والنفس. وإن الجسد انساني بينما النفس أكثر ما تكون شبيهاً للألهي! ورغم أنه شبه النفس باللألهي فقد قال أنها يمكن أن تتلوث هي نفسها بالجسد الذي سكنته وأنها يمكن أن تصبح مفتونة بالرغبات واللذات وعندها ستعاقب بأن تبقى تدور في القبور والأضرحة عقاباً لها. حيث أن كل من الجسم والنفس له وجوده الخاص بالنسبة لسقراط: الجسد هو مكان سكن النفس وإن كان لأفلاطون ذات المفهوم إلا أن أفلاطون بدل طبيعة الجسد فحوله من سكن إلى قبر. ثم يبالغ أفلاطون بوصف التناقض بين الجسم والنفس، ليشبه ذلك بالعربة المجنحة ذات الحصانين. ثم يغالي في ذم الجسد فيقول: «وحيث أن الجسد قبر للنفس فالحياة إذن موت للنفس لذلك يجب أن تبحث عن الحياة الحقيقية عن طريق الموت». لا يوافق آرسطو أستاذه افلاطون فبالنسبة له فإن النفس ليست عالية لتحل عشوائياً في أي جسم كان بل إنها كمال أول للجسم وهي لا يمكن أن تنفصل عن الجسم ذاته. إن «آرسطو» يقترب من علم اليوم حين يقول أن النفس هي فعل بالنسبة لمادة هي الجسم. عند القاء نظرة عامة على التاريخ الفلسفي للجسم والنفس فاننا نلاحظ ان كفة الجسد ترجح شيئاً فشيئاً مقابل النفس او بعبارة أصح ان الفهم المادي للعلاقة الجسمية النفسية يزداد رسوخاً مقارنة بالفهم الغيبي لها. الجسد في المسيحية والإسلام وهنا أجد ضرورة أن ألقي في هذا السياق التاريخي بعض الضوء على القناعة الدينية وخصوصاً لدى المسيحية والاسلام عن كل من الجسد والنفس وخصوصاً اننا بدأنا بسقراط الذي كان متأثراً بالفكر الفيثاغوري الاقرب الى الديانة. لا شك أن كل من الديانتين يقتربان من المفهوم الثنائي للنفس والجسد. في المسيحية الجسد آثم ومذنب فحتى العلاقة الجنسية الزوجية يجب ألا تحدث في المسيحية إلا بهدف الإنجاب، ليس هذا فقط فالقديس «أوغوستين» ينادي بجنسية دون انفعال ودون متعة. و»كليمن الاسكندراني» يدعو إلى أن يمتنع المرء عن الرغبة والوصايا العشر لا تشجب الزنا فقط بل تمنع الاشتهاء «لا تشتهي امرأة جارك»، في حين ان الإسلام لا ينكر حق الجسد «ولجسدك عليك حق»، فالإسلام لا يمنع المتعة وإنما يطالب بتنظيمها دينياً. لم تتأثرالفلسفة الأوروبية بالنظرة الإسلامية للجسد وبقيت تتبع أقوال أغسطين الذي كان يحاول بمسيحيته التصدي للدائرة الفسيولوجية في قمة ضغطها العالي أي في قمة رغبتها وهي بمثابة أكبر تصعيد ديني في مواجهة عصبوية الجسد. عند ديكارت واصل «ديكارت» نفس الأفكار الأفلاطونية بمعنى أن النفس والجسم هما جوهران متمايزان وظيفتهما الأساسيتان هما الفكر والامتداد وتحظى النفس بمزية تزويد الوجود الإنساني أما الجسم فإنه يختزل إلى مادية امتداده. «يُؤلِّل» ديكارت الجسد (اي يعمله آلة) فيعتبر الوظائف الجسمية مثل (الهضم، والتحرك، والتنفس) أنها تنجم عن آلية تنبع من إرادة الله التي جعلها الله ذاتية الحركة وشبهها بحركة الساعة. بفكره الميتافيزيقي يميز بين النفس والجسم وبنفس الوقت يؤكد على اتحادهما ولكن كيف للنفس والجسم اللذان هما جوهران متمايزان ... أن يتبادلا التأثير وأن يكونا مرتبطين بدقة ويؤثر أحدهما على الآخر. الغريب أن يعترف «ديكارت» برسالة موجهة إلى الأميرة إليزابيث بصعوبة تصور هذا الاتحاد. بعد تطور ممارسات التشريح الجسدي والتي حضر ديكارت بنفسه إحدى الجلسات تراجع بعدها قليلاً عن موقفه ليقول أن النفس لا تتحد مع مادة الجسم بل تتحد بوظائفه، وإذ به فجأة يصدر فتوى خطيرة في علم الأعصاب حيث يقرر أن النفس تمارس وظائفها عبر الغدة الصنوبرية في المخ!! لماذا اختار هذه الغدة بالذات؟ وبدون تجارب أو أي إشارة بيولوجية! لا أدري!! تدرب ديكارت في التأمل الثالث على ممارسة التفكير الخالص والتخلص بأسرع ما يمكن من عينيه وأذنيه ومن الجسم بكامله فيقول (سأغمض عيني وسأصم أذني وسأصرف كل حواسي فأنا شيء يفكر) .. ولو أطعنا ديكارت لظهر لدينا كثيرون مثل «جيني» الطفلة الأمريكية البائسة التي تم عزلها 12 سنة بعد الولادة في غرفة منفردة دون أن تستمع إلى أي خطاب بشري، فكانت النتيجة فقدانها القدرة على الكلام ليس ذلك فقط بل وفشل كل الجهود لإعادة تعليمها وذلك لأن شبكة الأعصاب تتوقف عن النمو إذا لم تحرض هذه الاعصاب (بصرية ام سمعية ام جلديه ام كلامية) من قبل المحيط الخارجي. فمقولة الكوجيتو الديكارتية بقيت قضية أكثر من خلافية فـ «فرويد» يجيب أنه لا يفكر أثناء النوم بل يحلم، و»جاك لاكان» المحلل النفسي الفرنسي يجيب مؤيدي ديكارت فيقول: (حيث أن الوعي لا يشكل إلا قطرة من اللاوعي فأنا أفكر حيث لا أوجد وأوجد حيث لا أفكر وأنا لا أوجد حيث أكون لعبة تفكيري بل إنني أوجد حيث أكون لعبة في يدي لاشعوري). رغم أن «سبينوزا» بقي يفكر مثل ديكارت بأن الإنسان يتكون من جسم ونفس إلا أنه لم يجعل من الجسم والنفس جوهرين مختلفين وإنما وضعهما كصفتين في جوهر واحد. أي أنهما تعبيران متمايزان لجوهر واحد فكل ما يجري في الاول يكون له ما يماثله في الآخر أي أن كل ما يحصل في الجسم له ما يطابقه في النفس – حالة مادية ما في المعدة على سبيل المثال يعبر عنها في الفكر بشعور الجوع. الطب الحديث إذا ما عدنا إلى الطب الحديث وراقبنا الرنين المغناطيسي الوظيفي الذي يبين عمل الدماغ في نفس لحظة الفحص التي نجريها فإننا نراقب –كمثال نشاط المركز البصري حين يرى الشخص الذي يخضع للفحص شيئاً ما ونراقب في نفس اللحظة ردود فعل هذا المركز وإشاراته المتعددة تجاه المراكز الهامة الأخرى في المخ، مثلاً إلى القشرة الرمادية في المخ المسؤولة عن الحركة إذا كان ما رآه يحتاج إلى الهروب ثم إشارات أخرى إلى المركز السمعي إذا ما رافقت الرؤية أصوات معينة ليستفسر عن معناها من ذلك المركز، وثالثة لقسم الذاكرة ليحصل على معلومات إضافية لذلك الشيء إذا كان محفوظاً في ذاكرته وهلم جرا. من هذه الفحوصات البحثية تستطيع ان تتصور أن المخ عبارة عن مراكز متعددة جداً ولكل مركز وظيفته الخاصة، ولكل مركز أيضاً أسلاكه التوصيلية الخاصة ومواده الكيميائية الخاصة. هذه المراقبة لا تتناسب مع فرضية «كانط» بالعقل القَبْلي بل توحي لك مباشرة وتعيدك إلى «جون لوك» في مناداته بنظرية الصفحة البيضاء للعقل الإنساني والمتأثر من قبله بـ «آرسطو» و»الإكويني» و»بيكون» حيث يعمل العقل طوال وقته على تعبئة هذه الصفحة كما رأينا في موجات الرنين المغناطيسي. وهناك مثال آخر يوضح لنا ما يؤول إليه المخ في حالات تأثره التكويني فمثلاً إذا ما قطعنا الاتصال جراحياً بين فصي المخ الرئيسيين في مكان معين فإن كل فتحة أنف لكل جهة توصل الرائحة لنفس الجهة من المخ فقط وليس إلى الجهة المقابلة، ولأن مركز التكلم يتواجد في الفص الأيسر فإذا ما شم هذا الشخص مادة النعناع مثلاً من الأنف الأيمن فقط فإنه سيتعرف عليه ولكنه لن يستطيع ذكر اسمه حيث الاتصال مقطوع بين حاسة الشم ومركز التحدث ولن يستطيع ذكر كلمة النعناع إلا إذا نقلت هذه المادة إلى فتحة الأنف الأيسر. هذا الانفصال بين الأيسر والأيمن لا يحدث في السمع والبصر لأن هناك خطوط اتصال متقاطعة ومتعددة. ضمن هذه الشبكات المعلوماتية المتعددة يصعب على الإنسان تصور ما يسمى بالعقل القبلي وإذا ما نظرنا إلى المخ كحراك مادي غاية في الضخامة (مليارات العصبونات المرسلة والمستقبلة للمعلومات) إضافة إلى حراك دموي داخل الشرايين لتغذية هذه الخلايا فإننا نستطيع أن نراقب صراعات المادة ضد المادة فإذا ما انفجر أحد الشرايين في القشرة الرمادية المخية غاب الإنسان عن وعيه وفي حال تأثر مركز النطق بقي الإنسان يفهم ما يحكى له ولكن لا يستطيع التحدث وإذا تضرر مركز التكلم الثاني لن يفهم المريض الأشخاص حوله ولكنه سيتحدث بطلاقة ولكن ليس كلاماً واضحاً مترابطاً بل أحرف غير ذات معنى وأما إذا انفجر شريان آخر في قاع المخ فإن الدم المتدفق سيضغط على مركز القلب ليوقفه عن الحركة.هذا يجبرنا إلى العودة إلى أوائل القرن الثامن عشر حيث أنه في نظري الشخصي قد حصل في ذلك الوقت قمة الصراع الميتافيزيقي المادي بين ممثلي الجهتين «لايبنتس» «لامتري»، حيث تطرف «لايبنتس» حتى وصل إلى نظريته المسماة بـ «المونادولوجي» فاعتبر كل ذرات الجسم هي ذرات روحية أي أنه تجرأ إلى حد روحنة المادة، وعلى العكس منه كان «لامتري» الذي لم يعترف إلا بجوهر المادة وكان يقول إن النفس كلمة باطلة وفي نظره كانت النفس ما هي إلى إشارة إلى العضو الذي يتيح لنا التفكير. وقد أطلق تعبير «الإنسان الآلة» (وليس الجسد الآلة كما أرادها ديكارت) فشيأ كل روح أو «مودها» أي جعلها مادة حتى أن «بليخانوف» قال ذات مرة أن «لامتري» يفزع أكثر الماديين جرأة مع أن «إنجلز» كان أيضاً جريئاً في عصره حين قال ليست المادة نتاجاً للروح بل إن الروح ليست هي ذاتها إلى النتاج الأرقى للمادة. كان «نيتشه» هو الأكثر وضوحاً بعد «لامتري» في انحيازه للجسم معترفاً به كفاعل وليس متلقياً فقط فيقول: الإيمان بالجسم هو الأشد رسوخاً من الإيمان بالنفس. هناك عمل كثير ينتظر الجسد لكنه من الضروري لتسهيل الحكم على ما سبق من آراء أن أذكر لكم بعضاً من نتائج الأبحاث المذهلة للنظام العصبوي في الجسد فالثورة العلمية الدماغية في هذا القرن تشبه الثورة الفلكية قبل أربعمائة عام. الثورة الدماغية العصبونية من المنطقي أن يكون البحث عن النفس في ذات المكان الذي نبحث فيه عن العقل وبديهي أيضاً أن يكون مصدر الأمراض العقلية هو العقل، ولذلك يجدر هنا أن نذكر أنه حتى وقت قصير قبل ابقراط «أبو الطب» كان الإنسان يعتقد أن الأمراض العقلية تحدث نتيجة اضطراب عصارات الإنسان الأربعة المفترض وجودها خيالياً دون العلم أين تفرز هذه العصارات. وكذلك فإن تشخيص الجنون الأول كان يطلق عليه اسم «هيستيريا» وهي الكلمة التي نستخدمها حتى الآن في وصف الإنسان المضطرب عقلياً. والهيستيريا تأتي من كلمة «هيستر» باللغات القديمة ومعناها الرحم، وقد كانوا يظنون أن الرحم يرتفع قليلاً فيسبب الهسترة أو الجنون، وكانوا يعالجونه بأنواع من البخور توضع أمام الأعضاء التناسلية الأنثوية لتجتذب الرحم إلى أسفل أي لإرجاعه إلى مكانه الأصلي. حتى مكان العقل والتعقل لم يكن معروفاً لدى الإنسان وكان استكشاف «أن الدماغ هو مصدر الفكر» بمثابة تقدم بيولوجي كبير في ذلك الوقت، إلا أن الدماغ بقي عضواً هاماً بلا معرفة تفاصيله وجغرافيته ولغاية القرن الماضي حين كان فرويد يتحدث عن «الهذا» و»الأنا» و»الأنا الأعلى» إضافة إلى الأحلام وعقدة «أوديب» كان ينظر إلى الدماغ نظرة وهمية عامة، ولذلك فقد أسقطت الأبحاث والاكتشافات الجديدة لعمل الدماغ وتفاصيل علاقات مراكزه العديدة كثيراُ من مقولات فرويد. وتنحى النموذج التحليلي لصالح النموذج البيولوجي في علاج الأمراض العقلية وكان «كريبلين» هو المنادي الأول ببيولوجية الأمراض العقلية إذ كان يشبه ذلك بالتغيرات الفسيولوجية في أعضاء الجسم الأخرى فكان يقول: أنه كما أن شرايين القلب قد تؤدي إلى الجلطة وإن ضعف عضلات القلب قد تضعفه فإن أي تغيرات في خلايا الدماغ ستكون سبباً في أمراضه. نحن عندما نتحدث هنا عن الأمراض العقلية والتحليل النفسي إنما نتكلم عن النفس التي نحن بصدد دراستها، ولاستيضاح ما إذا كانت مستقلة أو كونها جزءا من الجسم وقبل التعرض لذلك أريد هنا أن أبين أننا اليوم ننظر إلى الدماغ على أنه جهاز عصبوي يتكون من مليارات الخلايا وهذه الخلايا تتصل ببعضها البعض لتكون مراكز متخصصة وهذه المراكز تحتوي على مليارات الأسلاك العصبية المتصلة بعضها ببعض والتي تحتوي على مواد كيميائية موصلة للإشارات العصبية لذلك فإن أي تغيير في صحة هذه المنظومة يؤول إلى خلل في النفس بمعنى آخر إن أغلب التغييرات النفسية تستطيع أن ترجع بها إلى تغييرات فسيولوجية لأنسجة المخ. اي أننا نعود بالضرورة إلى المفكر المذكور سالفاً «لامتري» الذي قال قبل ثلاثمائة سنة تقريباً أن النفس هي المادة. أذكر هنا باختصار شديد بعض التغيرات المادية المعروفة لدينا الآن والتي كانت تشكل على مر العصور في مجموعها أغلب الأمراض التي قد يعاني منها الإنسان في هذا العضو الهام الحاوي على الفكر وهو الدماغ . السفليس عانى منه كثير من عظماء الأدب والفلسفة والفن في أوروبا منهم من لزم عشرات السنين مستشفيات الأمراض العقلية ومنهم من انتحر بسبب المعاناة الكبيرة. كان استيعاب التناقض بين انسان نابغة في لحظة ما لينتهي إلى مجنون في اللحظة اللاحقة صعباً على المجتمع، صعوبة الاستيعاب كانت بسبب النظرة الميتافيزيقية للذكاء والجنون أو النظرة المجردة، لم يعد مستغرباً لدينا اليوم أن حاسوباً قادراً على تزويدنا بثوان ببعد المسافة بين المريخ والزهرة أن ينتهي في اليوم التالي إلى النفايات لأنه لم يعد قادراً على حساب 1+1 وذلك لفهمنا المادي لتكوين الحاسوب ... نفس الفهم المادي هو الذي يحل هذا الاستغراب، فالذكاء أحزمة كثيفة سليمة من الخلايا والاشتباكات العصبية مع تغذية معلوماتية كبيرة تتلف حين تتغلغل فيها تلك التريبونوما البكتيرية التي تدخل إلى الشبكة العصبية وتحطمها. إنه ليس ذكياً بوجه عام وتحول الى مجنون بوجه عام بل ذكي تَلفت خلاياه العصبية لأسباب مختلفة فلم يستطع الاحتفاظ بهذا الذكاء. هذا المرض نفسه يعالج اليوم بحقنة واحدة من البنسلين ليصح المريض خلال أيام معدودة لأن المادة الدوائية تقضي على البكتيريا بدل من ان تقضي البكتيريا على خلاياه العصبية. النسيان أو الخرف ذاكرة الماضي تبقى ... وذاكرة المستقبل تختفي ... كل ما مضى يبقى مسجلاً ... وكل ما هو قادم يحكم عليه بالنسيان بعد عدة دقائق. أحضر شاب إلى قسم جراحة الأعصاب بسبب كثرة التشجنات الكهربائية التي تصيب كل جسده بين حين وآخر وبعد محاولات عدة ويائسة في معالجته قرر الجراح إجراء جراحة لدماغه. أجرى له عملية جراحية واستئصل مركزين للدماغ في الفصين الصدغيين والذي يلقب بفرس البحر، انتهت العملية .... تعافى الرجل .... واختفت التشنجات، لكنه وإن حافظ على ذاكرته القديمة بأكملها إلا أنه فقد القدرة على ان يحافظ في مخزن معلوماته لأي معلومة جديدة. كل الملفات السابقة بقيت سليمة لكن لا ملفات جديدة في دماغه، رزق بحفيد و أخبر بذلك واحتفل مع العائلة وشرب نخبه وبعد ربع ساعة عندما رأى طفلاً في كوفليته سأل عمن يخص هذا المولود الجديد وصار كلما رآه في المنزل سأل عنه واحتفل بقدومه من جديد لم يكن هذا غضباً إلهياً وليس سكنى لأرواح شريرة وإنما بكل بساطة فقدان أرفف خلايا الأرشيف في فرس البحر المستأصل الذي كان من المفروض أن تستخدم لحفظ ذاكرة حدث قدوم هذا الحفيد الجديد. بينما بقيت ذاكرته السابقة للعملية سليمة فالـ backup للأحداث الماضية متوفرة وتعمل على أكمل وجه، عاش بذاكرة الماضي لكن ذاكرة المستقبل اصبح محروماً منها. النوع الآخر من النسيان هو الألزهايمر وكان الطبيب الذي سمي المرض باسمه صديق فرويد وقد اكتشف أن الأعصاب تزداد تلفاً، في بعض المناطق وأن فرس البحر يضمر رويداً رويداً وأن شرائح من البروتينات تلتصق فوق العصبونات. إنه نسيان يلغي الأنا .... فمن لم يعد يعرف ما كان يعرفه من قبل لا يعود هو هو. إنه انتهاء الأنا التي كانها قبل أن تهتك أعصاب دماغه الحاملة لتلك الأنا، ينسى أبويه ... ينسى أولاده... وينسى بعض الأفعال ومعنى الكلمات، ليس هذا فقط فاثناء دراستي الطب كنت كطالب طب أعمل في إحدى أقسام الأمراض النفسية وكنت أطعم مرضى الزهايمر بالمعلقة كالأطفال ... كانت إحداهن تنسى أن تمضغ وكان علي أن أذكرها بين الحين والحين ... نسيت حتى إحدى اهم غرائزها وهي غريزة البقاء! فالغريزة إذن هي أنسجة جسمانية يصعب نكرانها أو محاربتها. معرفتك أو عدم معرفتك لدينك، لابنك، لمحيطك هي مجموعة أنشطة كهربائية في جمجمتك .. هل تعمل أو لا تعمل هذه الأسلاك الكهربائية؟ هذا هو السؤال «وليس كما قال شكسبير تكون أو لا تكون هذا السؤال». مأساة «ديوجين الكلبي» مأساة «ديوجين الكلبي» وكل الديوجينات من بعده ذلك ديوجين الذي كان يستنمي في ساحات أثينا أمام الجميع ويؤكد أن ما يحتاجه الإنسان او ما يحتاجه الجسد يجب أن يحصل عليه مثل المأكل والمشرب ولا شك أنه حسب فلسفة سقراط فلا بد ان نفس ديوجين قد تلوثت بجسده ولن تجد هذه النفس بداً من أن تتعذب وكذلك فإن ديوجينات القرون اللاحقة ستعاقب لأنها أظهرت عورتها أمام الناس. أما ديوجينات اليوم فقد تبين في الدراسات العصبية أنها تعاني من تلف في خلايا الفص الأمامي للقشرة الرمادية المخية تسبب لامبالاة لصاحب هذا الدماغ ومنها لامبالاة الاستنماء في الأماكن العامة وبذلك تكون شبكة أعصابه هي المذنبة ولا أحد غيرها. صنعت المادة الدوائية التي تعالج المادة التالفة ليعود ديوجين ويخضع للأنا الأعلى وليستنمي بسعادة في غرفة نومه هارباً من عذابات المجتمع وعذابات الآخرة. المثال الأخير بقي في مستشفى الأمراض العقلية عدة سنوات كان عنيفاً ... كان ذلك في القرن التاسع عشر ..... كان يوصل إليه الأكل عبر القضبان ... ربط بالقضبان .... ولما لم ينفع ذلك ربط من جديد على امتداد كتفيه بقضيب حديدي سميك جداً جعله لا يستطيع الدوران أثناء النوم إلى أي من جانبيه فنام أربعة عشر عاما ً على ظهره وكل ذلك بسبب الشيطان الذي يسكنه والأرواح الشريرة التي لم تفارقه طيلة هذه السنوات. تبين بعد مئات السنين أن الشيطان ما هو الا مادة الدوبامين الزائدة الهاجمة على نهايات اعصاب المخ لتهيج الوصلات العصبية والتي تتقاطع أكثر مما تتحمل الناقلات العصبية فتشوش الدماغ وتخرجه عن طوره فتنشأ الهلوسة والتنميل وسماع الأصوات غير الموجودة لتقي بعض الجرامات من المادة المضادة للدوبامين من الربط بالسلاسل الحديدية التي عذبت آلاف الناس على مدى قرون طويلة. نفس المبدأ نراه في كتاب مجدي ممدوح في باب الفرويدية حيث احتجت امرأة على طبيبها الذي واصل لفترة طويلة جلسات فرويد التحليلية غير الناجحة، وحجب عنها دواء Antidepressant والتي كانت ستشفى منه بهذا الدواء بغضون اسابيع. فالنظرة المجردة للمخ الوهمي، قد ولى زمانها وتبين أن الدماغ شبكة عصبية لمليارات الخلايا والعصبونات تتوزع على مراكز متخصصة وترتبط بواسطة مواد كيميائية وتوصل رسائلها بدوائر كهربائية. أنها الثورة الدماغية التي انطلقت في النصف الثاني من القرن الماضي ليكون القرن الحالي هو قرن الجسد عامة والدماغ خاصة حتى أن المثقف الأوروبي الذي يريد استعراض ثقافته اليوم عليه أن لا ينسى أن يستخدم أسماء مراكز المخ بدلاً من «الهذا» و»الأنا» و»الأنا الأعلى» التي سادت في التشبيح الثقافي في أوائل القرن الماضي. هذا يذكرني بقول توما الاكويني أن للإنسان على الجسد حق الانتفاع فقط. فماذا لو كان هذا الجسد الزهايمري غير صالح للاستعمال؟ فهل يحق له استبداله بجسد آخر يا ترى؟ محاولة العودة إلى ميتافيزيقيا الجسد بعد تحطم الأسطورة الثنائية نتيجة الثورة العصبوية في المجتمعات المتقدمة يحاول الميتافيزيقيون في تلك المجتمعات الهروب من تلك الثنائية إلى ما يطلقون عليه الثلاثية الجديدة وهي تركيبة تتكون من الجسم الطبيعي للجسد بالإضافة للتداخلات الاصطناعية فيه وثالثاً النفس، وقد أطلقت «دونا هواري» على التزاوج بين الجسم الطبيعي والمواد المصنعة (الأطراف الصناعية، اللوالب، شبكات القلب ...ألخ) اسم cyborg واعتبرت أن ثلاثية الجسد الجديد هو بمثابة إعادة كتابة النص الجديد للجسد والذي تحدث عنه «فوكو» والذي لم يرَ فيه الجسم إلا نصاً كتبته الثقافة، ثم انتقل آخرون من الثلاثية إلى الرباعية حيث أضافوا الفضاء الرقمي إلى النفس cyberspace وقد ترجمها بعض الكتاب العرب بـ «السبرائية»، فالسبرائية تكون روح رقمية جديدة ثم يلغى معها الجسد اعتباطاً كما يحصل بالـ chatting، فأنت لا ترى جسد الآخر ولا تسمعه ولا تلمسه ولا تتابع انطباعات وجهه، وبذلك وحسب رأيهم فإنك تتعامل مع روح بلا جسد. وقد أنتجت عدة افلام أخذتنا إلى اللامعقول ففي رسوم متحركة أمريكية يقول البطل (كم أحب نسيان لحمي)، وفي أفلام «كروننبيرغ» حيث تسمع صوت قادم من خلف الصورة (أنا هنا يا ماكس لأقودك ... لا تخف من ترك جسدك يموت)، وكذلك في بعض الروايات الجديدة مثل رواية «نيورومنسيان» وهي الرواية التي طرحت للبحث في كثير من الجامعات الأمريكية، يطرح «جيبسون» الفضاء الرقمي ليقول (لم يعد الجسم يحتل إي مكان). كل هذه محاولات للقضاء على الجسد والهروب إلى الروح السبرائية وكلها غيبيات لن تدوم طويلاً. أما الميتافيزيقيا الأخرى فليست ميتافيزيقيا النفس بل هي ميتافيزيقا عبر كمال الجسد. يختلط نتائج التطور العلمي وإثباتات المصدر المادي للنفس مع أولئك الذين يغالون ليتحدثوا عن الجسد الكامل وبمنطق الجسد المعجزة. يعتبر هؤلاء بالمحصلة النهائية غيبيون ويتطلب منا لنقدهم دراسة جدية في الجسد وفسيولوجيته أي آداء وظائفه باتقان فالجسد وإن كان صانع النفس إلا أنه ليس بالضرورة كامل الإتقان. إن الجسم مكون من عدة أعضاء ولكل عضو وظيفة محدودة إلا أنه قد يقوم العضو الواحد بوظيفتين في آن واحد وإليكم مثالاً لذلك. على امتداد التاريخ والإنسان يحاول أن يلغي وظيفة الإنجاب في الأعضاء التناسلية في أوقات معينة واقتصارها لتمارس الوظيفة الأخرى وهي الجنس واستخدمت كثيراً من المواد لكل من الذكر والأنثى لهذا الهدف ولكن دون الوصول إلى نتائج حاسمة! وفي الستينات انتفضت الثورة العلمية الهرمونية واستطاعت صناعة حبوب منع الحمل أن تلغي في لحظة ما وظيفة الأعضاء التناسلية الإنجابية لتستمتع بالوظيفة الأخرى وهي الوظيفة الجنسية. وأصبح لدينا جنس بلا حبل وبعد حوالي عشرين عاماً أنجزت الثورة المكملة لنفس العضو فأصبح بالإمكان استخدام نفس العضو بالإنجاب بدون ممارسة الجنس إنها طريقة أطفال الأنابيب . فهل هذا التقدم الطبي بريء؟؟ أم أنه استخدام لـلـ»cyborg» لتنظيم فوضى وظائف الأعضاء الجسدية التي قد لا يكون الجسد بدونها قادراً على الحصول على شهادة الآيزو البشرية
. |
|