من باب الجمع ما بين النافع والممتع، وعملاً بأصول الترفيه والتنويع، مشينا إلى الحمّام في خطىً متعجلة "كُتبت علينا"، يقودنا مستعربٌ فرنسي هو الزميل جان بيار باسكوال المتخصّص في حمّامات دمشق وحماة وحلب، وعاشق دمشق، والذي تبيّن لنا أنه الأدرى بشعابها من أهلها.
وما لفتنا ونحن نقترب صعوداً ووقع أقدامنا يتردّد على الأحجار البازلتية السوداء في ليل دمشق الدامس، أننا اخترقنا حيّ "عفيف" المحاذي لحيّ "جسر الأبيض" والمجاورين لِـ"سوق الجمعة"، وبتنا في زقاق الشيخ عبد الغني النابلسي، وعلى قاب قوسين أو أدنى من موقع الحمّام المنشود.
للنابلسي مع بلادنا وحمّاماتها قصةٌ تُروى. فقد حَلّ هذا الشيخ البطوطيّ في ديارنا في العام 1700، وكتب بعدها مؤلَّفه المشهور "التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية".
وهو ثمرة رحلة عُرفت بِـ"الرحلة الصغرى" التي قام بها انطلاقاً من دمشق متوجِّهاً إلى فلسطين مروراً بلبنان، وعكست كتابته روح العصر في بلاد الشام.
ودوّن الرحّالة النابلسي في رحلته عدد الخانات والحمّامات التي زارها في كل من طرابلس وبيروت.
وتوقف في أربعة حمّامات في مدينة بيروت:
حمّام الأمير فخر الدين بن معن، حمّام القيشاني، حمّام الأوزاعي، والرابع قديم لا يُعرف له اسم.
وأشار إلى أنها كلها مهجورة ما عدا حمّام فخر الدين.
تذكّرك دمشق القديمة - وأنت تعبر على عجلٍ، وفق الايقاع الاستشراقي الفرنسي، أزقتها الحجرية الضيقة ذات اللون الرمادي الداكن، وبرفقة زملاء أجانب مأخوذين بجماليات المدينة - تذكرك أنَّ التاريخ لا يزال يسكن شاخصاً هنا في خفر جنباتها، وحاضراً في تفاصيل عماراتها، ويفوح عبقه من الكوى والمشربيات والشرفات والسطوح. والتاريخ هذا يساكن البشر ايضاً.
فأهل المهن والنحل يزاولون برهافةِ حسٍ وأناقةِ ملمسٍ صنائع تقليدية عمرها مئات السنين، توارثوها عن الأسلاف، فأجادوها وجوّدوها، ولا تزال محالهم ترصّع أزقة الشام وحاراتها وأسوقها العتيقة.
أتت زيارة الحمّام، إذاً لتتوج، حصادَ أيامِ عمل ثلاثة أُشبعنا خلالها سرداً ونقاشاً وإحصاءات ومعلومات مغرقة في تفاصيلها، عن تقنيات تشييد الحمّامات ووظائفها وأدوارها المتقلبة وفق العهود، ناهيك عن أقسامها
(من برّاني إلى وسطاني فجوّاني) والعاملين فيها وطقوس الإمتاع والمؤانسة المواكبة لعمليات الاستحمام والتمسيد أو "الفضفضة" كما يقال في صنعاء.
ها نحن على عتبة الحمّام يستقبلنا صبيه أو "التبع"، وهي تحريف لمصطلح "التابع"، ويقولون له "شاقي الحمّام" كما أعلمنا زميلنا اليمني يحيى العُباني. يُسرّ الصبي لمرآنا ويخطرنا على الفور أنّ رسم الدخول هو 300 ليرة سورية للفرد.
ونكتشف لاحقاً أنه لا يتضمّن رسوم "التكييس والتدليك".
وحينما نزلنا درجات ثلاثاً وبتنا في قلب المعمعة، وهي في رطانتهم قاعة "البرّاني" الفسيحة التي تستقبل الزائر، وجدنا في مواجهتنا صاحب الحمّام أو "المعلم" الذي استقبلنا مرحباً باشّاً بابتسامة عريضة.
كان جالساً في موقع يتيح له مراقبة الداخلين والخارجين.
سلّمنا المعلم أكياساً بلاستيكية صغيرة، وطلب منّا إفراغ ما في جيوبنا لإيداعها في أدراج صغيرة على سبيل الأمانة.
بعد المرور بكل من الصبي والمعلم، تسلمنا الناطور أو الأسطى، فاشار إلى مشاجب معلقة فوق دكات الجلسة العربية التي تتخذ شكل زاوية مستقيمة إلى جهة اليسار من مدخل الحمّام،أعلمنا بمراحل الاستحمام أو بطقوسه المعهودة.
بعد همهمات وهمسات اكتشفنا أن لا مكان لخلوة في هذا الفضاء الرحب والمفتوح على مصراعيه! فالمشلح أو المسلخ أو المخلع، هو الملاذ لا بل محطة العبورالوحيدة! تخلصنا من ملابسنا ،واستبدلناها بفوط سحبها الأسطى من خزانة المناشف.
وللفوط أو المناشف الشامية في وظائفها مذاهب. فهي تسمى مجتمعة "التعقيبة". وتبيّن لاحقاً أنّ لكلٍ منشفة اسمها الخاص.
فالفوطة التي يلف بها الأسطى بخفة جسم الزبون بعد الاستحمام تدعى "الماويّة". والفوطتان اللتان توضعان على كتفيه وخصره تدعيان "الظهرية"، على ما يرد لدى منير كيال في كتابه "الحمّامات الدمشقية"، وكما تسنّى لنا أن نعاين ميدانياً الطقس السابق للاستحمام والممهِّد للدخول إلى الجوّاني.
يساعدنا الناطور في إحكام الفوط الملوّنة حول وسطنا.
ومن ثمّ يوزع على كلّ منّا ليفة و"ميني" صابونة خضراء اللون، وطاسة بلاستيكية، تايوانية المنشأ، والله أعلم.
طاسةٌ أين منها الجنطاس المعدني المنمّق الذي سمعنا به، ورأينا صوره في كتب الأقدمين. الصديق المصور نبيل إسماعيل التقط صوراً جملية لها في "مصبنة عودة" بصيدا عرضناها في المؤتمر.
التكييس والتلييف والتمسيد
ندلف من البرّاني إلى الجوّاني، مروراً بِـ"الوسطاني".
أجساد بيضاء وأخرى سمراء، ورؤوس "أينعت" وحان ميقات غسلها، واحتفظ أغلبها بشقار الشعر وبسواده، وأخرى اشتعل فيها الشيب. وانتهى بنا المطاف إلى قاعة مستطيلة دافئة، تعبق بصراخ الرّواد وتذكّرك بتعبير "حمّام مقطوعة ميّته". يقتعد المستحمون الأرض، والأصح البلاط.
كل اثنين يتّخذان موقعهما إلى جانبي الجرن الحجري، ويصبّان المياه الساخنة المنهمرة من صنبور للماء الساخن تُعدّل حرارته من صنبور للماء البارد. على المستحمّ الانتباه إلى ضبط درجة حرارة المياه وهو منهمك في صبّ الماء على جسده ورأسه لإزالة الصابون بعد التلييف، وهو مقتعد الأرض، وذاهب في أصول "اللعبة" إلى آخرها، غافلاً عمّا كتبه أو حاضر عنه، في الأيام الخوالي، عن الحمّامات وما إليها.
لست أدري لماذا تذكّرت هنا عنوان فيلم سينمائي مصري "حمّام الملاطيلي"!! ولا أعلم ما هي الصلة بين أحداثه وما يمرّ بي وبزملائي. وبما أنني دخلت أولاً، وأتكلّم لغة أهل البلاد، لا بل من أصحاب المهنة، بتّ مرجعاً للزملاء الانتربولوجيين الذين صاروا يقلدونني في تناسق الحركات وتتابعها، أو يسألونني "ما العمل بعد ذلك؟".
بعد الاغتسال والتلييف بالصابون ثمّ الغسل بالماء، دخلنا غرفة صغيرة للبخار، حيث تحضّرنا لمنزلة التكييس اللاحقة. جلسنا على مصطبة بيت النار حتى نعرق وتتحلل مفرزات أجسادنا في انتظار أن ننال قسطنا من "التكييس" الذي يفترض أن يزيل "فتايل" عن أجسادنا.
وتبيّن لنا لاحقاً لدى خضوعنا للمكيّس "أبو النور"، أنها مجرّد "فتايل" بالقوة وليست بالفعل. فجلّ ما خرجنا به من عملية التكييس، التي لم تتمّ على أرائك بالطبع بل على بلاط الحمّام الساخن، هو أننا خضعنا لعملية فرك أو تكييس بواسطة "كيس التفريك" أراحت مفاصلنا وعضلات أجسادنا، وأرهقت إلى حين أضلاعنا، وحضّرتنا للخطوة التالية، أي التمسيد عند المعلم "أبو علي". ونذكر هنا أن "أبو النور" لم ينبس ببنت شفة خلال "نوبته". لكنه في الختام أصرّ على تعريفنا بنفسه وبطبيعة عمله، مشيراً إلى أنه الوحيد الذي يقوم بهذه المهمة. وكان علينا أن نفهم مغزى هذه الرسالة.
وتحت وطأة التكييس، وأنا ممدَّد، "على طولي"، على بلاط الحمّام، استعدت مثلين شعبيين كنت قد ذكرتهما خلال مداخلتي.
الأول هو "صدِرك بلاطة حمّام"، على ما كان يقال للعروس تيمّناً بنظافتها وتألقها.
أما الثاني، فيمني المنبت"، وهو "ما في الحمّام إلا الكيس"، أي مَنْ لم يعرف نعمة التكييس، لم يفد من دخوله الحمّام شيئاً.
فحمدت ربي على أنني والزملاء مررنا بهذه التجربة، ولم نخرج بخفّي حنين.
يستقبلنا المدلِّك أبو علي، في غرفته المستقلة، فيمددنا على أريكة جلدية، ويبدأ بالتمسيد مستفسراً عن جنسيتي، والمدينة التي أنتمي إليها، والحيّ الذي اقطنه.
انها أسئلة استدراجيّة "على الطريقة اللبنانية"، ونعرف نحن "أصحاب البير وغطاه" خباياها ومفاعيلها. ويهدأ بالينا، المدلِّك والمدلَّك، عندما يعلم أنني من رأس بيروت. فيخبرني أنه عمل مدلكاً في "حمّام النزهة" لمدة تفوق العشرين عاماً .
وقبل الوداع طقّ لي رقبتي بمهارة لافتة، فتحسستها وأنا أستعيد توازني. لم ينس أن يذكرني باسمه "مصطفى" وبكنيته، كي لا يفوتنا أن نترك له "الوفا" أو "البخشيش" قبل مغادرتنا.
اسعفتني ذاكرتي، فعاجلته، بالمثل الشامي الذي سمعته يوماً "الشكلة بعد الحمّام"، أي أن الحلوان يأتي بعد الخروج من الحمّام وليس قبله.
طقس الخروج
بعد الانتهاء من هذه الطقوس يهرع الريّس إلينا مردداً عبارات التبريك (نعيماً)، ويعقب عليها الزميل المصري، سامي عبد الملك، بالقول إنهم في "بلدياتهم" يقولون "حمّام العافية".
نجفّف أجسامنا على إيقاعات "النعيم" الشامي و"العافية" المصرية بمناشف ملونة، يساعدنا في ذلك الناطور.
ثمّ نتناول أخرى لوضعها على الوسط (الماوية) والظهر (الظهرية) والرأس (الرأسية)، متجهين إلى قاعة البرّاني حيث نقتعد المصطبات (الدكات) في انتظار الشراب الساخن (الزهورات).
وبعد الرشفات الأولى، تبدأ التعليقات والقفشات تندّ من علماء الأنتربولوجيا الذين باتوا متشابهين في حلة الاستحمام، لا بل متساوين في (عري الضرورة) كأسنان مشط العظم الذي سمعنا به باعتباره من "عدّة الاستحمام"، ولم نرَ له أثراً في حمّام المقدّم، فترحّمنا على زمن مضى بأدواته وتعابيره وتقاليده.
ها نحن نقتعد المصطبة الأساسية المنجّدة والمفروشة بالسجاد، متدثّرين بمناشف ملونة من الرأس حتى أخمص القدمين. التقطت لنا صور فوتوغرافية لم نكن متأكدين من قدرتنا على تبيان أشخاصنا فيها نظراً لتوحّد المناشف الملونة التي زيّنت رؤوسنا وأجسادنا وأحالتنا مجرّد كومبارس في مسلسل تلفزيوني.
تتعالى القهقهات والتعليقات والتشبيهات ونتمعن في الحضور فنلاحظ أن البشرة البيضاء لزملائنا الأوروبيين زادت نصاعةً، وتلك السمراء العائدة لزميلنا اليمني احتفظت بسمرتها الداكنة. وكنا نحن اللبنانيين الأربعة بين بين، كعادتنا، وحقّ فينا المثل الشعبي الذي استحضرته صباحاً "مكتوب على باب الحمّام لا الأبيض يبيضّ ولا الأسمر يسمرّ".
هدأنا بالاً بعدما أنجزنا هذا العمل التطبيقي على ما يرام، وشربنا الزهورات وأخذنا قسطنا من الراحة، ثمّ تدبّرنا أمر خلع المناشف وارتداء الحلل الرسمية ودفعنا المتوجب علينا (500 ل.س.) للفرد الواحد، أجرة استحمام.
صحيح أن "فوتة الحمّام مش متل طلعته"، وفق ما يقال، لكنّنا في المحصّلة حقّقنا أمنيتنا. بيد أننا لم نخرج من الحمّام مبكّرين كي لا ينطبق علينا المثل الشعبي السوري المعتبر من أمثال النساء: "يللي جوزها ظالم بتطلع من الحمّام بكّير".
فللحقيقة لم ينلنا ظلم أو نقصٌ أو حيفٌ، لا في مغامرتنا الحمّامية الليلية، ولا في طوال إقامتنا الشامية في حمى مضيفينا الفرنسيين وفي مقدمهم السفير الذي أبدى لياقة ديبلوماسية، وكياسة ملحوظة وعبّر عن حبه للبنان وتقديره اللبنانيين.