الأدلة العقلية للقراَن الكريم في إثبات الخلق والتوحيد والبعث .أ د/مصطفى عبد المنعم
الأستاذ بكلية الطب – جامعة طيبة المدينة المنورة
لا شك أنه قد بذلت جهود حثيثة على مدار التاريخ الإسلامي في الرد على أهل الكتاب وإثبات فساد عقيدتهم والتحريف الذي في كتبهم ،كان منها جهود العلامة ابن حزم في كتابه الرائع (الفصل في الملل والنحل) وكتاب العلامة رحمة الله هندي (إظهار الحق) وكتاب العلامة الشيخ أبو زهرة (محاضرات في النصرانية) ثم الجهود المباركة التي أحياها الشيخ أحمد ديدات ومن بعده خليفته الرائع الدكتور ذاكر نايك والذي هو ظاهرة فذة قلما تتكرر في الزمان ومع ذلك فيكاد يكون غير معروف في العالم العربي المسلم.
هذا غيض من فيض من جهود المسلمين الحثيثة في مخاطبة وجدال أهل الكتاب كما أمر الله تعالى:
(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت/46)
ولكن في المقابل لا نجد هناك جهوداً مشابهة قد توجهت لخطاب الكفار من الملحدين الذين ينكرون الخلق والبعث والحساب واللأدريين الذين يشكون في الأمر ولا يوجد لديهم.. حسب زعمهم.. دليل يحسم مسألة الإيمان والكفر. ولعل السبب في ذلك أن بعض المسلمين قد ظنوا أن هذا النوع من الكفر كان ممثلاً في كفار قريش ولم يعد له وجود في هذا الزمان.. ولكن الحقيقة أنهم مازالوا موجودين بل يقدر عددهم.. ويا للعجب.. بنحو نصف سكان الأرض.. بعضهم ملحدين (Atheists) وبعضهم شاكين أو لا أدريين (Agnostics) والتقدير المتداول لعددهم في دولة مثل الولايات المتحدة يبلغ نحو 10% من السكان علماً بأن بعض من ينتسبون بحسب ولادتهم إلا عائلات مسيحية أو يهودية هم في الحقيقة من أحد هذين النوعين وهم لا يخجلون من ذكر عقيدتهم إذا سئلوا عنها إعمالاً لحرية الفكر والعقيدة التي نشئوا عليها كما يزعمون. والدارس للشبهات الواهية لكلتا الطائفتين (الملحدين واللأدريين) يجد أن هناك ملاحظات تتعلق بعقيدتهم والجدال معهم نذكرها فيما يأتي:
1- أنه لا فرق بين الشبهات التي أثاروها والشبهات التي كان يثيرها كفار مكة.
2- أنهم ليس لهم كتاب لتوضح لهم فساده ولا يؤمنون بكتابك لتستدل عليهم به. فليس هناك بديل عن محاججتهم بالأدلة العقلية.
3- أن القراَن الكريم قد ذكر عموم حججهم مع الرد العقلي عليها فهو خير معين على جدالهم بالأدلة الدامغة.
ولا شك أن العقيدة السليمة هي أساس الدين. و أن اعتماد القراَن الكريم للأدلة العقلية في محاججتهم وعدم اكتفائه بتقرير الحق والإعراض عما هم عليه من الباطل لهو منهج جدير بالدراسة واستخلاص العبر والدروس. ونورد هنا الأدلة العقلية التي ساقها القراَن الكريم للرد على ثلاثة مسائل هي في الحقيقة جوهر العقيدة ألا وهي مسائل الخلق والوحدانية والبعث. ونورد فيه المباحث الآتية:
أولاً: أدلة الخلق
ينكر الملحدين أن هناك خالقاً قد خلقهم، ويتوقف اللأدريين في المسألة ويدعون أن الأمر محتمل ولكن لايوجد دليل يحسم المسألة، والله تعالى يرد على هؤلاء وأولئك بقوله تعالى في اَية جامعة معجزة:
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور/35-36)
ثلاث حجج عقلية يواجه بها القراَن الكريم كلتا الطائفتين فيخيرهم بينها جميعا :
1- هل خُلقتم من لا شيء، وهل يمكن إعطاء مثال على شيء في الوجود وجد من لا شيء. إن هذا أصلاً بخلاف قوانين الكون التي نحيا عليه.
2- هل أنتم خالقون لأنفسكم.
3- هل أنتم الذين خلقتم السموات والأرض.
إن العقل السليم لا يستطيع بحال أن يجيب بإجابة تخالف النفي (لا) على الأسئلة الثلاثة. فإن لم تكن خُلقت من لا شيء، ولا أنت الذي خلقت نفسك، ولا أنت الذي خلق السموات والأرض، فإن هناك خالقاً لهذا الكون، أظهر لنا في جميل صنعته كمال قدرته، وخلق الكون على بناءٍ واحد ليقر بوحدانيته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لنعرفه بأسمائه وصفاته، وتودد إلينا وهو الغني عنا، وأخبرنا بفرحه بنا إن عصينا فتبنا فأنبنا، فهل نرغب عن هذا الرب الخالق البارئ المصور ونحيا في أوهام الخيالات لنصحو على الحسرة والندم.
ثانياً: أدلة وحدانية الله تعالى
إن الخالق الكريم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد قد رد في كتابه العظيم رداً حاسماً ينير العقول ويأخذ بالألباب على من أدعى أن هناك آلهة غير الله تعالى لها في الكون نصيب وفي تدبيره منزلة، وذلك من وجهين:
الأول: أن من يدعي ذلك عليه أن يأتي بالدليل، وهيهات قال تعالى:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا) (فاطر/40)
فهي دعوى بلا برهان، وطلب البرهان من المخالف هي قاعدة قرآنية مضطردة يجب إتباعها مع أصحاب الدعاوى.
والثاني: هو دعوة أصحاب العقول السليمة إلى تصور نتيجة هذا الزعم الفاسد:
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ )(الأنبياء/22)
ولك أن تقلب الأمر على كل وجه في هذا الكون لترى ببصيرتك صور هذا الفساد لو ادعينا جدلاً حدوث هذا الفرض المستحيل.
والجميل، أنه كلما تقدم الإنسان في العلم، ظهرت دلائل جديدة للوحدانية، وكأن لهذه الصفة الجليلة طابعاً يطبع كل ذرات الكون وكل خلايا المخلوقات الحية بخاتم التوحيد. ألسنا نرى الوحدانية في قوانين علوم الحياة سواء في قوانين الخلية أو قوانين المادة الوراثية كذلك في قوانين الفيزياء من الذرة إلى المجرة.
ففي قوانين علم الحياة: بنيت جميع الكائنات الحية على قاعدة الخلية وبنيت جميع المادة الوراثية من أربعة أحرف حتى بات العلماء ينقلون الجينات من نبات إلى آخر أو حتى من نبات إلى حيوان؟ وما ذلك إلا لأن الخالق واحد.
وفي قوانين الفيزياء: كل ذرات الكون قد بنيت على نسق واحد. من أبسط الذرات التي يدور فيها إليكترون واحد حول بروتون واحد إلى أثقل الذرات المعروفة وكل قوانين الفيزياء ثابتة على امتداد الكون حتى بات من الممكن حساب كل مسألة في الكون بنفس القوانين.
ويزداد الأمر وضوحاً حين يضرب الله تعالى المثل (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الزمر/29)
ماذا لو كان إله الشمس غير إله الأرض، وحاشا لله، فأقام لها قوانين لا نفهمها أو بدل اليوم لها قانون غير قانون الأمس، ألم تكن الحياة على الأرض لتضطرب ثم تنعدم، وهل يترك خالق الأرض خالق الشمس يعبث بأهل الأرض أم يتقاتل الجبابرة فيهلك الخلق مثل خرافات وأساطير آلهة اليونان في القديم. وكيف كان لخالق الأرض أن يقول في كتابه لأهل الأرض (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (الرحمن/5) إن لم يكن له الخلق والأمر وليس معه في الكون شريك ولا نصير. ولذلك فقد نفى الله تعالى كل شبهه في هذه الآية المعجزة:
رب الأرض يطالب بعبادتك له بحق أنه خلقك ورزقك وسخر لك ما في الأرض جميعاً، ورب الشمس يطلب منك عبادته أكثر من رب الأرض لأنه لو حرمك ضوء الشمس لهلكت. أرأيت نعمة التوحيد ونعمة أن الله واحد لا شريك له في خلقه ولا في ملكه (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(العنكبوت/63)
إن الأمر في ذاته مع أنه دليل على الوحدانية فإنه نعمة تستحق الشكر، لأن الله تعالى ليس له ولد ولا شريك ولا ولي من الذل، وأنظر إلى هذا القيد المبهر (من الذل) ليخرج منه أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يحبهم ويحبونه، أّذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. أليس هذا الإله بمستحق للتفرد بالعبادة والتودد بالحب.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) (الإسراء/111)
وقد تكررت آيات القراَن الكريم التي تقرر الوحدانية في النفوس وتنزع أدني شبهة قد تطرأ على ذهن أحد من البشر بدلالة تفرد الله تعالى بالخلق والأمر وعدم إدعاء أحد أنه خلق في هذا الكون شيئاً:
فقد رد الله تعالى علي كل من ادعي وجود الشريك بما لا يستطيعون له جواباً ويستحقون علي فعله عقاباً، قال تعالى:
فنعتهم بالظلم ووصف حالهم بأنهم ليس لهم برهان ولا دليل على ما يفترون.
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد/16)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف/4)
(إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) (النجم/23)
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) (المؤمنون/117)
ثالثا:أدلة البعث في القراَن الكريم
لا شك أن التكذيب بالبعث كان من أكثر الشبهات لدى الكافرين ومن أشد العقبات التي واجهها الرسول صل الله عليه وسلم في بداية الدعوة الإسلامية.. وكان للكفار مواقف متباينة من هذا الأمر العظيم حالت بينهم وبين الإسلام، ولهذا فقد أطال القراَن الكريم في الرد عليهم وإثبات حتمية القيامة.. وقد تنوعت أساليب القراَن الكريم لإقامة الحجة على المخالفين.. فإذا استحضرنا ما سبق ذكره من أن أكثر من نصف سكان الأرض الآن لا يؤمنون ببعث ولا حساب، علمنا مدى أهمية دراسة منهج القراَن الكريم في إثبات حتمية البعث ومحاولة تدبر هذه الآيات الكريمة لنقيم عليهم الحجة، ولعل الله تعالى أن يهدي بنا رجلاً واحداً فنفوز في الدنيا والآخرة. ولأن القراَن الكريم قد أطال في بيان هذه المسألة، فسنتناولها بشيء من التفصيل، وسنبدأ بإذن الله ببيان موقف الكفار من قضية البعث وأسبابه ثم نوضح الدلائل التي ساقها القراَن الكريم لحسم هذه القضية من الناحية العقلية.
أولاً: مواقف الكافرين من البعث منذ زمن التنزيل :
موقف الكافرين من البعث كان دائما هو الإنكار والتعجب والتكذيب.
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد) (ق / 1- 3).
ثانياً: أسباب موقف الكافرين
أسباب ذلك الموقف فقد عددها القراَن الكريم.
1- الشهوة وحب التنعم بملذات الدنيا بلا رقيب ولا حسيب:
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (الأنعام/29)
(إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون/ 37)
(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ).(الجاثية/24)
كانت الشهوة وحب التنعم بملذات الدنيا بلا رقيب ولا حسيب هي قائدهم في هذا الاعتقاد الفاسد... فالقيامة معناها الحساب على أعمال الدنيا والتقيد بالقوانين التي سيضعها من سيحاسبك، وهم قطعا لا يحبون من ذلك شيء. ولذلك فالله تعالى الذي خلق الإنسان وركب فيه الشهوة لم يحرمه منها بإطلاق وإنما هداه لما يصلح هذه الشهوة لما ينفعه في الدنيا والآخرة وربط ذلك بعبادة الله تعالى قال سبحانه:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (الأعراف/32) فنبه الله تعالى الكافرين أن إيمانهم لا يحرمهم من التمتع بالدنيا بل هو الذي سيضع لهم القوانين التي تجعلهم يتمتعون بها من غير ضرر في الدنيا ثم في الآخرة نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الأنهار وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
2- الشك:
(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) (الجاثية/ 32).
إن أمور العقيدة لا تبنى إلا على يقين.. وادعاؤهم (الشك) في أمر يقيني لم يكن ليغني عنهم شيئاً.
ويرد الله تعالى عليهم بدعوة للتأمل في ملكوت السموات والأرض ليحدث اليقين بطلاقة قدرة الله تعالى في الخلق والبعث، قال تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) (إبراهيم/10)
3- الإعراض عن دلائل قدرة الله المطلقة في الكون وأنه على كل شيء قدير:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (يس/78)
أي من يستطيع ذلك، إعراضاً منهم عن دلائل قدرة الله تعالى، وقياسهم قوة الله على قوتهم بجهلهم وعدم إذعانهم لحقائق الكون. وقد عرض الله تعالى في الآية سبب هذا الزعم الفاسد وهو عدم التفاتهم إلى عظيم صنعة الله في خلقه لهم (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) وهذا النسيان إنما هو إعراضاً منهم عن تلك القدرة في الخلق التي تدحض شبهتهم في قدرة الله تعالى على إعادتهم وبعثهم بعد الموت.
وقد عرض القراَن الكريم شبهة جهلهم بقدرة الله في موضع اَخر لافتاً نظرهم إلى قدرة الله الظاهرة في الكون والتي تدل على طلاقة قدرته القاهرة والقادرة على بعثهم بعد الموت، قال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (سبأ / 7- 9).
إن هذا الخلق العظيم يحمل دلالة طلاقة قدرة الله تعالى الذي لا يعجزه شيئ في الأرض ولا في السماء.
بل هون الله عليهم الأمر فقال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (غافر/ 57) فكيف نشاهد الآيات العظيمة في هذا الكون المشاهد، والذي تتجلى لنا في كل يوم في زمن العلم المزيد من دلائل عظمة خلقه، ثم نشك في آية أقل منها وهي الخلق أو البعث.
4- التقليد الأعمى للأمم الكافرة التي سبقتهم:
قال تعالى: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (المؤمنون: آية 81- 83).
إنه التقليد المذموم من كل وجه، والذي قام على غير دليل ولا برهان ولا كتابٍ مبين.
5- الجدال باستحالة جمع أجزاء الإنسان بعد تحللها وتشتتها في باطن الأرض:
يدعي المجادلون أن الأجسام بعد موتها تتحلل إلى مكوناتها الأساسية التي قد تغيب في باطن الأرض أو تدخل في تركيب نبات يعود ليأكله حيوان.. إلى آخر تلك السلسلة الجدلية التي قد يفترضها المعاندون المكذبون فيستحيل جمع ذلك المتناثر من عهد اَدم إلى قيام الساعة في زعمهم
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (الرعد/ 5)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (سبأ/ 7)
(وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) (السجدة/10)
أي إذا تحللت أجسامنا وتاهت دقائقها في غيابات الأرض، فيكف تجمع لنبعث من جديد؟
والله تعالى يرد عليهم بدليل علمه المحيط سبحانه فيقول تعالى:
(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (ق/4)
والحقيقة أن هذه الآية هي من فيض كرم الله تعالى علينا في كتابه الكريم، حيث يأخذنا في رحلة في ملكوت السموات والأرض نستصحب فيها طلاقة قدرة الله المعجزة التي تحفظ على الإنسان بعد موته مواضع غيابات دقائق جسمه مهما طال العهد ومهما تعقد الأمر. ومن رحمة الله بنا أنه لم يفصل لنا أكثر من ذلك لأن عقل الإنسان قد يقضى الساعات الطوال وهو يتأمل هذه الآية الكريمة التي لا تنقضي عجائبها، فكيف لو زاد التفصيل بما لا تحتمله عقولنا؟
ثالثاًًً: أدلة القراَن الكريم على البعث:
1- دليل عدم عبثية الخلق:
قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون / 115).
|
انظر إلى المخ البشري كيف خلق الله فيه مائة وعشرين مليار خلية عصبية ترتبط كل خلية في المتوسط بنحو عشرة آلاف خلية أخرى في ترابط معجز |
هذا دليل عقلي.. إن هذا الخلق العظيم لا يمكن أن يكون عبث .. فكيف تكون نهايته إلى تراب.. فيتساوى الصالح والطالح.. القتيل والقاتل.. الظالم والمظلوم.. فيكون الأمر عبث.. بل ويكون مدعاة للفساد في الأرض.. إن عدم العبثية في الخلق تستوجب أن تكون هناك قيامة يحاسب فيها الناس على أعمالهم. أنظر إلى أي جهاز من أجهزة الجسم لتجده ليس بعبث، انظر إلى المخ البشري كيف خلق الله فيه مائة وعشرين مليار خلية عصبية ترتبط كل خلية في المتوسط بنحو عشرة آلاف خلية أخرى في ترابط معجز ليتم الشعور بالإبصار والسمع والشم واللمس وكذلك لتكون هناك قدرة على الكلام والحركة والتفكير والإدراك وتخزين ملايين الكلمات والصور والأسماء والأماكن والروائح والقدرة على تذكرها فور رؤيتها ولو بعد سنين، ومن الناس من يُسَخِرَ ذلك العطاء المبهر في الطاعة ومنهم من يسخره في المعاصي.. منهم الأنبياء والصديقين والشهداء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي.. ومنهم هتلر وقارون وهامان.. ثم بعد ذلك يموت الإنسان ، وينتهي الأمر، فيتساوي الأخيار والفجار!؟ أليس هذا عبث؟ لقد شنع الله تعالى على من هذا ظنه
قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثية آية 31)
وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ) (غافر آية 58)
وقال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (السجدة آية 18).
وقال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً )(القيامة / 36).
أي يترك هملاً وهو الذي خلقه الله تعالى بعنايته منذ كان نطفة فعلقة ثم سواه الله تعالى فجعل منه الذكر والأنثى، فإذا كان منذ بداية حياته في عناية الله ورعايته، فكيف يهمل في اَخرها؟
وعقَب الله تعالى على هذه الاَيه الكريمة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون / 115).
بهذا التعقيب الرائع في قوله سبحانه (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) (المؤمنون / 116).
لقد نزه الله تعالى نفسه في أول الآية بقوله سبحانه ( فتعالى) فباعد بينه وبين ما يدعون بالباطل، ثم دعانا لاستحضار اسمين من أسمائه الحسنى (الملك الحق) فالملك هو الذي يضع القوانين لا أنتم والحق منزه عن باطلكم وعما تصفون.
2- دليل الخلق الأول:
قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (الروم/27)
إن الذي يخلق شيئاً أول مرة يقدر على إعادته.. بل هو على إعادته أقدر. وكلٌ عليه هين سبحانه..
وقال تعالى في الرد على المكذب المعاند:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (يس/78)
أي لم يعتبر بخلق الله تعالى له على قدرته على إعادته بعد موته
وقال تعالى في سورة الحج في رد واضح صريح على من ينكر البعث:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ). (الحج / 5- 7).
لقد استحضر القراَن الكريم سؤال من يشك في البعث (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) وجعل الإجابة هو الواقع الذي لا يملك أحد إنكاره من مراحل الخلق المعجز في الأرحام (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) وتبعها بمراحل حياة الإنسان في هذه الأرض (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ويختم الآية بهذا التقرير الحاسم (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ). فلا حجة لمعاند أن يتبرأ من دليل يحمله في نفسه من يوم خُلق إلى يوم يموت يشهد لله بأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير.