سورة (قل يا أيها الكافرون)
منهج حياة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].
هذه السورة هي منهج حياة المؤمن الحق، فهي إعلانُ المسلم براءَته من كل شِرك، في كل وقت وكل حين، هي إعلان التوحيد الخالص لله، ولأن التوحيد منهجٌ، والشِّرك منهج آخر، فلا يلتقيان، فإن التوحيد منهج يتَّجه بالمؤمن - مع الوجود كله - إلى الله وحده لا شريكَ له، ويحدِّد الجهة التي يتلقى منها الإنسانُ عقيدته وشريعته، وقِيَمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوُّراته كلها عن الحياة وعن الوجود، هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله، الله وحده بلا شريك، ومِن ثم تقوم الحياة كلُّها على هذا الأساس، غير متلبسة بالشِّرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية، ولهذا الإعلان من جانب المؤمن صور ثلاث لتحقيقه:
الصورة الأولى داخل نفس المؤمن:
فعلى المؤمن تحقيق هذه البراءة داخل نفسه، وفي أعماق قلبه ومشاعرِه، والتمسُّك بها في كل وقت وكل حين، وتعميقها وزيادة اليقين بها، ولتحقيق ذلك يجبُ على المؤمن أن يقرأ سورتي الكافرون والإخلاص في ركعتي نافلة الفجر، وفي الركعتين بعد المغرب؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما أُحصي ما سمعتُ من رسول الله صل الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بـ"قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد"؛ رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي.
كما يقرأها في آخر صلاة يُصليها في ليلته في ركعتي الوتر، عن عبدالعزيز بن جريج قال: سألنا عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يُوتر رسول الله صل الله عليه وسلم؟ قالت: كان يقرأ في الأولى بـ«سبِّح اسم ربك الأعلى»، وفي الثانية بـ«قل يا أيها الكافرون»، وفي الثالثة بـ«قل هو الله أحد»؛ رواه الترمذي، ورواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني.
ويقرأها عند النوم، عن فروة بن نوفل - رضي الله عنه - أنه أتى النبي صل الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علِّمني شيئًا أقوله إذا أويتُ إلى فراشي، قال: ((اقرأ قل يا أيها الكافرون؛ فإنها براءة من الشِّرك))؛ رواه الترمذي، وأبو داود.
ويقرأها في ركعتي الطواف، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه في صحيح مسلم: لسنا نعرف العُمرة، حتى إذا أتينا البيتَ معه، استلم الركنَ، فرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول - ولا أعلَمه ذكَره إلا عن النبي صل الله عليه وسلم -: كان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون.
بمعنى أن الإنسان حينما يكرِّرها ويقرأها في بداية يومه وفي نهاية يومه، وفي بَدء ليله؛ ليُجدِّد التوحيد والإخلاص، فنحن بحاجة لأن نجدِّد التوحيد ونجدد الإخلاص في قلوبنا وفي نفوسنا وفي حياتنا، فلا تظنَّ أيها المسلم أنك بإيمانك الأول قد انتهى كل شيءٍ، وبتوحيدك الأول قد انتهى كل شيء، أنت بحاجة لأن تجدِّد التوحيد في كل يوم، لذلك جعل الله ثوابَ قراءتها تَعدِل قراءة رُبُع القرآن؛ ليَحثَّنا على ترديدها، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((... ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عُدِلتْ له برُبُع القرآن...))؛ رواه الترمذي.
فينبغي أن نأخُذ هذه السورة في واقع حياتنا، نجدِّد بها توحيدنا لله في عباداتنا كلِّها، فلا يكون شيء من عباداتنا في صلاة أو في صوم، أو في نفقة أو في تعامل - إلا لله خالصًا، ولنَسْلُك هذا المنهج، إنه منهج رباني عظيم، يجدِّد لنا التوحيد والإخلاص الذي نسأل الله أن يحقِّقه لنا في حياتنا كلها، ونسأله أن يُحيينا على الإخلاص، ويُميتنا على الإخلاص.
الصورة الثانية: إعلان هذه البراءة بنصها القرآني لكل مستويات الكفر والشرك:هذا الإعلان هو تنفيذ لأمر الله عز وجل، وليس لأحدٍ أن يتعالى فوق أمر الله ويقول برأيه، فقل: هو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمرُ الله وحدَه، إنما هو الله الآمر الذي لا مردَّ لأمره، الحاكم الذي لا رادَّ لحُكمه؛ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
هذا الإعلان يجب إعلانُه من جانب الأفراد والدول والأمة الإسلامية بكل وسائل الإعلان والإعلام الحديثة الموجهة إليهم، مع بيان أن هذا لا يعني إعلان حرب على هؤلاء كما يظنُّ بعض الجاهلين، بل هو منهج تعامُل معهم في كلِّ مناحي الحياة ولا تنازُل عن تنفيذ منهج الله في التعامل معهم؛ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ *وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾.
فهذه الآيات لا تَعني عدم التعامل مع الكافرين ومَن في زُمرتهم، ولكن هذا التعامل يجب أن يكون مطابقًا لعقيدتنا الإسلامية، وليس به أيُّ خللٍ لديننا، إن قبِلوا هم ذلك، مع إعلان اعتزازنا بديننا في هذا التعامل معهم، وهكذا فعل عمر رضي الله عنه في تسليم القدس للمسلمين عند فتحها.
لذلك على كل فرد مسلم أن يُعلن اعتزازه بإسلامه عند تعامله مع الآخرين، وعدم التفريط في هذا الاعتزاز، ويفتخر بإسلامه، ولا يستحيي مِن ذلك فهو أمرُ الله.
إن تنفيذ ذلك سيجعل هؤلاء الكفار يحترمونك ويُوقِّرونك، ولا تظنَّ عكسَ ذلك كما يظن ضعافُ النفوس الذين يَبيعون دينَهم بدنياهم، فلهم في الدنيا خِزيٌ ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
الصورة الثالثة: بيان أوجه الخير التي يدعونا فيها الله عز وجل إلى حُسن التعامل مع الكافرين والمشركين:
فمن المفاهيم الخاطئة عند البعض أن علاقة المسلم بالكافر هي علاقة حرب وعنفٍ وشدة وغلظة بإطلاق، وهو خلافُ توجيهات الله في التعامل مع الكفار، فقد وضع الله آدابًا وضوابط تقوم عليها العلاقة مع الكفار، والتعامل معهم، وهي آدابٌ وضوابطُ مبنيَّة على العدل وعدم الظلم؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
كما وجَّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظ حقوقهم؛ فعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم، عن رسول الله صل الله عليه وسلم، قال: ))ألا مَن ظلَم معاهَدًا، أو انتقصه حقَّه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخَذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجُه يوم القيامة))؛ رواه أبو داود.
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم، قال (مَن قتَل معاهَدًا، لم يَرِحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحها تُوجَد مِن مسيرة أربعين عامًا))؛ رواه البخاري.
إن بيان ذلك لهم فيه دعوة لهم؛ ليَفقهوا أن هذا الدين فيه خيرٌ لهم ولنا، فدعوة الكافر إلى الله - بحكمةٍ ورِفق - وتبليغه حقيقةَ الإسلام - من أعظم الإحسان إليه، وهي قُرْبة إلى الله؛ لقوله صل الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، لَمَّا بعثه إلى خيبر وأمرَه أن يدعوَ إلى الإسلام، قال: ((فوالله لأن يَهدي الله بك رجلًا خيرٌ لك مِن حُمر النَّعَم))؛ رواه البخاري.
وقال صل الله عليه وسلم: ((مَن دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجرِ فاعله))؛ رواه مسلم.
هذا يدعوننا - ونحن في هذا الوقت الذي تقارَبت فيه أممُ أهل الأرض، وتداخل أهلُ الديانات بعضهم مع بعض - إلى أننا بحاجة ماسَّة إلى تحقيق هذه السورة.
أذكُر أني كنتُ رئيسًا لمجلس القسم العلمي الذي أنا فيه بالجامعة، وكانت هناك مشكلة بين زميلتين بالقسم، إحداهما مسيحية والأخرى مسلمة، وكان الحق للمسيحية كما يبدو لي من الحقائق الموجودة، فعرضتُ القضية على القسم دون تحديد طرفيها للزملاء بالمجلس، ثم سمعتُ أذان الظهر من مسجد الكلية، فصمتُ لترديد الأذان كما عودتُ أعضاء المجلس من قبلُ، وكان هذا تقدير الله، ثم أخذتُ رأي الزملاء في الحل، فكان في صف الزميلة المسيحية، فأعلنتُ القرار لصالحها، فإذ بها تقفز مِن على مقعدها وتكبِّر: الله أكبر الله أكبر، (الذي كنا نردده مع الأذان)، يحيا العدل، يحيا العدل، فهي لا تتوقَّع أن يحدث ذلك مني لظنِّها أني متمسك بديني ولن أحكُم لها بالحق، ثم بعد المجلس جاءت لتشكُرني، فما كان مني إلا أن قلتُ لها: هذا حقك، أمرني إسلامي أن أُعطيه لك، وليس مِنةً مني عليك رغم أنك مسيحية وأنا أُخالفك في الدين.
إذًا فإن هذه السورة العظيمة - سورة الكافرون - تعطينا منهجًا ربانيًّا في التعامل مع الكافرين، منهجًا في أننا لا لقاء بيننا وبينهم في التوحيد والعقيدة، أما بالنسبة للتعامل فهذا له أحكامه في الشريعة.