فيزياء الكون الحديثة، من نيوتن إلى أينشتاين
تبدو حلقة التأسيس في تاريخ علم الفلك الحديث أشبه بدوران القط حول نفسه ليلحق بذيله، غير أنه في هذا المسعى المستحيل يدور ويظل يدور دائما. هذا هو حال فيزياء الكون وقدر فرضياتها ومسلماتها على حد سواء، ناهيك على اختلاف الآراء في علم الكونيات وتضاربها تضاربها شديدا. أليس ذلك ما ذهب إليه العالم جيمس بيبلز James Peebles في افتتاحية مجلة Scientific American التي تضمنت ملفا لعلمي الفلك والكونيات:«إن كل الآراء المطروحة قد لا تكون صحيحة، بل أنها ليست متماسكة مع بعضها البعض الآخر». وبديهي ذلك في سوق يمور بالأفكار والنظريات والمعادلات المختلفة، لكن دار لقمان عندنا غير ذلك تماما، ما دامت التهويمات السحرية للكون هي الغالبة، بل أن مجرد تقديم تفسير مادي فيزيائي للكون يثير تشنجا يطرح أكثر من سؤال. ناهيك أنه عندما يعمد أهل العلم في الساحة العربية لتقديم نظريات علمية في ميدان عصي وصعب المسالك، يجدون أنفسهم في قفار مقفرة. فعدم وجود تراكم معرفي وعلمي في الساحة العربية والنقص الهائل في ميدان الترجمة والتعريب، يجعل من هؤلاء الباحثين الجادين أشباه سيزيف (Sisyphe) جدد في صعوده إلى قمة الجبل ينوءون تحت عبء حمل ثقالة تخلف ما بعدها ثقالة. فالفقر المدقع الذي تعاني منه لغة الضاد في تعريب المصطلحات العلمية والتضارب الشديد بينها إذا وجدت، يجعلها تضيف إلى الصعوبة غموضا وإلى الغموض تعقيدا. ويزياد هذا التعقيد حول مفهوم الكون لأنه كان دائما محل شد وجذب بين العلماء والفلاسفة، إذ لم يسلم هذا المفهوم بدوره من معول النقد، بحيث كان محط تغيير وتحول مستمر عبر تاريخ الإنسانية. فهاته الكلمة دون سائر الكلمات الأخرى، كلمة بدائية بامتياز وتختزن فيها رؤية الإنسان للكون منذ أن فتح عيناه ورفع رأسه يتضرع إليها أو رهبة وخوفا منها.
ولا بأس أن نذكر في هذا الباب أن نص أفلاطون " طيمواس" (Timée) بمثابة أحد النصوص المؤسسة لنظرة الإنسان إلى الكون: كروح ومادة، حيث اعتبر انسجام العالم الكوني بمثابة كائن شبيه بتناغم العالم البشري. والحال أن الإغريق اعتبروا انسجام الكون كقلادة حلي نسائية، بحيث لا غرابة إذا كانت كلمة كوسوموس (Cosmos) تحيل في أحد استعمالاتها إلى كلمة (Cosmétique) بمعنى مستحضرات التجميل.
غير أن كتاب "قصة الكون من التصورات البدائية إلى الانفجار العظيم" للباحثين نضال قسوم وجمال الميموني، يمتاز، إن لم يكن ينفرد في هذا المجال على سائر الكتب العربية العلمية القليلة في هذا الباب. إذ ثمة تبويب محكم بين سائر الفصول، بحيث لا يجد القارئ أدنى صعوبة للإبحار في قصة الكون عبر قيامه برحلة سفر في التاريخ، تاريخ علم الفلك كما نشأ وتطور عند مختلف الشعوب والحضارات ( الفراعنة، الإغريق، البابليون، الروم، الهنود والصينيون)، معرجين بعد ذلك للتعريف بمساهمات علماء الفلك المسلمين (البيروني، ابن شد، ابن عربي..) ومقدمين رؤية الديانات التوحيدية للكون ونشأته. ثم كيف وقع التلاقح والتفاعل بين العلماء في عصر النهضة والمعارك التي واجهها العلماء حول القضية التي شغلت الناس:
«هل تدور أم لا تدور؟» ليصل الأمر إلى انتصار العلم على التفسيرات السحرية للكون والدوغمائية الدينية وصولا إلى فتوحات عصرنا العظام ( كوبرنيك، كبلر، غاليليو، ديكارت، نيوتن، لابلاس...).
ولا نجانب الصواب إذا قلنا أن هذه المساهمة تستحق كل التنويه، لأنها تقدم النظريات والاكتشافات على حد سواء، الواحدة تلو الأخرى، مع أهم الخلاصات التي تمور بها النظريات الفيزيائية الحديثة والقديمة. بل وتشمل أحيانا عرض الكثير من الجزئيات والتفاصيل لتقديم صورة صحيحة عن الآراء المطروحة والمقابلة لها في سوق الفيزياء الكوني.
والمهم عندنا في هذا التقديم والتعليق أن نحاول قدر الإمكان تبسيط أهم النظريات التي حاول الباحثان البازلان تقديمها للقارئ بروح وجدية مثابرة لا مثيل لها. بيد يظل الكتاب في بعض فصوله مستعصيا على القارئ العام، وقد يربكه صعوبة المصطلحات المستعملة ( مجرة، ، فوتون، بروتون، الثقب الأسود، الانزياح نحو الأحمر، ثابت هَبُل، الثقب الدودي، الأفق، المادة الدكناء ـ الظلماء ـ، ميكانيك الكم، الإلكترون، الكوارك، الكويزرات، القوة النووية الضعيفة، القوة النووية الشديدة...) والمعادلات الرياضية التي يبقى من العسير فهمها على غير القارئ المختص.
وبديهي أن نشير أيضا إلى عدم نقاش رهانات النظريات العلمية من زاوية فلسفة العلوم في كل فصل على حدة، قد لا يوضح ولا يساعد بالشكل الكافي للقارئ العربي مقاصد وغايات هذه النظريات العلمية، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحتى دينيا. فلا ضير إذا حاولنا في هذا المقام بالذات تقديم بعض الإيضاحات والتفاسير والشروح والدلالات والرهانات حين ذكر هاته النظرية أو تلك. بيد أنه من المهم في هذا الباب أن نذكر أن الباحثان خصصا الباب الثالث للمناقشات الفلسفية (ص: 257-320) في محاولة جادة منهما أن يقدما رؤية نقدية لهذه النظريات.
والحال أن هذه القراءة النقدية تضع قدر مستطاعها محاولة تيسير قراءته والاستفادة من المعلومات القيمة التي يعج بها الكتاب، كما الوقوف على بعض الأسئلة التي يطرحها.
الإنسان والكون والعلم
منذ أن رفع الإنسان بصره إلى الكون متأملا الكواكب والنجوم السيارة، أصبح بموجب هذه الرؤية قطب الدائرة ومركز الكون، مما نتج عنه القول في بداية الأمر أن العالم تبعا لذلك محدود بما يراه الإنسان. ومن ثم إن تصور كليات الأشياء في تفاعلها وكميتها في الكون كان المدخل الأول لإثارة العديد من القضايا الفلسفية، منها هل العالم من حولنا محدود بهذه النظرة؟
والحال أن هذه الفكرة التي نكونها عن الواقع ليست بطبيعة الحال الواقع في حد ذاته، مما حذا بالفيلسوف سبينوزا (Spinosa) أن يعتبر الله هو الطبيعة (Deus sive Natura) في امتداده. وبالتالي فالقول بوجود عالم خاص غير ممكن لأن القول به يتناقض مع الحضور الرباني القادر على خلق عوالم لا متناهية.
إذ تم اعتبار هذا الكون في امتداده المطلق واللامتناهي «كأشياء انبجست بصفة لا متناهية بالضرورة من طرق لا متناهية (...). أي بنفس الطريقة التي تكون فيها طبيعة المثلث إلى الأبد هي مجموع زواياه الداخلية المتساوية مع زاويتين مستقيمتين، وإلا اضطررنا للاعتراف بأن الله يتضمن أشياء لا متناهية لن يكون بوسعه خلقها، لأنه إذا خلقها سيستنزف حضوره الدائم، وبالتالي يصبح غير كامل» ( سبينوزا، إتييقا (Ethique) 1. 21).
والواقع أن هذا الموقف الفلسفي غير بعيد عن ما اعتبره أينشتاين (Einstein) بـ «الواحد الأزل»(The Old One) الذي يعتبره كناية عن الطبيعة.
ومهما يكن من التحولات التي حبل بها هذا المصطلح عبر التاريخ، فلا يمكن التغاضي أنه كان محل هجوم عنيف من رائد التنوير إيمانويل كانط الذي اعتبر أن مصطلحات من قبيل الميتافيزيقا، الكون، الروح انتاجات لقيطة للعقل البشري ولا تتمتع بأي مصداقية. وهو ما اشار إليه حين قال في نقد العقل المحض:«إذا كان الفضاء قائم بذاته، سيكون إما متناهيا أو غير متناهي, لكن كلا الفرضيتين خاطئتين (....), ومن الخطأ أيضا القول أن الكون بما هو مجموع تمظهراته، كيان قائم بذاته» .
وبالطبع هذا ما مهد بعد ذلك لأن يعرف الإنسان الكون ككلية حقيقية بجميع مكوناته المتفاعلة، أي أن وجوده أسبق عن وصفه إذا تبنينا موقفا واقعيا. فمن جهة، إن القول باللامتناهي هو قول مردود على صاحبه وغريب كل الغرابة عن ميدان العلم، فالعلم قياس وحساب لجميع الظواهر بطرقة كمية ومتناهية. ومن جهة أخرى، إن الكون يمكن قياسه عبر أطرافه، لأنها تشكل أعدادا نهائية كما أوضحت ذلك نسبانية أينشتاين التي تحاول أن تقدم هندسة لمعرفة وصياغة طاقة الكون رياضيا والجمع بين الزمان والفضاء بعد أن تم الفصل بينهما طويلا.
فلسفة العلم: من ديكارت إلى نيوتن
يعتبر ديكارت أول من أكد على خصوصية الإنسان عندما اعتبره جوهرا، يمكن دراسة أعضائه الجسدية وما يحيط به من ظواهر طبيعية بطريقة تجعله يفكر ويعقل ما يفكر فيه بوعي. ( خطاب المنهج، الجزء الخامس، ص: 113-119). ومن نافل القول أن العلم عنده بحث عن الحقيقة، والحقيقة في هذا الباب تعني ملامسة حقيقة الظواهر في الكون عبر الرصد والملاحظة. إذ يتم الربط بين الظواهر والأسباب بعامة، بحيث يمكن اعتبار المقاربة الديكارتية للكون اعتباره امتداد ومتصل ولا وجود للعدم فيه. كما أنه يمكن اعتبار الوصف الهندسي للظواهر ممتلكا لنفس قيمة التفسير السببي للظواهر، أي أن تأسيس الميكانيكا يقوم على معطيات قبلية وهندسية وعلى تماثل المادة والامتداد.
وعوار هذا الحد أن لا نستفيض فيه أكثر من التأكيد على أن ظهور النموذج العلمي الحديث بفضل ديكارت ونيوتن وكبلر وغاليليو يقوم على التخلص من النموذج القديم القائم على القياس، بحيث قام الفصقل ـ الباراديغم ـ الجديد على دراسة القواعد والمبادئ والاختزالية المنهجية والرياضية التي تقول بوجود قانون يحكم هذا العالم يجب الكشف عنه.
ومع هذا العالِم الفذ «أصبح العالَم آلة عظمى منظمة تنظيما محكما حسب قوانبن معينة» والمعرفة العلمية معرفة وضعية بالأساس، بحيث إن التفسير العلمي لا يمكن أن يكون غير التفسير السببي. إذ أن معرفة النتائج تقودنا إلى معرفة الأسباب، وإذا لم نبحث عن تفسير الأسباب لتفسير النتائج، كنا كمن يدور في حلقة مفرغة.
كل ذلك بطبيعة الحال يتوقف في نظر ديكارت على معرفة أسباب الظواهر التي تعتبر بمثابة هوية العلم الجديدة آنذاك، والتي لا تستوفي معقوليتها إلا بفهم القانون والطريقة التي تنتظم بها تلك الظواهر وتشتغل بنفسها أو بغيرها. فكل «علم هو معرفة يقينية وبديهية على وجه المطلق».
الأمر الذي مهد لنيوتن أن يجدد نظرة الإنسان إلى العلم وبالتالي إلى الكون، فالعلم يستقي منهجيته من الرياضيات والفلسفة الطبيعية، اعتمادا على التجربة والتجريب بالكشف عن القوى الخفية التي تحرك أي ظاهرة طبيعية. كما أن مهمة العلم تنحصر في الكشف عن الميكانيكا الكامنة في صلب أي ظاهرة. فالتقديم الأول لكتابه:«مبادئ رياضية لفلسفة الطبيعة» يمكن اعتباره بمثابة مقدمة لميكانيكا عقلانية تحاول أن تشير إلى الأشياء بتقديم وصف تقني لأشكالها وخطوطها وأحجامها وصورها يتم تضمينها قواعد رياضية. بمعنى إخضاع ظواهر الطبيعة إلى قوانين علمية مصاغة صياغة رياضية.ومن ثم، أولى نيوتن جهوده لفهم ما يعج به الكون من ظواهر إلى تحليل العناصر التالية: الجاذبية، الصلابة والسيولة، ما سمح له بتأسيس فلسفته الطبيعية على مفهوم القوة، أي قوى الجذب في الظواهر الفلكية والبحرية بمثابة المعطى الواقعي الذي لا مناص من دراسته، بحيث يصبح الخاصة الأساسية للعلم البحث عن الأسباب.
وبموجب هذا تم اعتبار العالم ككتاب بقتضي فهمه اعتماد الرياضيات وإلغاء الميتافيزيقا، لأن كتاب الطبيعة مكتوب بأبجدية هندسية ورياضية. الأمر الذي نتج عنه لزاما الوصول إلى مبادئ رياضية وقواعد تخص قوانين الحركة وقوة الدفع فيها وكميتها وشكل الكتل ( أي مقدار المادة في جسم ما، باعتبارها معيار لمدة مقاومة الجسم للتغير في حالة حركته وسكونه)، ما يهيئ سبل القيام بتجارب تطبيقية عن طريق قواعد رياضية.
إذ يعتبر نيوتن العالم مكونا من ثلاثة عناصر أساسية:
1- المادة: مجموعة لا متناهية من الجسيمات، مفصول عن بعضها البعض، وصلبة.
2- الحركة: علاقة من الجسيمات، تنقل هذه الأخيرة في الفراغ دون إلحاق أي تغيير على طبيعتها.
3- المكان: هو ذلك الفراغ الذي تحقق فيه الجسيمات حركتها.
فلأول مرة في التاريخ يتمحور المنهج الرياضي حول سيرورة من ثلاث مراحل:
هيكلة رياضية وهندسية لبناءات نظرية.
مقارنة نتائج هذا البناء الرياضي مع ما هو موجود وقائم في الطبيعة.
إعادة بناء النموذج الرياضي لكي يكون أقرب إلى آليات الطبيعة وحتى نضمن أن تكون نتائجه أقرب منها. مؤدى هذا التفكير توجيه الإنسان إلى الطبيعة لاستخلاص القوانين في قوالب رياضية وفيزيائية يمكن تجريبها في كل آن وحين.
وبهذا ربط نيوتن بين الطبيعة وقوانينها، وبين قوانين الحركة والسيولة والأضداد والتمدد و"قوانين حركة الكواكب الثلاثة الكبار كنتائج مباشرة لقانون الجاذبية العام"، وظاهرة المد والجزر، واضطراب حركة القمر والانتفاخ الاستوائي للأرض... التي كانت من إحدى آثارها تصدير قوالب وقواعد وقوانين من الحياة الطبيعية إلى الحياة اليومية. كل ذلك أولى التجربة أهمية كبرى، بحيث لم يعد بديلا عنها كسبيل لفهم الطبيعة ومنهاجا للبحث العلمي بامتياز.
وهذا ما نجده في فتحه العلمي المبين عندما وجد حلقة الربط بين ظواهر طبيعية جد مختلفة كمسار الكواكب وسقوط الأجسام والصعود الموسمي لمياه البحر عن منسوبها الطبيعي من خلال قانون الجاذبية بوصفه المبدأ المحرك لتلك الظواهر الذي يستطيع تقديم شرح السببية التي تتحكم فيها.
ومن هذا المنطلق كشف نيوتن عن مبدأ ثاني في منظومته العلمية، حيث اختار في هذا المضمار منهج التحليلية كطريقة تسعفنا بالتدريج في فهم سلم الظواهر درجة، درجة. وهو ما حيث « يتمثل في القيام بتجارب لاستخلاص النتائج العامة بواسطة الاستقراء والملاحظة ( أي التوصل إلى الحكم الكلي أو العام انطلاقا من معرفة الجزئيات)، بالإضافة إلى عدم القبول بأي اعتراض إن لم يكن مستخلصا من الوقائع أو من حقائق مؤكدة، كما عدم الالتفات إلى الفرضيات (...) وبذلك وحده يمكن أن نمر من المركب إلى البسيط ومن الأسباب الجزئية إلى الأسباب العامة حتى نصل إلى السبب الأول..»(Principia 5, 347).
وعموما تأرجحت محاولة نيوتن بين الاستقرائية ويقينية التقليد الرياضي من جهة، والاندغام في واقع التقليد التجريبي من جهة أخرى. الأمر الذي هيأه أن يكون أول عالم اكتمل على يده الجمع بين المبدأين الأساسين في الثورة العلمية: تيار الرياضيات وتيار التجريبية.
وجدير بالذكر أن هذه الطريقة مكنت نيوتن بالتوحيد بين فيزياء السماء وفيزياء الأرض محطما بتلك الثنائية القديمة التي كانت تعتبرهما منفصلتين إلى الأبد. فمبدأ الجاذبية الشهير ييسر سبل فهم العديد من الظواهر الكونية، أي كان تواجدها سواء على أديم الأرض أو في علياء السماء بناء على معقولبة العالم.
وإذا كان نيوتن في هذا الإطار يتقاسم وديكارت معايير حدسية حول معقولية الطبيعة المادية، غير أنه يختلف معه اختلافا في كثير من تفسير ظواهر الكون التي أثبتت اجتهادات نيوتن. بل أن هذا الاختلاف يزداد عندما يتعلق الأمر بكيفية ارتباط هذه المعايير في الذهن بالبحث العلمي. فالحقائق الاستقرائية عند نيوتن سابقة على الحقائق الحدسية التي يهتم بها ديكارت. ثم من غير المعقول اعتماد الحقائق الحدسية كحقائق للكون والطبيعة، لأن العلم لا يقدم لنا يقينا بأن قوانين العقل الحدسي تتطابق ونظيرتها الطبيعية.
وبإيجاز شديد يمكن تلخيص مساهمات نيوتن كالتالي: إن نظام الميكانيك الذي يستند على قوانين نيوتن في الحركة، تعتبر فيه الكتلة والطاقة خاصيتين ميكانيكيتين محافظتين منفصلتين. وقوانين الحركة الثلاث:
ينص القانون النيوتوني الأول على أن جسيما لا يخضع لأية قوة خارجية يبقى ساكنا، أو أنه يتحرك بسرعة ثابتة على خط مستقيم.
ينص القانون الثاني على أن تسارع جسيم يتناسب طردا مع القوة الخارجية الحاصلة المؤثرة في الجسيم وعكسا مع كتلة الجسيم.
في حين ينص القانون النيوتوني الثالث على أنه إذا تفاعل جسيمان، فإن القوة التي يؤثر بها الجسيم الأول في الجسيم الثاني (تسمى قوة الفعل) تساوي بالقيمة المطلقة، وتعاكس بالاتجاه القوة التي يؤثر بها الجسيم الثاني في الأول ( تسمى هاته قوة رد الفعل).
ولقد أثبتت هذه القوانين صحتها في جميع المسائل الميكانيكية التي لا تشمل على سرعة متقاربة مع سرعة الضوء، وغير مشتملة على جسيمات ذرية أو أجزاء ذرية.
وبالنسبة لحل مشكلة حركة الأجرام السماوية، صاغ نيوتن في البداية تفسيرا سببا لحركة الميكانيكية، مما أدى إلى تحديد أصناف حركة الموضوعات الخاضعة لقوى داخلية أو خارجية، وانطلاقا من قوانين كبلر، خلص نيوتن قانونا للقوة يتميز بالخاصيتين الأساسيتين:
أ- القوة ظاهرة آنية.
ب- تمثل هذه القوة تأثيرا عن بعد.
ولن يغيب عنا أنه في عصر نيوتن كانت الأجسام الصلبة منها أو غيرها، لا تؤثر في بعضها البعض إلا بالتماس، مما يعني غياب أي قانون آخر، قبل أن يكتشف نيوتن قانون الجاذبية التي هي آنية وتؤثر عن بعد. كما أنه إذا كانت قوة الجاذبية بما هي قوة آنية لها القدرة على التأثير من بعيد، فإن الأحداث الآنية والمتباعدة مكانا يمكن أن تعتبر مترابطة سببيا. والمهم من ذلك أنه إذا عرفنا وضع وسرعة كوكب ما في لحظة، يمكن تحديد وضعه وسرعته في أية لحظة لاحقة.
إلا أن هذا القانون كما نعلم، لم يعد قادرا على تقديم تفسيرا مقنعا لظواهر المادة الأخرى، غير الصلبة... الخ، بحيث أن ظهور نظرية المجالات، شكل إضافة نوعية برزت معها صيغة جديدة من السببية، إذ يقترح فاراداي (Faraday) تأويل المجال الكهرومغناطيسي بما يجعله تحولا في مادة الأثير (Ether) .
والحال أن الفيزيائيين قبل أينشتاين حاولوا تفسير جميع الظواهر الطبيعية بما فيه الظواهر الكهربائية والمغناطيسية بأساليب ميكانيكية. الأمر الذي دفعهم لافتراض وجود الأثير للتمكن من تفسير ميكانيكي لانتشار الموجات الضوئية. والجديد الذي خرج من معطف دراسة الظواهر الضوئية، يتمثل بالنسبة لماكسويل(Maxwell) افتراضه أن الحقل الكهرومغناطيسي شيء واقعي. ومن ثم اعتبر ما كسويل الزمان والمكان ساحة لقوانين الحقل، مما يخالف وضعهما في حال قوانين الميكانيكا، التي يتم النظر فيها لهما كعبارة عن نقاط تحضر فيها الأشياء المادية أو الشحنات.
وبمجرد التقدم في هذا المسار الجديد ومع تعزيز مواقع النظرية النسبية، تم الحصول على تأويل طبيعي للقوى التي بدا أنها تؤثر عن بعد، ولقد تم تقوية وتعضيد هذا التأويل بفضل الأعمال التي قام بها ماكسويل (Maxwell) وهيرتز (Hërtz)، كي يفسح المجال للتخلي عن إعطاء طبيعة ميكانيكية لمادة الأثير بالتوحيد بين فيزياء القوى المركزية وفيزياء المجالات.
الأمر الذي مهد لافتراض مؤداه أن للأثير خواص مادية، لكن مع لورنتز وأينشتاين تم الاستغناء عن وجود خواص مادية له، ليصبح مجرد مكان له بعض الخواص الحركية. مما مهد للمجالات أن تمثل " موضوعات" لها أهمية نظرية واستقلال ذاتي، لأنها لم تعد في حاجة إلى مادة ميكانيكية لكي توجد.
وإذا شئنا التبسيط قلنا، يكون الرجوع إلى التأثير أو الفعل الذي قال به نيوتن، إن هذا التأثير يحتاج إلى وسط، ولكن هذا الوسط ليس ماديا ولا ميكانيكيا، بل هو مجال. مما يعني أن العامل السببي في الطبيعة لم يعد قابلا للملاحظة المباشرة. وبذلك نكون قد دخلنا عالم الذرات والإلكترونات غير المرئية والتجاذبات الخفية، بحيث إن قوانين نظرية المجال، تماما كما هو حال نظرية نيوتن الميكانيكية، لا تفرض أي حدا أقصى على سرعة القوى. ولقد نتج عن هذا عدم إمكانية فرض أي نظام زمني خاص على سلسلة من الأحداث تعتبر مترابطة سببيا. وهنا تتدخل نظرية النسبية لأينشتاين.
ومن ثم تبين لاينشتاين استحالة استيعاب الذرية من طرف فيزياء المجالات، بحيث تم اعتبارها كيانا مستقلا إلى جانب المجالات الأساسية.
هكذا إذن تم تحطيم التصور الزمكاني الحدسي واندثر الاعتقاد في الموضوعية الكلاسيكية للعالم الميكروسكوبي التي تعد قاسما مشتركا بين الفيزياء العقلانية والحس المشترك (Sens Commun)، بحيث نتج عن تحطم هذا البناء السائد في الفيزياء الكلاسيكية أن أخذت الذات والذرة والاحتمالية على حد سواء مكانهن.
نظرية الانفجار الكبير وسبر أغوار مادة الكون
يقول المثل أول الغيث قطرة، بحيث إن المصاهرة التي وقعت بين فيزياء الجسيمات الأولية والكوسمولوجيا (علم الكونيات) بخاصة، يساعدنا على فهم تطور الكون في بداياته الأولى بفهم أسرار المادة ومكوناتها الذرية. إذ بدأت عند نشر الكيميائي الإنجليزي جون دالتون (1805) نظريته القائلة بأن المادة مؤلفة من ذرات (الذرة: الوحدة الأساسية للعنصر الكيماوي، وتتألف من إلكترونات حول نواة تتألف من معظم الحالات من بروتونات ونيوترونات). ومن ثم أصبح معلوما لدينا أن المواد التي نراها في الكون ليست أولية بحد ذاتها، وجاء بعده رذرفورد ليُبيِّن أن معظم كتلة الذرة متمركزة في نواة ذات كثافة لا يمكن تخيلها، حيث تدور حولها الإلكترونات ( الإلكترون: جسيم أولي يوجد في جميع الذرات حول النواة، وهو سالب الشحنة. وعند انفصاله عن الذرة يدعى إلكترونا حرا. كما أن الجسيم المضاد للألكترون ( الإلكترون دو الشحنة الموجبة يدعى بوزترون) وهو خفيف الوزن.
مؤدى هذا الاكتشاف العظيم أن الذرة ليست بسدرة المنتهى، فهمي بدورها مكونة من أشياء سابقة عنها، أي أنه يمكن الانتقال من الصغير إلى الأصغر ومنه إلى أدق الصغائر.
عالم فيزياء الذرة ومحاولة فك أسرار المادة في الكون
وبدخول عالم الذرة والجسيمات عالم الاهتمام في الفيزياء، تم ما بين سنة 1920- 1930 تقديم صورة مبسطة للعالم في بداية الأمر، بحيث ساد الرأي أن المادة مؤلفة من ثلاث جسيمات، البروتونات ( شحنتها موجبة= البروتون هو جسيم ذو كتلة كبيرة بالمقارنة مع الإلكترون، يتألف من ثلاث كواركات، ويوجد في محيط النواة)، النترونات (عديمة الشحنة= النيوترون بمثابة جسيم أولي لا شحنة له، مقارب في كتلته للبروتون، يستغرق عمره اثنتي عشر دقيقة إذا انفصل عن الذرة)، والإلكترونات ( شحنتها سالبة).
وبالرجوع إلى الطرح الأول الذي يؤسس لنظرية الانفجار الكبير سنجد أن اينشتاين طرح سنة 1917 فكرته عن كون محدود وثابت، غير أنه لاحظ بسرعة محدودية هذه الفكرة، لاسيما أن الكون الثابت المغلق لا يمكن أن يبقى ثابتا، لأن جاذبيته ستعصف به. إذ أن الجسم المادي مجبر على الحركة الدورانية لكي يتفادى أن يتهاوى بفعل جاذبيته. ذلك أن الدوران وحده من شأنه أن يحافظ على ثبات الأجسام، كالمجرة (تجمع كبير من النجوم تربطه سوية قوة الجاذبية، ويمكن أن تتكون المجرة الواحدة من زهاء مئة بليون نجمة) والمنظومة الشمسية. غير أن فكرة دوران الكون لم تفلت من النقد عند اينشتاين، لأن الدوران نسبي أيضا مثله مثل الحركات الأخرى ولا يمكن اعتماده مطلقا. كما أن فكرة الدوران تفترض وجود محور مركزي، له اتجاه واضح في الفضاء، غير أن هذا يتعارض تعارضا شديدا مع اعتقاده أن الفضاء هو نفسه في كل مكان وبأي اتجاه. وبالتالي أن الكون بمثل هذه الجاذبية لا يكون ثابتا بواسطة الدوران، حتى لو كان يدور بسرعة الضوء.
ولكي يقدم اينشتاين تفسيرا جديدا للشيء الذي يحول دون انهيار الكون، فلقد تصوره كقوة شديدة طاردة تتزايد مع المسافة كي تكون قادرة على أن تقاوم الجاذبية. وهو ما سماه ب " الثابت الكوني" الذي يعتبر بمثابة قوة شديدة منفّرة تتزايد بصورة متناسبة مع المسافة بين شيئين، مثلما تزداد القوة الطاردة عن المركز لجسم دائر بصورة متناسبة مع نصف قطر.
وبالطبع خلص اينشتاين إلى أن هذه القوة تفعل فعلها في جميع الاتجاهات بصورة متساوية كالجاذبية، ولكي لا تخل بتناظر الكون.
وبالعودة إلى أبحاث الفلكي الألماني كارل ويرتز (Carl Wirtz) سنة 1924 تأكد أن كلما كانت المجرة أخْفت ضوءا كان انزياحها نحو الأحمر أعلى وبالتالي أسرع في تباعدها. فإذا افترضنا أن المجرات الأكثر خفوتا تكون أبعد، فإن السرعة تزداد مع المسافة. ومع مطلع الخمسينات (1950)، لاحظ العلماء أن اصطدام البروتونات مع النوى، يخلف بجانب البروتونات والنترونات جسيمات جديدة غير معروفة، سرعان ما تتفكك عندما تتحرر من محيطها خلال فترة زمنية قصيرة. هكذا عرفنا أن الذرة( التي كنا نظن أنها غير قابلة للقسمة والانشطار) أصبحت كناية عن جسيمات دقيقة وأجزاء صغيرة التي بدورها يمكن أن تولد تصغيرا منها.
كان ذلك بمثابة إدراك أن الطبيعة تحتضن نوعين من الجسيمات (جسيمات مشابهة للبروتونات والنترونات وجسيمات جديدة يمكن الحصول عليها في حطام الاصطدامات النووية)، أما النوع الثاني من الجسيمات فهي تلك التي تشبه الإلكترون ـ جسيمات لا توجد ضمن النواة بل خارجها. ومن ثم دعي النوع الأول من الجسيمات بالهادرونات ( أصلها اليوناني يعني الجسيمات المتفاعلة بقوة) أما النوع الثاني فيدعى الليبتونات (الجسيمات المتفاعلة بضعف).
والحال أنه مع بداية الستينات (1960) تزايد اكتشاف الهادرونات ( حوالي 200 جسيم)، ليطرح بعد ذلك مسألة وجود طريقة ما لترتيب هذه الجسيمات أطلقت عليها فرضية مخطط تنظيم الجسيمات الذي أصبح مهيمنا على دراسة بنية المادة. وبالتالي إن الفكرة الأساسية في المخطط التي كانت تقضي أن النواة (مؤلفة من بروتون ـ نترون)، ما هي في حقيقة الأمر إلا ترتيبات مختلفة من الهادرونات والتي هي بدورها مكونة من أشياء أكثر بدائية منها، تمت تسميتها بالكواركات.