بئر السبع عاصمة النقب آخر مدينة تحتلها إسرائيل… منسية في الرواية الفلسطينية
في مثل هذه الأسبوع تحل الذكرى الحادية والسبعون لسقوط آخر مدينة فلسطينية في النكبة، مدينة بئر السبع العربية الفلسطينية عاصمة صحراء النقب داخل أراضي 48 وتهجير سكانها، وفي هذه المناسبة يحذر مؤرخ فلسطيني بارز من غياب الرواية التاريخية الفلسطينية حولها مقابل الرواية الصهيونية.
وفي تصريح لـ «القدس العربي» يوضح المؤرخ البروفيسور مصطفى كبها أن قصة مدينة بئر السبع هي من أشد نقاط الضعف التي تعانيها الرواية التاريخية الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بالتهجير القسري واللجوء.
وفي نقد ذاتي يرى أنه في حين يبدو تغييب الرواية الصهيونية للماضي العربي لبئر السبع أمرا معروفة دوافعه وأهدافه، فإن هذا التغييب والتجاهل من الرواية الفلسطينية هو أمر غريب بل ومستهجن.
وإزاء هذا الإهمال من جانب الرواية الفلسطينية يقول كبها إنه لا عجب من تبني الطلاب الجامعيين وطالبي العلم والمعرفة العرب على مختلف اهتماماتهم ومشاربهم لرواية الطرف الإسرائيلي المهيمن، لأن هذه الرواية هي الرواية السائدة والشائعة والموجودة في متناول اليد.
وبئر السبع هو اسم قديم ينسب إلى سبع (أسد) كان يعيش في محيطها، وليس كما يحاول البعض تفسيره بأنه نسبة إلى سبع آبار، كما تقول الرواية العبرية، كما يؤكد كبها متسائلا: «إذا كان الأمر كما يقولون فلماذا سبق المعدود العدد؟ ولماذا تظهر لفظة بئر بصيغة المفرد إذا كان الحديث عن سبع آبار بالفعل؟ «.
ويضيف كبها «هناك مغالطة تاريخية نرى لزوماً علينا تصحيحها وهي القول بأن مدينة بئر السبع أقيمت عام 1900. ما علينا قوله هو أن العثمانيين جددوا بناء بئر السبع عام 1900 وذلك كي تكون مناسبة لمكانة عاصمة القضاء، والأصح القول بأنها مدينة قديمة أقيمت على الأغلب في عهد الكنعانيين وازدهرت في العصور التالية، وفي صدر الإسلام أطلق عليها البعض اسم «بلد عمرو» أو «مدينة عمرو»، وذلك نسبة لعمرو بن العاص فاتح مصر الذي يقال بأنه قضى الفترة الأخيرة من حياته في بئر السبع وكذلك فعل ابنه عبد الله».
وكانت بئر السبع في هذه الفترة مفترق طرق ومحطة تجارية مهمة على الطريق بين مصر وبلاد الشام، ولكن تحول الاهتمام إلى طرق ونقاط أخرى أثر على مكانة هذه المدينة التي أهملت في القرن الحادي عشر الميلادي وتراجعت لتكون بلدة صغيرة في العهود الأيوبية والمملوكية، وعندما دخلها العثمانيون عام 1519 تحدثوا عن «بلدة صغيرة ومهملة»، أما بئر السبع الحديثة فعادت الحياة تدب في شرايينها بعد أن قرر العثمانيون جعلها عاصمة لقضاء الجنوب الذي كان أكبر الأقضية في فلسطين (شكل فيما بعد 40 % من مساحة فلسطين الانتدابية) ، حيث أقيم فيها مجلس بلدي ودار للحكومة. وتسارع تطور المدينة بعد وصول سكة الحديد الحجازية إليها عام 1905 الشيء الذي جعلها تلعب دور الحاضرة المدنية لمناطق النقب كافة، بحيث أصبحت مركز جذب لأبناء الأرياف والبادية الذين وجدوا فيها رزقاً ومتنفسا بين مدينتي غزة والخليل. وفي الحرب العالمية الأولى اكتسبت بئر السبع مكانة مميزة بسبب جعلها قيادة لجمال باشا لبضع الوقت وقد اصدر فيها جريدة ناطقة باسمه سماها «الصحراء المصورة» .
ويستذكر الباحث الدكتور ثابت أبو راس ابن النقب موسى الحجوج، ويقول إن البناء الاجتماعي لسكان المدينة بدأ بالتشكل بداية من عائلات الموظفين الذين جاؤوا من مدن أخرى كغزة والقدس ويافا ونابلس، وبعد ذلك بدأت عملية توطين طبيعية لأبناء البادية الذين أخذ عددهم بالتزايد ليصبحوا أغلبية سكان المدينة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، لافتا إلى أنه في هذه الفترة، تزايد عدد سكان المدينة تزايداً ملحوظا فمن 300 نسمة عام 1900 وصل عددهم إلى 7200 نسمة عام 1948 .
وقال أبو راس الخبير في قضايا النقب إن عدد السكان في المدينة عشية النكبة كان أكثر من ذلك بكثير لأن العديد منهم كانوا يعيشون مع عشائرهم خارج المدينة وليس مع سكانها.
وشملت بئر السبع مدرستين ابتدائيتين، واحدة للبنين وأخرى للبنات ومدرسة داخلية وفي العام الدراسي 1947 -1948 )العام الدراسي الأخير قبل النكبة) أصبحت المدرستان مدرستين ثانويتين وكان مجموع عدد الطلاب فيهما 600 طالب منهم 290 طالبة.
ويثني أبو راس على معرفة كبها بتاريخ النقب وبئر السبع، موضحا هو الآخر أن منطقة بئر السبع قد كانت ناشطة في ثورة 1936 -1939 وقد تولى بعض شيوخ العشائر قيادة الفصائل الثورية في المنطقة التي عدت ضمن منطقة نشاط قائد منطقة الخليل عبد الحليم الجولاني (الشلف) الذي احتل مدينة بئر السبع في تشرين الثاني عام 1938 . ويوضح كبها أن الدفاع عن مدينة بئر السبع تم من قبل وحدات شبه نظامية من المتطوعين العرب بقيادة عبد الله أبو ستة ووحدات من متطوعي الإخوان المسلمين الذين عملوا قبل ذلك تحت قيادة الشهيد أحمد عبد العزيز وبعض مفارز المشاة من الجيش المصري. وبلغ مجموع المقاتلين العرب هناك قرابة 400 مقاتل، تحصنوا في مبنى شرطة المدينة، وفي محطة القطار التركية وفي مدرستي المدينة، وكان سلاحهم مكوناً، بالإضافة للبنادق الخفيفة، من سبع قاذفات هاون، مدفعين زنة ستة أرطال وبطارية مدفع جبلي عيار 3.7 بوصة، و3 مدافع مضادة للطائرات وأربع مدرعات خفيفة غنموها من الجيش الإسرائيلي بعد معركة عراق المنشية الأولى وثلاث مدرعات بريطانية خفيفة. وبدأ الهجوم الإسرائيلي على بئر السبع تمام الساعة الثالثة من مساء العشرين من تشرين الأول 1948 من خلال قصف جوي مركز وعنيف وقصف مدفعي من مدافع تمركزت إلى الغرب من المدينة، في منطقة كيبوتس «حتسيريم» .
بعد ساعتين من صب الحمم على المدينة تقدمت وحدة من اللواء الإسرائيلي التاسع، واحتلت الحي الحديث الذي كان خارج خطوط الدفاع المحفورة المانعة للمدرعات التي أقيمت حول الأحياء القديمة.
ويتابع كبها في استذكاره مصير بئر السبع «عند وصول طلائع القوة الإسرائيلية إلى منطقة المقبرة الإسلامية ووجهت بمقاومة عنيفة نجحت بإيقافها وتكبيدها العديد من الخسائر بشكل استدعى التراجع بقصد التعامل مع الحامية العربية بالقصف الجوي مجدداً»، موضحا أنه بعد قصف جوي مركز لفترة ساعات إضافية استطاعت وحدة مشاة مهاجمة من اقتحام محطة القطار ومبنى المدرسة الداخلية، وبذلك تم تطويق الحامية التي تجمعت مجدداً في مبنى الشرطة من الوراء.
وطبقا لكبها فقد دارت على إثر ذلك معركة وجهاً لوجه وفي السلاح الأبيض من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت. وفي الساعة العاشرة إلا ربعاً تم إخضاع آخر نقاط المقاومة، التي تعرضت للهجوم من جهات مختلفة، وأسر من كان داخل مركز الشرطة من جنود مصريين ومتطوعين فلسطينيين.
وخسرت القوات المهاجمة ستة قتلى و21 جريحاً، في حين بلغت خسارة الطرف العربي 12 شهيداً من المقاتلين و21 شهيداً من المدنيين، في حين أصيب بجروح 44 شخصاً من المقاتلين والمدنيين. وهكذا نجحت القوات اليهودية باحتلال بئر السبع، حاضرة النقب العربي، وتهجير أهلها بعد أن فشلت باحتلال عراق المنشية والفالوجة قبل ذلك بأسبوع ضمن عملية «يوآب» التي استكمل فيها احتلال النقب حتى أم رشراش على ساحل البحر الأحمر في شتاء 1949.وقد بقيت هاتان القريتان صامدتين فيما عرف باسم « كيس الفالوجة « حتى إخلائهما من قبل الجيش المصري طبقاً لاتفاقية الهدنة الموقعة بين مصر وإسرائيل في شباط عام 1949.