كتاب "عرفات الذي لا يقهر" للصحافي الإسرائيلي أمنون كابليوك،
السيرة الكاملة كما رواها أمنون كابليوك
يعتبر كتاب عرفات الذي لا يقهر للصحافي الإسرائيلي أمنون كابليوك، واحدا من أهم الكتب عن سيرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. فالبحث المكتوب بالفرنسية والصادر في طبعته الأولى في العام 2004 والواقع في أكثر من 500 صفحة، غني بالمعلومات الجديدة والتفاصيل المجهولة عن حياة القائد الفلسطيني وسيرته النضالية. وإذا كان الكاتب يعلن منذ البداية انحيازه الى جانب ياسر عرفات وتعاطفه معه في صراعه من أجل إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، فإن هذا الانحياز لا يوقع الصحافي في الكتابة الدعائية، إذ يظل محافظاً قدر الإمكان على مقاربة موضوعية. كابليوك صحافي قدير تعاون لسنين طويلة مع جريدتي لوموند و لوموند ديبلوماتيك الفرنسيتين ومع جريدة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية. وسبق له أن نشر أحد الكتب المرجعية عن مجازر صبرا وشاتيلا تحت عنوان تحقيق في مجزرة . وألّف كتاباً عن مجزرة الحرم الإبراهيمي وآخر عن اغتيال رابين. تعود علاقة أمنون كابليوك بياسر عرفات إلى فترة حصار بيروت عندما التقاه للمرة الأولى تحت القصف وأجرى معه مقابلة لصحيفة لوموند . تعددت اللقاءات في أمكنة وأزمنة مختلفة، من تونس إلى أوروبا إلى غزة والضفة الغربية. أما فكرة الكتاب فتعود إلى العام 1999 وترتكز بالإضافة إلى المقابلات المتعددة والطويلة التي أجراها المؤلف مع أبو عمار والمقربين منه ومع بعض الإسرائيليين، على بحث دقيق في الأرشيف والكتب والصحف التي تناولت من قريب أو بعيد حياة القائد الفلسطيني. وسنكتفي في هذه المقالة بتلخيص أهم مراحل حياة عرفات وفقا لما جاءت في هذا الكتاب.
ليس عبثا أن يبدأ الكتاب بمقدمة لنيلسون مانديلا يعبر فيها عن إعجابه بعرفات ويربط فيها بشكل واضح بين نضال السود في جنوب أفريقيا ضد نظام الأبارتيد ونضال الشعب الفلسطيني ضد الإحتلال الإسرائيلي. ويشرح مانديلا كيف أن تفكيره في اللحظات التاريخية لنهاية نظام التفرقة العنصرية ذهب في إتجاه الشعب الفلسطيني وقائده ياسر عرفات ومعركته التي لم تنته بعد. يتذكر كيف أنه ورفاقه كانوا من داخل سجنهم يتماهون مع نضال عرفات ويشدد مانديلا على أن عرفات هو الذي وضع القضية الفلسطينية في مقدم أوليات المجموعة الدولية محوّلا الفلسطينيين من وضعية اللاجئين إلى وضعية الشعب المكتمل. يكتب مانديلا الآتي في وصف عرفات: الرئيس عرفات سيبقى دائما رمزاً للبطولة في نظر كل شعوب العالم التي تناضل من أجل الحرية والعدالة .
بورتريه
يرسم كابليوك في بداية كتابه بورتريه شيقاً لعرفات يبدأ من سمعته بين أقرانه بأنه الرجل ذو السبع أرواح ويتحدث عن اعتقاد البعض بأسطورة البركة التي طالما رافقت عرفات وأنقذته من محاولات لا حصر لها لاغتياله. ومن الحوادث التي يرويها الكتاب كيف أن عرفات ترك مخبأه فجأة في رام الله في العام 1967 وهو لما ينته بعد من طعام الغداء الساخن، وذلك قبل دقائق معدودة من اقتحام الجيش الإسرائيلي المقر. في العام 1969 نجح الشين بيت في اختراق تنظيم فتح من خلال شخص يحمل جواز سفر سويسرياً مزوراً واضطر العميل أن يتراجع في آخر لحظة في كلا المرتين اللتين حاول فيهما اغتيال عرفات. في العام 1969 نجا عرفات من طرد مفخخ ثم قام جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي بناء على اقتراح من الضابط المسؤول عن القسم النفسي في الجيش الإسرائيلي بعملية غسل دماغ لرجل فلسطيني ساذج من مدينة الخليل تهيئة له لقتل عرفات بحجة خطره على فتح والقضية الفلسطينية. أساس الفكرة أن الضابط الإسرائيلي شاهد فيلماً أميركياً بعنوان جريمة في الرأس يروي قصة جندي أميركي وقع في أيدي الصينيين بعد أسره خلال الحرب الكورية، وغسل دماغه من أجل اغتيال الرئيس جون كينيدي. لكن الرجل الآتي من الخليل سرعان ما سلّم نفسه للشرطة بعد فترة وجيزة من وصوله إلى الأردن لتنفيذ المهمة الموكلة اليه باغتيال عرفات. ويروي كابليوك عن مرات لا حصر لها جرى فيها قصف الأمكنة التي يقيم فيها عرفات ولكن لحسن حظه يكون قد غادرها قبل دقائق. وقد بلغ هذا الأمر ذروته خلال حصار بيروت حيث كان هناك ضابط كبير يحوطه ستة ضباط مهمتهم الوحيدة تعقب عرفات ومحاولة اغتياله من خلال القصف بالصواريخ والقنابل لكل مكان في بيروت يشتبه أن أبو عمار موجود فيه، ولكن دائما من دون جدوى، الأمر الذي دفع برافائيل إيتان رئيس الأركان خلال الاجتياح الإسرائيلي إلى أن يقول بعد سنوات إن الفشل الأكبر في هذه الحرب أن عرفات خرج حياً .
يصف كابليوك حذر عرفات وحرصه الذي دفعه خلال سنوات طوال إلى أن لا ينام في مكان واحد خلال يومين متتالين، وكيف كان يترك فجأة اجتماعاً يجمعه بشخصيات مهمة، ليعود ويتصل بهم مجدداً ليحدد موعداً لاحقاً. بل أن طياره الخاص كان لا يعلم وجهة الطائرة إلا بعد أن تكون في طور الإقلاع. أما حماية عرفات فظلت محصورة في مجموعة حراسته الخاصة المعروفة باسم حرس الرئاسة التي تضم عشرات من الرجال ترافقه في أسفاره وظهوره العلني وهي موضوعة تحت إشراف يوسف علي أحمد عبد الله المعروف باسم الدكتور يوسف .
يتحدث كابليوك عن ابتعاد عرفات عن الحياة المترفة وحبه للتقشف، وميله الدائم الى النوم في غرف متواضعة ملحقة بمكاتبه العديدة التي بدورها لم تكن تحتوي إلا على القليل، من مثل خريطة فلسطين وصورة المسجد الأقصى وصور رفيقيه الشهدين أبو جهاد وأبو إياد. أما خزانته فتحوي بدلات عسكرية كتلك التي اعتاد الجمهور رؤيته بها. وبحسب كابليوك فإن عرفات كان يقول إنه لن يتخلى عن بدلته العسكرية حتى قيام الدولة الفلسطينية. ولدى عرفات منذ العام 1965 مسدس من نوع سميث أند ويسن كان يرفض بالمطلق أن يتخلى عنه، وإن كان ينزع الطلقات منه خلال لقائه برؤساء الدول.
لم يكن عرفات يدخن أو يشرب الكحول وكان ملتزما الصلوات الخمس والصيام خلال شهر رمضان، لكن إسلامه ظل متسامحاً وبعيداً عن التزمت. يقول كابليوك إن عرفات لم يستخدم قطً البعد الديني الطائفي في تعامله مع الصراع العربي - الإسرائيلي وظل يعتبر أن النزاع هو في الأساس بين المستعمَرين والمستعمِرين. ويشير الى أن عرفات كان يحمل دائما حول عنقه سلسلة علق عليها قرآنا صغيرا وصليبا قدمه له هدية الجنرال ديغول في العام 1970، وأن من بين أكثر المقربين له وجوها مسيحية من مثل رئيس مكتبه رامي خوري والناطق باسمه نبيل أبو ردينة. ويصف كابليوك شخصية عرفات بأنها تنطوي على برغماتية عالية سمحت له باللعب على الكثير من التناقضات من أجل التقدم في إتجاه هدفه في إقامة دولة فلسطينية. ويشير أيضا إلى هوسه بالعمل وذاكرته المتوقدة وكاريزماتيته التي يعترف له بها أعداؤه قبل أصدقائه.
في مكان آخر من الكتاب يخصص كابليوك صفحات للكلام عن علاقات عرفات بالنساء وزواجه من سهى الطويل، ويروي كيف أنه كان متكتماً على علاقاته بالنساء، ومع ذلك فالمعروف أنه عاش تجربة خطوبة قصيرة في الكويت أواخر الخمسينات. أما في بداية السبعينات فقد ارتبط بفتاة لبنانية وطلب يدها، وكان اسمها ندى وهي أرملة لأحد شخصيات المنظمة، لكن هذه الفتاة اغتيلت لدى خروجها من مقابلة كانت تجريها مع الرئيس سليمان فرنجية. ثم شاع عن عرفات ارتباطه بإحدى موظفاته نجلا ياسين التي كانت مديرة مكتبه حتى العام 1985. لكن كلا الاثنين نفى ذلك.
أما عن سهى فيقول كابليوك إن عرفات تعرف اليها من طريق والدتها ريموندا الطويل وسرعان ما عيّنها مستشارة اقتصادية له وتزوجها سراً في 17 تموز 1990 وكان صديقه اللدود الدكتور جورج حبش أحد شهود هذا الزواج الذي تم في تونس. وبقي هذا الزواج سراً إلا للمقربين حتى كشفت عنه صحيفة هآرتس بعد عام ونصف عام من إتمامه بفضل الصحافي غيدون ليفي المقرب من الفلسطينيين. ويشرح كابليوك كيف أن زواج عرفات لم يغير شيئا من أسلوب حياته إذ بقي يكرس معظم وقته لهمّه الأول الذي اسمه فلسطين.
الطفولة والشباب
يشير كابليوك إلى الغموض الذي يحيط بتاريخ ولادة ياسر عرفات ومكانها، فإذا كانت سنة الميلاد شبه مؤكدة وهي العام 1929، فإن التاريخ غير معروف بالضبط:هل هو 4 أو 13 آب؟ أما مكان الولادة فالروايات تتعدد بما فيها روايات ياسر عرفات نفسه. فهو تارة ولد في القدس وطوراً في غزة أو في القاهرة، وإن كان كابليوك يميل إلى رواية المقربين لعرفات والتي تقول إنه ولد في حي السكاكيني في العاصمة المصرية. أما اسم عرفات الحقيقي فهو الآخر إشكالي! فإسمه عند الولادة هو محمد عبد الرحمن عرفات القدوة الحسيني وسيضيف اليه لاحقا اسم ياسر. إسم والده هو عبد الرؤوف وإسم والدته زهوة أبو السعود التي توفيت ولياسر عرفات 4 سنوات من العمر. عاش والد عرفات في تلك الفترة بين القدس وغزة والقاهرة، أما عائلة والدته فظلت في القدس. وكان عرفات يفتخر على الدوام بأصول عائلته الحسينية لجهة الأب والأم معاً، فعندما هدد نتنياهو خلال معركته الإنتخابية في كانون الثاني من العام 2003 بطرد عرفات من فلسطين، استدعى الأخير على عجل مؤتمراً صحافياً في المقاطعة وقال فيه الآتي رداً على نتنياهو: عليه أن يعرف أنني أنا ياسر عرفات أنتمي الى عائلة الحسيني أباً عن جد وجد الجد إلخ. وكلهم من جيل إلى آخر سكنوا في هذا البلد. أنا هنا على أرضي وعلى ارض أجدادي .
خلال طفولة عرفات التي عاشها بين القاهرة والقدس، كان لخاله سليم أبوالسعود تأثير كبير عليه. فهذا الرجل المتدين الذي كان يعمل مؤذناً ويسكن بالقرب من حائط البراق (المبكى)، استضاف ياسر وأخاه الأصغر فتحي بعد وفاة والدتهما أربع سنوات في داره المقدسية، التي دمّرها الإحتلال الإسرائيلي في العام 1969 خلال عمليات هدم الأبنية التاريخية التي تضم الزاوية الفخرية من أجل توسيع ساحة حائط البراق.
بعد عودته إلى القاهرة في أعقاب اندلاع ثورة الـ 36، عاش ياسر مع والده عبد الرؤوف وزوجته نظيرة وبقية أولاد العائلة. ومع إقرار الأمم المتحدة التقسيم في العام 1947 قام الشاب ياسر بمهمة شراء الأسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية وجاء بها إلى منزل عبد القادر الحسيني في القاهرة حيث كانت تجمع قبل إرسالها إلى هذا الأخير الذي كان على رأس جيش الجهاد المقدس في فلسطين. وفي ذلك المنزل القاهري تعرف ياسر عرفات الى الطفل فيصل الحسيني وعلّمه بعضاً من القرآن.
في العام 1948 دخل ياسر عرفات كلية الهندسة في جامعة الملك فؤاد الأول (جامعة القاهرة لاحقاً) وما هي إلا أشهر حتى ترك الدراسة والتحق في غزة بمجموعة من متطوعي الأخوان المسلمين المصريين وتركهم لاحقاً لينضم الى كتائب الجهاد المقدس حيث عمل ضابط مخابرات. في جنوب فلسطين شهد الشاب عرفات وقوع النكبة وعاد إنساناً آخر في صيف ذلك العام إلى القاهرة بعد ما شهد قيام إسرائيل وسحقها للجيوش العربية.
قال عرفات للشاعر محمود درويش في مقابلة أجراها معه هذا الأخير في العام 1979 ونشرتها مجلة شؤون فلسطينية عن تلك الفترة إنه منذ ذلك الوقت وبعدما أجبر المقاتلون الفلسطينيون على تسليم أسلحتهم للجيوش النظامية (كان عرفات واحداً منهم) أدرك أنه وراء إرسال تلك الجيوش العربية التي لم تكن مهيأة للقتال، كان هناك مؤامرة تحاك . وكرر عرفات في القاهرة لمن أراد أن يسمع أن ما تعلمه من تلك التجربة أن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يعتمدوا إلا على قواهم الذاتية.
من النكبة إلى فتح
تردد عرفات الشاب بين أن يسافر إلى تكساس في الولايات المتحدة لدراسة الهندسة المدنية كما كانت تريد له عائلته، وبين أن يبقى في القاهرة لإكمال دراسته ونشاطاته النضالية. تقدم عرفات مع ذلك بطلب فيزا، لكن تأخر وصول الجواب جعله يغيّر رأيه فقرر البقاء في مصر. في تلك الفترة ازدادت صلة عرفات بالقضية الفلسطينية من طريق أخيه الأكبر جمال عرفات الذي كان يشغل منصب السكرتير الخاص للزعيم الوطني الفلسطيني أحمد حلمي عبد الباقي الذي كان يرأس حكومة فلسطين في المنفى، التي تشكلت في رعاية الجامعة العربية واستمرت حتى العام 1952.
في العام 1951 انضم عرفات إلى مقاتلي الأخوان المسلمين الذين كانوا ينشطون ضد القوات البريطانية في منطقة السويس وشارك معهم في بعض العمليات العسكرية. في تلك الفترة، ولمدة ثلاثة أشهر ومن ثم في العطلة الصيفية شارك في دورة عسكرية وتخرج برتبة ضابط احتياط والتقى بعض الضباط الأحرار وعلى رأسهم خالد محيي الدين.
في الجامعة انتخب ياسر عرفات رئيساً لرابطة الطلبة الفلسطينيين في العام 1952 وبقي على رأسها حتى العام 1956. وتعرف في تلك الفترة الى صلاح خلف (أبو إياد) الذي كان عضواً في جماعة الأخوان المسلمين ، الأمر الذي سمح لعرفات بتوطيد العلاقة معهم في الجامعة، ولكنه تقرب كذلك من طلاب الوفد والشيوعيين. ومع قيام ثورة 23 يوليو التقى عرفات على رأس وفد من رابطة الطلاب في العام 1952 اللواء محمد نجيب رئيس الدولة ونتج من اللقاء بالإضافة إلى الصورة الشهيرة التي جمعته مع اللواء نجيب، تسهيلات لدخول الطلاب الفلسطينيين إلى الكلية الحربية في مصر. لكن مع محاولة الاغتيال التي تعرض لها جمال عبد الناصر في تشرين الأول من العام 1954، ساءت علاقة الأخوان المسلمين بضباط الثورة وانتهى الأمر بمعظم أعضاء الحركة ومناصريها إلى السجن، ودخل عرفات السجن للمرة الأولى في حياته لكن اعتقاله لم يدم أكثر من شهر واحد. بعد خروجه تعرف الى خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان هو الآخر يتابع دراسته في القاهرة وينشط سياسياً في الأوساط الفلسطينية ويحاول تنظيم عمليات فدائية انطلاقا من قطاع غزة.
في العام 1956 نال عرفات شهادة الديبلوم في الهندسة المدنية من جامعة القاهرة وعمل لفترة وجيزة في مؤسسة الإسمنت المصرية قبل أن يغادر إلى الكويت حيث حصل هناك على وظيفة في وزارة الإنشاءات العامة ومن ثم أسس شركة مقاولات خاصة بالاشتراك مع رجل أعمال مصري. وبعد فترة لحق به إلى الكويت كل من أبو إياد وأبو جهاد وخالد الحسن وفاروق القدومي، الذين انشأوا مجتمعين في 10 تشرين الأول من العام 1959 حركة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) التي ستجعل هدفها الوحيد تحرير فلسطين بالقوة وإقامة دولة مستقلة على أراضيها، واشترطت على أعضائها أن لا يكون لهم أي انتماء حزبي آخر.
العمل العسكري
في الفترة بين 1959 والعام 1964 حاولت فتح توسيع قواعدها بين فلسطينيي الشتات في البلاد العربية وعمدت إلى جمع التبرعات وتأمين الموارد المالية قبل البدء في العمل المسلح. وكان للمجلة الشهرية التي نشرتها في بيروت، فلسطيننا- نداء الحياة دور أساسي في إيصال خطاب الحركة الى الفلسطينيين وبناء شبكة مؤيدين بينهم. ورغم أن المقالات في المجلة لم تكن موقعة فإن رئيس تحريرها والمشرف الفعلي عليها لم يكن سوى أبو جهاد.
في تلك الفترة تنقل أبو عمار بكثرة بين البلدان العربية بحثا عن السلاح والدعم المادي ونسج علاقات وثيقة مع جبهة التحرير الجزائرية التي خرجت متوجة بعد انتصار الثورة، ومد الجسور إلى الدوائر الحاكمة في مصر الناصرية وسوريا البعثية التي وجد فيها صدى أكبر لنزعته الاستقلالية تجاه عبد الناصر. وكانت دمشق ثاني عاصمة عربية بعد الجزائر تستقبل مكتبا لـ فتح على أراضيها.
في 28 آذار من العام 1964 شارك عرفات كمندوب عن فلسطينيي الكويت في المجلس الوطني التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي عقد في القدس في رئاسة الشقيري وفي حضور 422 مندوباً بينهم أبو جهاد وخالد الحسن.
لكن رغم كل التحضيرات فإن أبو عمار بقي أقلية في اللجنة المركزية للحركة في ما خص تاريخ البدء بالعمل المسلح. فأغلبية الأعضاء كانت تفضل الانتظار لتهيئ شروطا أفضل. وتوجب انتظار شهر تشرين الثاني من العام 1964 حتى يقر المجلس العسكري لحركة فتح المنعقد في عمان البدء بالعمليات العسكرية في اليوم الأول من العام 1965 والذي تكرس تاريخاً لانطلاق العمل المسلح الفلسطيني ولولادة منظمة العاصفة الذراع العسكرية لـ فتح . لكن معظم العمليات في مرحلة البداية لم تحقق نتائج باهرة على المستوى العسكري بسبب ضغط الحكومات العربية ونقص خبرة الفدائيين، لكنها مع ذلك رفعت معنويات الفلسطينيين وأعطت فتح أسبقية البدء بالكفاح المسلح الفلسطيني. أما مجلة فلسطيننا فكتبت في عددها الأخير في تشرين الثاني 1964 قبل أن تتوقف عن الصدور، الآتي: الرأي العام العالمي لا يحترم إلا الأقوياء. سنفعل كل ما في وسعنا من أجل اللحظة التي ستطلق فيها الرصاصة الأولى والتي من بعدها سننال إحترام العالم... ألف قذيفة كلام، لا تساوي قذيفة معدنية واحدة .
من النكسة إلى الكرامة
بعد هزيمة حزيران دخل أبو عمار سراً إلى الضفة الغربية لتنظيم خلايا المقاومة التابعة لـ فتح ، وانتقل سرا بين مدن جنين وطولكرم ونابلس ورام الله والقدس وصولا إلى يافا بالقرب من تل أبيب في الفترة بين تموز وتشرين الأول. ونجا من محاولات اعتقال قام بها الجيش الإسرائيلي و الشين بيت الذي كان في أعقابه.
في 21 آذار 1968 عبر الجيش الإسرائيلي نهر الإردن في اتجاه قرية الكرامة حيث واحد من مقار قيادة حركة فتح . والهدف تدمير معسكرات الحركة وقتل ابو عمار أو أسره وتلقين الفلسطينيين درساً. قرر أبو عمار وصحبه البقاء والقتال في مواجهة الإسرائيليين بدلا من الانسحاب الفوري. ورغم الخسائر التي تكبدها الفلسطينيون وإضطرارهم في النهاية إلى الانسحاب فإنهم نجحوا مع ذلك في تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة فاقت الثلاثين قتيلا وتدمير آليات ودبابات تابعه له. هذه المعركة حشدت ألوف المتطوعين وجعلت من فتح الفصيل الأول في الثورة الفلسطينية وقدمت علناً الى العالم وللمرة الأولى شخصية ياسر عرفات الذي عين ناطقاً رسمياً باسم فتح ومن ثم للجنة التنظيمية لمنظمة التحرير الفلسطينية في 4 شباط من العام 1969 وذلك بعد فترة وجيزة من إستقالة الشقيري.
مع تفجر أحداث أيلول الأسود في عمان اعطيت الأوامر لعناصر الجيش الأردني بإلقاء القبض على عرفات حياً أو ميتاً ونجا أبو عمار وأبو إياد وأبو جهاد ونايف حواتمة من الموت بأعجوبة عندما سقطت قذيفة داخل مخبأهم بالقرب من مخيم الوحدات وانفجرت في خزانة من الحديد موجودة في الغرفة. وروى عرفات كيف حاصرت القوات الأردنية مخبأه مرتين وأذاعت بمكبرات الصوت منادية عليه بالاستسلام لكنه نجح في الهرب بفضل مساعدة الأهالي. وعن طريق التخاطب بالرسائل من طريق الإذاعة الأردنية تمكن وفد الجامعة العربية الذي كان يرأسه جعفر النميري من تحديد موعد مع أبو عمار داخل السفارة المصرية. وبفضل اللباس الخليجي الذي قدمه له وزير الدفاع الكويتي الشيخ سعد العبد الله، تنكر أبو عمار كمرافق للشيخ وغادر مع وفد الجامعة العربية مطار عمان في اتجاه القاهرة. ولحق به عاجلاً الملك حسين حيث وقّعا معا اتفاقا لوقف إطلاق النار لم يصمد طويلا بعد وفاة راعيه الرئيس جمال عبد الناصر الذي أطلق عليه عرفات لقب شهيد الثورة الفلسطينية .
الاعتراف الدولي
رغم الأعمال الثأرية لمجموعة أيلول الأسود المقربة من فتح والتي هزت العالم في بداية السبعينات، فان منظمة التحرير حققت في تلك الفترة العديد من النجاحات الديبلوماسية. ففي العام 1973 كرس المؤتمر الخامس لدول عدم الانحياز المنعقد في الجزائر منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وكذلك مؤتمر القمة العربية السادس المنعقد هو الآخر في الجزائر. وفي شباط من العام 1974 شارك عرفات في المؤتمر الإسلامي المنعقد في لاهور في باكستان ونال الاعتراف من الدول الإسلامية وتنازل له مفتي القدس الحاج أمين الحسيني عن مقعد فلسطين الذي شغله في المؤتمرات السابقة.
لكن يوم عرفات الأكبر كان في تشرين الثاني من العام 1974 عندما اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بمنظمة التحرير كحركة تحرر وطني ودعت عرفات لإلقاء كلمة أمامها في نيوريوك. فكان خطابه الشهير جئتكم حاملا غصن الزيتون في يد والبندقية في يد أخرى الذي كتبه مع مساعديه وقام الشاعر محمود درويش بوضع اللمسات الأخيرة عليه. بعد هذا الخطاب تبنت الجمعية العامة قرارا يعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وأعطت وفد منظمة التحرير صفة مراقب دائم في الأمم المتحدة.
وفي العام 1977 كان عرفات حاضرا في مجلس الأمة المصري عندما ألقى السادات خطابه الشهير الذي أعلن فيه استعداده للذهاب إلى القدس إذا كان هذا سيسمح له بتحرير الأراضي المحتلة. وصفق عرفات مع بقية الحضور وانطلت عليه الخدعة فلم يدرك إلا بعد أيام أن السادات كان يعني حقا ما يقول.
التجربة اللبنانية
بعد طرد الفلسطينيين من الأردن وبفضل اتفاق القاهرة ، أصبح لبنان البلد العربي الأول لتمركز منظمة التحرير بتياراتها المتعددة وقواتها العسكرية. واطلق على الجنوب اسم فتح لاند ونظمت فتح نفسها كدولة داخل الدولة كما حدث في الاردن. ومنذ بداية السبعينات بدأت المشاكل مع الجيش اللبناني ثم مع الأحزاب المسيحية. ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية كانت المنظمة جزءا فاعلا فيها رغم محاولات أبو عمار اليائسة لإبقاء الفلسطينيين خارج حلبة الصراع. ورغم مرور الكاتب أمنون كابليوك على بعض المحطات الأساسية من الحرب الأهلية من مثل مجازر تل الزعتر والدامور وعلاقة عرفات مع بعض الفرقاء اللبنانيين فإن تجربة عرفات اللبنانية لا تأخذ مكانا واسعا من الكتاب إلا في ما يخص حصار بيروت وما تلاه.
وفي هذا المجال روى كابليوك كيف رفض عرفات المغادرة إلى دمشق مع بدء الاجتياح الاسرائيلي وفضل البقاء إلى جانب قواته في بيروت التي عاد إليها مسرعاً من مدينة جدة في المملكة السعودية. وأعلن أن قواته لن تستسلم وأنها ستقاتل حتى الشهادة. وروى كابليوك حال الشهادة الصوفية التي اجتاحت عرفات حيث كان يعني فعلا ما يقول. رفض كل عروض شارون بالاستسلام ورفع العلم الأبيض على برج المر ومغادرة بيروت من بعدها مع رجاله. وظل مصراً حتى النهاية على ابقاء سلاح المقاومين في ايديهم، كما رفض اقتراحات باللجوء إلى السفارة السوفياتية وترك رجاله وحدهم. وخلال تلك الفترة جرت محاولات لاغتيال عرفات الذي كان لا ينام ليلتين متتاليتين في المكان نفسه متنقلا باستمرار من مكان الى آخر مستخدماً سيارات عدة وأحيانا دراجة نارية. ومن بين سبعة مخابئ لعرفات في بيروت تم تدمير ستة لكنه نجا من الموت إذ نجح في كل مرة بترك المكان قبل دقائق من قذفه. ومع اتفاق فيليب حبيب غادر عرفات وقواته بيروت على متن سفن يونانية في اتجاه تونس، وفي مرفأ بيروت كان عرفات بحسب كابليوك على مرأى من القناصة الإسرائيليين، لكن هؤلاء بقوا دون الضوء الأخضر لإطلاق الرصاص بسبب خوف مناحيم بيغن من نقض التعهد الذي أعطاه للمبعوث الأميركي فيليب حبيب. لكن الإسرائيليين والأميركيين لم يحترموا التعهد الذي أعطوه لعرفات بحماية المدنيين في المخيمات الفلسطينية، إذ سمح الجيش الإسرائيلي لعناصر من القوات اللبنانية بدخول المخيمات لإرتكاب مجازر صبرا وشاتيلا.
مع قيام الانشقاق في فتح بدعم سوري وبداية التمرد العسكري لأبو موسى داخل معسكر اليرموك في البقاع، أعلن عرفات شخصا غير مرغوب به في دمشق وطرد منها بتاريخ 24 آذار 1983، بينما قامت قوات المتمردين وحلفاؤها السوريون وجماعة أحمد جبريل، بدفع القوى المؤيدة لعرفات بقيادة أبو جهاد في اتجاه مدينة طرابلس ومخيماتها. يومها قام عرفات بأكثر الأعمال شجاعة في حياته المضطربة بحسب الشاعر محمود درويش، اذ تنكر القائد الفلسطيني بلباس مدني وحلق ذقنه وتوجه بحقيبة يد بسيطة في الطائرة من تونس إلى قبرص تحت اسم مستعار ومن هناك غادر إلى مدينة طرابلس عبر البحر حيث ظهر فجأة فيها في العشرين من أيلول ليقود معركة طرابلس، بعدما نجح في مباغتة الإسرائيليين الذي يحاصرون المدينة من البحر والجيش السوري الذي يحاصرها من البر. ومن إسرائيل صرح شارون لصحيفة يديعوت أحرونوت أنه يجب عدم ترك عرفات يخرج حياً من طرابلس. لكن عرفات خرج مع 4000 آلاف من مقاتليه على متن سفن يونانية وبحماية طرادات فرنسية هذه المرة. وفكت إسرائيل الحصار عن طرابلس وسمحت للسفن بالعبور بعد توقيع اتفاق لتبادل الأسرى أفرج فيها عرفات عن ستة جنود إسرائيليين معتقلين لديه مقابل الإفراج عن 4500 سجين أسير لدى الجانب الإسرائيلي. وفي طريقه من طرابلس إلى اليمن الشمالية توقف عرفات في بور سعيد رغم المقاطعة العربية لمصر، ومنها توجه في طائرة هليكوبتر إلى القاهرة لمقابلة الرئيس حسني مبارك في خطوة مفاجئة عرضته لانتقادات واسعة من المعسكر الرافض لكامب ديفيد وحتى من المقربين منه. لكن الحس السياسي لعرفات جعله يدرك أن لا حل أمامه سوى البدء بالتقارب ليس فقط مع الأردن ولكن مع مصر كذلك. ورغم أن أبو إياد كان أحد أشد معارضي هذا التقارب، فإنه قال عنه في العام التالي أمام المجلس الوطني المنعقد في عمان الآتي: كنا جميعاً منزعجين من هذه المبادرة. لكن أحياناً يجب أن يكون هناك مبادر في دفع باب التاريخ، إذا كنا نريد فعلا فتحه .
الانتفاضة
في الأول من تشرين الأول من العام 1985 أغارت الطائرات الإسرائيلية على مقر المنظمة ومكتب عرفات في حمام الشط بتونس العاصمة وأوقعت 71 قتيلا. لكن عرفات نجا من جديد، فقد كان في طريقه إلى المقر بعدما بات ليلته في منزل سفير فلسطين في تونس حكم بلعاوي في نهاية سهرة متأخرة جمعته مع محمود درويش وأصدقاء له قدموا من باريس لرؤية عرفات. وفي اليوم التالي صرح أبو عمار بالآتي: إنهم لا يريدون التفاوض، بل يريدون قتلي .
في تلك الفترة ورغم حرب المخيمات واشتداد حركة التمرد الفلسطيني ضد عرفات بدعم من سوريا، فإنه أوعز الى مقربين منه نسج علاقات ولقاءات مع المنشقين ودعاة السلام الإسرائيليين، واجتمع مع العديد منهم كمؤسس حركة السلام الآن الجنرال ليبيد ماثيتياهو أو النائب أوري أفنيري أو أبي ناتان وجميعهم سافروا سراً الى تونس من أجل لقائه.
في 8 تشرين الثاني من العام 1987 انعقدت في عمان القمة العربية، في أجواء من الفتور المستجد في علاقات المنظمة ليس فقط مع مصر، بل مع الأردن كذلك. فبالإضافة إلى المحاولة الأردنية لحذف إحدى الفقرات من مقررات القمة التي تتحدث عن تمثيل منظمة التحرير للفلسطينيين بوفد مستقل في أي مؤتمر سلام دولي، فإن عرفات كان الزعيم العربي الوحيد الذي لم يجد الملك حسين في استقباله لدى وصوله إلى مطار عمان لحضور القمة، الأمر الذي دفع عرفات لأن يقول عبارته الشهيرة في عمان والتي سبقت الانتفاضة بشهر واحد: لا تهمشوننا .
في 9 تشرين الثاني 1987 اندلعت انتفاضة الحجارة بدءاً من مخيم جباليا ثم في كامل الأراضي المحتلة. في البداية ظن القادة الإسرائيليون أن الأمور ستعود الى مجراها خلال أيام، أما عرفات فصرح منذ الأسبوع الأول أن هذه الانتفاضة ستستمر طويلاً ، وما هي إلا ثلاثة اسابيع حتى تشكلت القيادة الموحدة للانتفاضة وبدأت بدفع التحرك الشعبي رويداً رويداً في اتجاه العصيان المدني. وأخذ عرفات قرارا مهماً بمنع استخدام الأسلحة النارية، وصرح لجريدة السياسة الكويتية بالآتي: منع استخدام الأسلحة في الانتفاضة هدفه عدم السماح للإسرائيليين بارتكاب المجازر... قوتنا لا تنبع من نوعية الأسلحة ولكن من عدالة قضيتنا .
بعد أشهر قليلة على بداية الانتفاضة وفي 16 نيسان 1988 اغتالت إسرائيل أبو جهاد، الصديق الأقرب لأبو عمار والقائد العسكري لـ فتح . وأصبح للانتفاضة بطلها الذي دفن في جنازة مهيبة في دمشق التي وصلها أبو عمار بعد ثلاثة أيام على مراسم الدفن وتوجه فورا الى مقبرة الشهداء في المخيم لزيارة قبر أبو جهاد، واندلعت على الفور تظاهرة حاشدة لتحية أبو عمار ورفعت الجموع سيارته.
وبفضل الانتفاضة وجد كل من منظمة التحرير وعرفات تعاطفا عربيا ودوليا لم يلبث أن ترجم من خلال مكاسب عدة. ففي 31 تموز 1988 أعلن الملك حسين قطع كل العلاقات الادارية والقانونية مع الضفة الغربية، وفي منتصف أيلول استقبل عرفات رسمياً لأول مرة في البرلمان الأوروبي، وأعلن أن إسرائيل في حاجة إلى ديغول إسرائيلي لصنع السلام.
وفي منتصف شهر تشرين الثاني انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في العاصمة الجزائرية، وقرر إعلان الاستقلال الذي كتبه الشاعر محمود درويش وقرأه أبو عمار بصوته الجهوري من على المنصة معلناً قيام الدولة الفلسطينية.
في 13 كانون الأول من العام 1988 انتقلت الجمعية العامة للأمم المتحدة مع ممثلي 159 بلدا وفي حضور 50 وزيرا للخارجية من نيويورك إلى جنيف للاستماع إلى خطاب عرفات بعدما رفضت إدارة ريغن إعطاءه تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة الأميركية بسبب تهمة الإرهاب. لكن عرفات انتهى بإعطاء وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز ما يريده من إدانة واضحة للإرهاب وإقرار بوجود إسرائيل والاعتراف بالقرار 242، وعلى هذا الأساس فتحت الولايات المتحدة لأول مرة حواراً مباشراً مع المنظمة. وخلال مؤتمر صحافي عقده أثناء وجوده في جنيف رد عرفات على صحافي أميركي حاول أن يطلب منه من جديد تأكيداً قبوله غير المشروط بالقرارين 242 و338 أجابه عرفات: بالتأكيد قبلت... كفى الآن ماذا تريدون أكثر؟ ستربتيز؟ .
الطريق الى أوسلو
مع احتلال صدام للكويت وقف عرفات مع الحل العربي ورفض أن يدين الغزو العراقي، ومع نهاية حرب الخليج سئل عرفات إذا لم يكن قد أخطأ في مواقفه ووضع نفسه في معسكر الخاسرين وزاد من عزلته، فكان جوابه: في الحقيقة أن الخاسر هو الأمة العربية والرابح هو إسرائيل. لقد انهارت البنية التحتية لبلدين عربيين. أما بالنسبة للعزلة فأهلا بها إذا كانت تعني أنني على خلاف مع بعض الزعماء العرب الذين أرادوا ضرب العراق. نحن لسنا مرتزقة يدفع لنا من أجل أن نشارك في ذبح أمتنا . وفي تلك الفترة أيضا تعرض عرفات لهزة قوية مع اغتيال أبو إياد الرجل الثاني في المنظمة الأمر الذي دفعه الى ان يسرّ الى صديق له أنه أصبح يتيماً بعد اغتيال أبو جهاد وأبو إياد.
وفي حادث الطائرة الشهير الذي وقع له في تلك الفترة روى كابليوك كيف أن عرفات عندما علم بالهبوط الاضطراري في الصحراء الليبية إرتدى سترته العسكرية وردد مع الركاب بعض الآيات القرآنية وصرخ لحظة اصطدام الطائرة بالأرض الجملة الآتية: أبو جهاد، أنني آت... . لكن عرفات لم يلحق بأبو جهاد ونجا مرة أخرى من موت محقق.
في العودة الى مؤتمر السلام ورغم الفيتو الذي وضعه اسحق شامير على مشاركة منظمة التحرير في مؤتمر مدريد للسلام، فإن عرفات قبل بمشاركة المفاوضين الفلسطينيين من خلال وفد مشترك مع الأردن. هذه المفاوضات التي تواصلت في ما بعد بين الجانبين في واشنطن على مدى العامين 1992 - 1993، ورغم المنع الذي كان يعاقب الإسرائيليين والفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال في حال اجتماعهم مع أعضاء في منظمة التحرير، فإن الوفد الفلسطيني المفاوض اجتمع علنيا مع أبو عمار في العاصمة الأردنية.
ومع وصول إسحق رابين إلى السلطة، تم فتح قناة سرية للتفاوض في العاصمة النروجية أوسلو، شارك فيها من الجانب الفلسطيني ممثل مباشر لمنظمة التحرير هو رئيس الوزراء الحالي أبو علاء والذي انضم اليه لاحقا أبو مازن.
وبقي أمر هذه المفاوضات مجهولاً حتى اللحظة الأخيرة لدى الإدراة الأميركية والمفاوضين الفلسطينيين في واشنطن. وفي 13 تشرين الأول من العام 1993 وقع في البيت الأبيض في واشنطن وفي حضور عرفات ورابين إعلان المبادئ مع ملحق يضم اتفاقات أوسلو والتي قدم فيها عرفات تنازلات مهمة لجهة اللاجئين ووقف الاستيطان ووضع القدس على اعتبار أنها اتفاقات انتقالية وكون القيادة ستصبح في الداخل، وبرر عرفات لكابليوك موقفه بالآتي: صدقني، هذا ذروة ما استطعنا انتزاعه منهم، وهذا ذروة ما استطاعوا إعطاءنا إياه . وروى كابليوك أنه بالإضافة الى حيدر عبد الشافي الذي قاطع حفل التوقيع، فإن سهى عرفات كانت غائبة هي الأخرى بسبب رفض أبو مازن القاطع أن تكون ضمن الوفد المرافق إلى درجة جعلته يقول لعرفات يا أنا، يا هي . وروى كابليوك كيف أن كلينتون ورابين أصرا على أن ينزع عرفات مسدسه ولباسه العسكري خلال حفل التوقيع، وكيف أن هذا الأخير خضع في موضوع المسدس لكنه بقي مصراً على ارتداء بذلته العسكرية. وعن مصافحته الشهيرة مع رابين قال عرفات: مددت يدي له فتردد. أبقيتها ممدودة وقلت له: شد على يدي... في هذه اللحظة فكرت برفاقي الشهداء الذين اغتيلوا على الطريق، وتمنيت لو استطاعوا رؤيتي وأنا أصافح رابين. أعرف أنهم كانوا سيتفهمون. فسلام الشجعان صنعته معهم .
وإذا كان الشاعر محمود درويش لم يكتب هذه المرة خطاب أبو عمار في البيت الأبيض وفضل الانسحاب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بسبب معارضته اتفاق أوسلو، فإنه مع ذلك صاغ لأبو عمار خطابه الذي ألقاه بعد عام لمناسبة حصوله مع رابين وبيريز على جائزة نوبل للسلام.