شيخ الإسلام مصطفى صبري العالم المجاهد والمتكلمالتاريخ:24/4/2016 محمد عابد
فيعام 1869م ولد الشيخ مصطفى صبري في الأناضول في مدينة توقاد التي ينسب إليها. وتعلم عند والده الشيخ أحمد التوقادي وأتم دراسته الأولية في توقاد حيث حفظ القرآن الكريم وكان لدى والده رغبة شديدة في أن يصبح عالما من علماء الدين.
ثم رحل لطلب العلم الشرعي في إلى مدينة قيسري ثم توجه بعدها إلى الآستانة وحصل على إجازتين علميّتين.
في العام 1890م أصبح أستاذاً محاضراً في جامع السلطان محمد الفاتح بعد أن اجتاز الامتحان الذي يؤهله لهذه الوظيفة، كانت علامات النباهة واضحة في الشاب الفتي ونال إعجاب أساتذته ومشايخه فأصبح من أشهر المدرسين وهو لم يتجاوز 22 سنة من عمره وتخرج على يديه عدد كبير من الطلبة.
تم اختياره في 16 يناير 1900 م عضواً في ديوان القلم, وهو أمانة السر في دولة الخلافة العثمانية واختارته هيئة كبار العلماء المعروفة بالجمعية العلمية رئيساً لصحيفتها الأسبوعية التي كانت تصدر تحت عنوان "بيان الحق", ليصبح بعد ذلك عضواً في دار الحكمة وهي هيئة كبار العلماء.
عام 1908م تولي الشيخ صبري بعدها تدريس الحديث الشريف في مدرسة السليمانية وأصبح نائباً عن مدينة توقاد في المشروطية الثانية.
وفي سنة 1908 م أعلن الدستور الجديد الدستور الثاني وكان الشيخ قد انتخب عن بلدته توقاد في الأنضول نائبا فبرز اسمه كشخصية سياسية قادرة على الخطابة والإقناع ولم يلبث حين علم سوء نية الاتحاديين أن انضم إلى حزب تألف من الترك والعرب والأروام الذين يعارضون سياسة الإتحاديين والنزعة الطورانية التي اتسم بها الاتحاديون وكان نائبا لرئيس هذا الحزب المعارض.
في عام 1913 م استفحل أمر الاتحاديين وزاد نفوذهم ففر الشيخ من اضطهادهم فأقام بمصر مدة ثم تنقل في دول أوروبا حتى استقر به المقام لاجئاً في بوخارست هي عاصمة رومانيا وأقام هناك وعندما دخلتها الجيوش التركية في الحرب العالمية قبض عليه وظل معتقلا إلى أن انتهت الحرب بهزيمة تركيا وفرار زعماء الاتحاديين فعاد إلى نشاطه السياسي في الآستانة.
في العام 1919 م كان للشيخ مكانة علمية وأدبية واسعة بين معاصريه واستمر في التدريس والوعظ والإرشاد حتى تولى منصب المشيخة الإسلامية وذلك بعد صدور الإرادة السلطانية بذلك, وظل الشيخ صبري محتفظاً بمنصبه في الوزارتين المتعاقبتين وكان عضوا في مجلس الشيوخ العثماني وناب عن الصدر الأعظم في رياسة الوزراء أثناء غيابه في أوروبا للمفاوضات.
في عام 1923م وقبل استيلاء الكماليين على الآستانة غادر الشيخ إلى مصر مضطرا ثم انتقل إلى الحجاز في ضيافة الشريف حسين في مكة المكرمة ثم عاد إلى مصر حيث احتدم النقاش بينه وبين المتعصبيين لمصطفى كمال أتاتورك وكان الجميع مخدوعا به إلا أن الشيخ كان واعيا له ولما يخطط له الكماليون فكان يعارضهم في حين كان الجميع مخدوعا بمصطفى كمال أتاتورك حتى قال فيه أمير الشعراء أحمد شوفي : "يا خالد الترك جدد خالد العربي ".
ولكن الشيخ كان يملك من الوعي والفطنة ما جعله يتنبه لمخططاته ويفضحها أمام الناس ولكن لا مجيب ثم انتقل إلى لبنان وطبع هناك كتابه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) وقد طبع الكتاب مرتين بعناية الدكتور مصطفى حلمي وعليه دراسة له تحت عنوان الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية. واستمر الشيخ في تنقلاته فزار عدداً من الدول الأوروبية فسافر إلى رومانيا ثم إلى اليونان واستقر فيها خمس سنوات، وكان يصدر فيها جريدة (يارن) ومعناها الغد حتى أخرجته الحكومة اليونانية بناء على طلب الكماليين وعاد إلى مصر سنة 1932م واستقر فيها حتى وفاته عام 1954.
في مصر مرّ الشيخ بمحن وفتن عظيمة ومضايقات من قبل غالبية الشعب المصري بسبب خداع مصطفى أتاتورك للناس والدعاية الكبيرة التي كان يوجهها ضد الشيخ وكان يعاني من الفاقة طوال هجرته فقد اضطر لبيع كتبه للحصول على نفقات السفر مع أسرته وكم هي الكتب عزيزة على العالم ولم يستطع إلا ركوب الدرجة الثالثة خلال سفره.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على نزاهة الشيخ حيث تولى منصب مشيخة الإسلام أربع مرات ولم يجمع الأموال الطائلة من وراء منصبة، فللّه در هؤلاء المخلصين لدينهم وأمتهم وقد نقل لنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في كتابه صفحات من صبر العلماء أن الصحف العالمية نشرت خبر صيام (غاندي) الهندوسي احتجاجا على سياسة الإنجليز في بلاده فارتجت بهذا النبأ أرجاء العالم عندئذ تفجرت عواطف الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام فقال شعرا :
صام شيخ الهند الحديثة غندي صومة المستميت والمتحدي
وأراني على شفا الموت أدعى شيخ الإسلام بله هند وسند
غير أن الصومين بينهما فر ق عجيب أُبْدِيهِ من غير رد
صام مع وُجْدِه وصمت لِعُدْمٍ دام مذ ضِفتُ مِصرَ كالضيف عندي
وغدا صومه حديث جميع النا س أما صومي فأدريه وحدي!
في سبيل الإسلام ما أنا لاقٍ ولئن مت فَلْيَشْ هو بعدي
فَلْيَعِشْ رغم مسلمي العصر دينٌ ضيعوه ولم يَفُوهُ بِعَهْدِ
كان مثلي يموت جوعا ولا يُعرف لو كان شيخَهم شيخُ هندِ!
وكان للشيخ مصطفى صبري العديد من الكتب والمؤلفات والرسائل والمقالات المفيدة ومن أهم هذه المؤلفات :
[list defaultattr=]
[*]
كتابه الفريد الذي يعد بحق كتاب القرن العشرين بل لم يؤلف مثله طوال القرن "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة : "إن كتابه "موقف العقل" هو كتاب القرن بلا منازع".كان هدفه في هذا الكتاب الدفاع عن الإسلام أمام الطاعنين فيه من الفلاسفة الحداثيين، وكان يثبت أن الدين الإسلامي قائم على قواعد من المنطق والعقل السليم فهو يثبت وجود الله أمام الملحدين من الفلاسفة بالدليل العقلي ويرد على كبار الفلاسفة ويحلل أقوالهم ويودر المشكلات على أفكارهم ويناقش بطريقة قلما تجد من يناقش بمثلها في هذا العصر، وهو في كتابه برهن على أن الدليل العقلي مقدم على الدليل التجريبي في عصر فتن العالم فيه بالأدلة التجريبية والعلم التجريبي يقول الشيخ : "العقل فيه كل ميزة للإنسان على غيره من المخلوقات بخلاف الحس الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان". وتعمق في مناقشة الأدلة على وجود الله ورد شبه فلاسفة الغرب .وتكلم في الكتاب كيف أن منشأ الأخلاق الفاسدة هي ما ينطوي عليه عقل الفرد من الاعتقاد فيقول "...فهذا السقوط إلى دركة الإباحة منشأه عندنا الإلحاد في الجيل الحديث المتمدن واعتقاد أنه لا حياة بعد هذه الحياة الدنيا، لأن فساد العمل إلى هذا الحد لا بد أن يكون متولدا من فساد العقيدة التي تتكون تحت حكم العقل الفاسد، فلو أنهم اهتموا بتربية عقولهم وتنميتها لهدتهم إلى طريق الدين المستقيم الذي كان يكفيهم على الأقل وازعا من الإباحة البهيمية. فإما أن لا يكون لهم عقول تدلهم على الاقتناع بالدين ومالك يوم الدين وإما أنهم لا يقتنعون بالعقل مهما دلهم على الدين جاهلين قدر الدليل ومنتظرين الدليل المحسوس، وإما أن دينهم لا يتفق مع العقل فلا يطمئن إليه عقلاؤهم ويروجون الإباحة.. وعلى كل حال فالخوض في إرضاء الشهوات من الجيل الحديث المتمدن والسعي من وراء اللذات البدنية واتخاذها المثل الأعلى في الحياة ما نشأ من زيادة أو رجحان في العقول كما زعم الأستاذ (يقصد فريد وجدي) بل من نقصان فيها وأي نقصان!!".وفي هذا الكتاب رد وناقش النتويريين وهو يسميهم (العصريين) الذين افتتنوا بالحضارة الغربية وانكروا أمورا غيبية ثابتة في الكتاب والسنة أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو ورشيد رضا وقد كان لهم ثأثير في مصر وتأثر بهم وبأفكارهم الكثير من أمثال حسن البنا ومحمد محيي الدين عبد الحميد وقاسم أمين وسعد زغلول وغيرهم.وتكلم عن الفكر المنحرف عن منهج أهل السنة كالفكر الوهابي وعن أصوله ومنبعه ورد على مؤسسي أفكاره قدما وحديثا.[*]
ومن كتب الشيخ كتاب "البشر تحت سلطان القدر" وهو كتاب يطرح فيه مسألة القضاء والقدر ويرد فيه على المخالفين لمنهج أهل السنة في ذلك وهو كتاب عالي القدر وصعب في أسلوبه وذلك راجع إلى مسألة القضاء والقدر؛ فهي مسألة فيها صعوبة في الإدراك ولكن الشيخ أبدع في حل مشكلاتها.[*]
ومن كتبه كتاب "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة" طرح فيه وجهاته السياسية ونظرياته وكشف عن خبث الاتحاديين والكماليين وناقشهم ورد عليهم وبين منهجهم الذي يخالف الدين ويسعى إلى طعن الدين من الداخل.ومن أقواله في هذا الكتاب "... لكن دين الإسلام له أحكام فردية واجتماعية وسياسية تتعلقان بالحكومة وأنه يلزم أن يكون له نفوذ على المسلمين وأقوى النفوذ ومنتهاه نفوذ السلطة وإليه يراجع في أمور العامة ... وبه يؤتمن على إعلاء كلمة الله العليا فلذلك يأبى هذا الدين إلا أن تكون له تلك القوة في يده ومن لا يرتضيه له فما هو إلا عدوه".[*]
كتاب "قولي في المرأة" هو نص مقالتين نشرتا في صحيفه "الفتح" ثم نشرتا معا ككتاب سنة 1945م في المطبعة السلفية بالقاهرة و يتكون الكتاب من قسمين رئيسين :[/list]
القسم الأول: مبدأ تعدد الزوجات
القسم الثاني: السفور والاحتجاب
وإلى هنا نوقف عنان القلم في الكتابة عن شيخ الإسلام مصطفى صبري العالم والمفكر والفيلسوف بل المتكلم الذي دافع عن الإسلام في أشد الأوقات حاجة للدفاع، وهجم على الأفكار المخالفة في أكثر الأوقات لها رواجا حتى بين المسلمين، فهو كما قال الشيخ زاهد الكوثري ــــــ وكيل المشيخة الإسلامية ـــــــ عنه:" قرة عيون المجاهدين، وسيف الناظرين، العلامة الأوحد مولانا شيخ الإسلام أمتع الله المسلمين بعلومه .. وقال عنه: هو القائم بالحجة في هذا العصر .. وقال عنه: بطل الإسلام ...".
ونحن نقول هو مجدد القرن العشرين بلا منازع لولا أن الأمة غير بارة به وبعلومه ومعارفه من ناحية النشر والتعريف رحم الله شيخ الإسلام رحمة واسعة وعوضه في جناته ما لاقا في سبيله في الدنيا.