شرح حديث (اجتنبوا السبع الموبقات)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صل الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))رواه البخاري برقم (2615)، ومسلم برقم (145).
ترجمة راوي الحديث:
أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة، اختلف في اسمه فقيل: عبد الرحمن بن صخر، وقيل: ابن غنم، وقيل غير ذلك، قال النووي في مواضع من كتبه: "اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من ثلاثين قولاً"1، وقال القطب الحلبي: "اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولاً مذكورة في الكنى للحاكم، وفي الاستيعاب، وفي تاريخ ابن عساكر"2،وذهب الأكثرون إلى الأول، مات سنة تسع وخمسين من الهجرة.
شرح مفردات الحديث:
الاجتناب: هو الابتعاد وعدم المقاربة.
الموبقات: قال الإمام النووي رحمه الله: "هي المهلكات، يُقال: (وبق الرجل) بفتح الباء (وبق) بكسرها، و(وبق) بضم الواو وكسر الباء (يوبق) إذا هلك، و(أوبق) غيره أي أهلكه"3.
السحر: "عزائمُ ورقىً وعُقدٌ تؤثر في الأبدان والقلوب فيُمرض، ويقتل، ويُفَرِّق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه"4.
الربا: "اختلفت تعريفات الفقهاء للربا باختلاف المذاهب، وعرَّفه الشافعية بقولهم: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التّماثل في معيار الشّرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين، أو أحدهما"5.
اليتيم: في اللغة هو الانفراد، وفي الشرع هو من مات عنه أبوه دون الحلم أي قبل أن يبلغ، وما بعد البلوغ لا يسمى يتيماً على الراجحقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اليتيم في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه هو الذي يهذبه، ويرزقه، وينصره بموجب الطبع المخلوق، ولهذا كان تابعاً في الدين لوالده، وكان نفقته عليه، وحضانته عليه"6.
التولي يوم الزحف: أي الفرار والهرب من المعركة حال قتال العدو.
القذف: هو الرمي والاتهام.
المحصنات: هن العفيفات الطاهرات، المجتنبات للفواحش.
الغافلات: أي الغافلات عن الفواحش، وما قذفن به.
المعنى الإجمالي للحديث:
يُحذِّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته في هذا الحديث من الوقوع في الذنوب المهلكة، والكبائر العظيمة التي تورد صاحبها المهالك، حيث عدَّ النبي صل الله عليه وسلم سبعاً من هذه الذنوب والكبائر وهي ليست للحصر، بل قد وردت نصوص أخرى بذكر بعض الكبائر والذنوب كعقوق الوالدين، والظلم، وشهادة الزور، وغيرها كثير.
وقد صنَّف العلماء قديماً وحديثاً في باب الكبائر والذنوب والمهلكات ومنهم الإمام الذهبي رحمه الله الذي صنف كتاب "الكبائر"، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله له كتاب بعنوان الكبائر، وهذا يدل على خطر الوقوع فيها، مما يستلزم الحذر منها، والمسارعة إلى التوبة، والاستغفار، والإنابة إلى الله تعالى عند الوقوع فيها يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً* إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(الفرقان:68-70).
الموبقة الأولى: الإشراك بالله: وهو جعل شريك لله سبحانه وتعالى في ربوبيته أو إلهيته، والغالب الإشراك في الألوهية؛ بأن يدعو مع الله غيره، أو يصرف له شيئاً من أنواع العبادة كالذبح، أو النذر، أو الخوف، أو الدعاء، والشرك نوعان:
الأول: شرك أكبر يخرج من الإسلام، ويخلد صاحبه في النار إذا مات، ولم يتب منه، وهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كدعاء غير الله، والتقرب بالذبح والنذر لغير الله من القبور والجن، والخوف من الموتى أو الجن أن يضروه أو يمرضوه، ورجاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات، وتفريج الكربات مما يفعل الآن حول قبور الصالحين وغيرهم قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}(يونس:18).
والنوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الإسلام لكنه ينقص التوحيد، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهو قسمان: القسم الأول شرك ظاهر وهو (ألفاظ وأفعال)، فالألفاظ: كالحلف بغير الله كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))7، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال(أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده))8، وأما القسم الثاني من الشرك الأصغر: فهو شرك خفي، وهو الشرك في الإرادات والنيات بالرياء والسمعة، كأن يعمل عملاً مما يتقرب به إلى الله تعالى يريد به ثناء الناس عليه، مثل أن يحسن صلاته، أو يتصدق لأجل أن يُمدح ويُثنى عليه، والرياء إذا خالط العمل أبطله قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(الكهف:110)، وقال النبي صل الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال(الرياء))9"10.
والشرك بالله هو أحد أكبر الكبائر يقول النبي صل الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)) ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله...)) رواه البخاري برقم (2511)، ومسلم برقم (87)، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى لمن مات ولم يتب منه، بل يكون مصير صاحبه النار كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}(النساء:48)، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}(المائدة:72)، وذلك لأن الشرك فيه مشابهة للخالق الكامل من جميع الوجوه بالمخلوق الضعيف الناقص.
الموبقة الثانية: السحر:وقد تقدم تعريف السحر بأنه عزائمُ ورقىً وعُقدٌ تؤثر في الأبدان والقلوب فيمرض، ويقتل، ويُفَرِّق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه، وعرَّفه بعض المعاصرين بأنه: "عبارة عن أمور دقيقة موغلة في الخفاء، يمكن اكتسابها بالتعلم، تشبه الخارق للعادة، وليس فيها تحد، أو تجري مجرى التمويه والخداع، تصدر من نفس شريرة تؤثر في عالم العناصر بغير مباشرة أو بمباشرة"11.
وقد اختلف في السحر هل له حقيقة أم لا؟
فالقول الأول: أن السحر له حقيقة وتأثير، وهذا ثابت بالكتاب والسنة يقول الإمام النووي رحمه الله: "والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. انتهى"12، وقال القرطبي رحمه الله: "ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت، وله حقيقة..."13، والأدلة على ذلك من القرآن: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}(البقرة:102)،ووجه الدلالة من هذه الآية أن الله تعالى أخبر أن للسحر آثارً حقيقة، ومنها أنه يتم بواسطته التفريق بين المرء وزوجته، وأن ما يتعلمونه ما هو إلا ضرر لا نفع فيه.
ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}(الفلق:1-5)، ووجه الدلالة أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر النفاثات وهن السواحر، كما أن جمهور المفسرين اتفقوا على أن سبب نزول هذه السورة هو ما قام به لبيد بن الأعصم اليهودي لعنه الله من سحر النبي صل الله عليه وسلم.
والأدلة من السنة: ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سَحَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يُقال له "لبيد بن الأعصم" حتى كان رسول الله صل الله عليه وسلم يُخيَّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: ((يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان))