بهذا المقال نلُخص تاريخ فلسطين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً دون لف ولا دوران
فلسطين.. من بلفور إلى يهودية الدولة
إن كنا نكتب اليوم مثلا، عن ذكرى الوعد البلفوري أو قرار التقسيم الأممي، أو عن معطيات المشهد الفلسطيني وآفاقه، في ظل خرائط ووثائق الحرب المحتدمة اليوم على امتداد الخريطة الفلسطينية،
فإننا لا نكتب تحت وطأة المناسبة بصورة مجردة في سياق تاريخي هادئ ورتيب،
فالذكرى تعمقت في نسيج الوعي والتفكير الفلسطيني، بل وفي الوعي الجمعي العربي،
وباتت أكبر وأخطر من أن تكون في يوم محدد، فهي على نحو أشمل وأعمق
قد غدت هاجسا إدراكيا يشمل الشعب الفلسطيني، وقد حرص الفلسطينيون على مواجهته
بالتمسك بثقافة العودة والحق الراسخ بالعودة، الذي يعني أبدية العلاقة بين الفلسطيني ووطنه
وإنسانيته ووجوده "فالنكبة في الفلسطيني والفلسطيني في النكبة".
فرغم زخم الأحداث والتطورات المتلاحقة في المشهد الفلسطيني العربي الشرق أوسطي،
ورغم الأعباء الكبيرة التي يرزح تحتها الواقع الفلسطيني، ورغم النكبات المتصلة
التي تنصب على رؤوس الفلسطينيين منذ عام 48، ورغم التضحيات والعذابات اليومية للشعب الفلسطيني، التي من شأنها -ربما- أن تشغل بال الجميع عما حصل في الماضي،
فإن الوعد والتقسيم حاضران دائما في الوعي الجمعي الفلسطيني وفي الذاكرة الوطنية الفلسطينية، باعتبارهما أضخم وأخطر عنوانين في المشهد الهولوكوستي الفلسطيني المفتوح.
مقدمات ومحطات استعمارية
إن كان وعد بلفور حاضرا في الوعي الجمعي الفلسطيني، باعتباره أساس النكبة وضياع فلسطين،
فإنه لم يكن يتيما بلا مقدمات وممهدات سبقته، تحمل ذات المضامين البلفورية، فوفق الوثائق،
فقد مهدت لاختلاق الدولة الصهيونية، سلسلة متصلة طويلة من الأفكار والمشاريع والمؤتمرات والوعود الأوروبية والأميركية التي توجت عام 1948 بإقامة "إسرائيل"،
وحسب بعض الوثائق تعود بدايات طرح "تجميع اليهود في فلسطين" وإقامة "وطن قومي لهم"
إلى مارتن لوثر، الذي وضع كتابا في هذا الصدد بعنوان "عيسى ولد يهوديا"، وكذلك كتاب
"روما والقدس" عام 1520، حيث دعا فيهما إلى "عودة اليهود إلى فلسطين".
"تعود بدايات طرح "تجميع اليهود في فلسطين" وإقامة "وطن قومي لهم" إلى مارتن لوثر،
الذي وضع كتابا في هذا الصدد بعنوان "عيسى ولد يهوديا"، وكذلك كتاب "روما والقدس"
عام 1520، حيث دعا فيهما إلى "عودة اليهود إلى فلسطين""
وتتحدث وثائق أخرى عن أن بدايات طرح "تجميع اليهود في فلسطين" بدأت في عهد آرثور كرومويل، الذي وعد اليهود بالوطن في عام 1655، وتقول ريجينا شريف في كتابها "الصهيونية غير اليهودية.. جذورها في التاريخ الغربي"، إن البدايات الأولى لطرح فكرة "تجميع اليهود في فلسطين"
كانت عام 1649، مرورا بعدد آخر من المبشرين بـ"الوطن اليهودي" ومنهم الليدي "
أستر سترانهوف"، التي دعت وبشرت بالوطن اليهودي ما بين 1804-1819،
وهناك المزيد من الوثائق التي مهدت كلها لـ"اختلاق إسرائيل في فلسطين
على أنقاض إسكات ومحو الزمن العربي الفلسطيني".
وتذكر المصادر التاريخية، أن نابليون كان أول سياسي أوروبي ينادي علانية،
بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، وهو صاحب النداء المشهور الموجه لليهود "ورثة أرض إسرائيل الشرعيين"، الذي صدر في أبريل/نيسان 1799، وسرعان ما تلقف الرئيس الأميركي
جون آدامز الفكرة، فدعا في عام 1818 إلى "استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم"، ثم تلقف رئيس وزراء بريطانيا اللورد "بالمرستون" الفكرة، ففي عام 1839 أصدر تعليمات إلى القنصل البريطاني في القدس وليام يونغ، بمنح اليهود في فلسطين الحماية البريطانية لضمان سلامتهم، وصيانة ممتلكاتهم وأموالهم.
وأثناء عقد مؤتمر الدول الأوروبية في لندن عام 1840 قدم اللورد شافتسبري مشروعا إلى بالمرستون أطلق عليه "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، داعيًا إلى أن تتبنى لندن "إعادة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة خاصة بهم"، وتبنى بالمرستون خلال المؤتمر مشروعًا يهدف إلى "خلق كومنولث يهودي في النصف الجنوبي من سوريا، أي فوق المساحة التي شغلتها فلسطين التوراتية"، وفي عام 1844 ألف البرلمان الإنجليزي لجنة "إعادة أمة اليهود إلى فلسطين"، وفي العام نفسه تألفت في لندن "الجمعية البريطانية والأجنبية للعمل في سبيل إرجاع الأمة اليهودية إلى فلسطين". وألح رئيسها القس كريباس على الحكومة البريطانية كي تبادر للحصول على فلسطين كلها من الفرات إلى النيل ومن المتوسط إلى الصحراء.
وفي عام 1845 قدم إدوارد ميتفورد، الذي كان يعتبر من أخلص أنصار بالمرستون، مذكرة إلى الحكومة البريطانية يطلب فيها "إعادة توطين اليهود في فلسطين بأي ثمن، وإقامة دولة خاصة بهم تحت الحماية البريطانية".
وفي عام 1880م تبنّى الأسقف الإنغليكاني في فيَنّا وليم هشلر النظرية التي تقول "إن المشروع الصهيوني هو مشروع إلهي، وإن العمل على تحقيقه يستجيب للتعاليم التوراتية"، وألف هشلر كتابا عام 1882م بعنوان "عودة اليهود إلى فلسطين حسب النبوءات".
وفي عام 1887 أسس بلايستون في شيكاغو منظمة "البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل" لحض اليهود على الهجرة إلى فلسطين, ولا تزال هذه البعثة قائمة باسم الزمالة الأميركية المسيحية.
يضاف إلى كل ذلك، التطورات اللاحقة، من اتفاقية سايكس-بيكو، إلى بلفور، فمؤتمر سان ريمو، ثم صك الانتداب، ثم قرار لجنة بيل، ثم مؤتمر بلتيمور، وصولا إلى قرار التقسيم 181، وبذلك تتكامل مراحل ومحطات تطورات المشهد في فلسطين في بعدها البلفوري التآمري.
بلافرة النكبة والتهويد
إذًا، لم يأت وعد بلفور يتيما، فقد سبقته كل تلك التصريحات والمؤتمرات والوعود المشار إليها، ونحن إذ نستحضرها ونحن في فضاء الذكرى الخامسة والتسعين لوعد بلفور المشؤوم، فذلك لغاية النبش في التاريخ واستحضار الحقائق والمحطات الرئيسية، التي أوصلت إليه، وأسست للتطورات التي لحقت به، إذ واصل نهجه ووعده عدد آخر من البلافرة المتصهينين، بلافرة النكبة والتشريد والتهويد، فنستحضر دائما عوامل ومسببات النكبة، وقيام تلك الدولة الصهيونية على أنقاض الوطن والشعب العربي الفلسطيني، ونتذكر وعد/تصريح بلفور الذي منح فلسطين "وطنا قوميا لليهود –بغير حق"، وحول النبوءة الهرتسلية من وهم إلى حقيقة، فكلما حلت مجزرة أو نكبة جديدة بالفلسطينيين، نتذكر ذلك الوعد، ونجرم بريطانيا الاستعمارية، وكلما اقترفت دولة الاحتلال المزيد من النكبات، نلعن دائما وعد بلفور الذي لا ينتهي!
"كلما حلت الذكرى البلفورية، يستحضر الفلسطينيون ومعهم العرب، تلك المناخات والمؤامرات التي أحاطت بفلسطين أيام بلفور، وبعده بثلاثين عاما "قرار التقسيم"، وكلاهما نتاج بريطاني كامل الدسم لصالح المشروع الصهيوني"
فكلما حلت الذكرى البلفورية، يستحضر الفلسطينيون ومعهم العرب، في مقدمة ما يستحضرونه تلك المناخات والمؤامرات التي أحاطت بفلسطين أيام بلفور، وبعده بثلاثين عاما "قرار التقسيم"، وكلاهما نتاج بريطاني كامل الدسم لصالح المشروع الصهيوني، فالعلاقة الجدلية بين الوعد والقرار قوية عميقة وإستراتيجية، فلولا الوعد لما جاء التقسيم، ولولاهما معا لما ولد "الصبي-إسرائيل"، ولولا الاحتضان البريطاني الاستعماري الكامل الشامل للمشروع الصهيوني، لما ضاعت فلسطين.
فالوعد يلاحقنا بتداعياته الواسعة الكارثية على مدار الساعة، وتحول إلى تطبيقات وإنجازات صهيونية إعجازية -كما يزعمون- بل انضمت إليه المزيد من الوعود بغير حق أيضا، وتضافرت كلها لتنتج مشهدا سياسيا وجيوديمغرافيا مختلفا، لم يخطر حتى ببال البلافرة مجتمعين، فالصهيونية التي ابتزت وعد بلفور، تشن اليوم هجوما إستراتيجيا خطيرا على القضية الفلسطينية، بمطالبتها -وبغطاء أميركي وغربي- الفلسطينيين والعرب والعالم بالاعتراف بـ"يهودية إسرائيل"، مما يستكمل بالنسبة لهم اختطاف وتهويد فلسطين إلى الأبد!
فمنذ أن شكل حكومته، فتح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو معركة شرسة، وشن موجات من الحملات السياسية والإعلامية التحريضية، زاعما "أن اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية هو الدليل الوحيد على استعدادهم للسلام"، مؤكدا في مؤتمر بشأن مستقبل الشعب اليهودي عقد في القدس بمشاركة زعماء يهود من كافة أنحاء العالم أنه: "حين يعترف شركاؤنا بإسرائيل كدولة يهودية سيكونون مستعدين للسلام"، مضيفا: "أنه سيجبر الفلسطينيين على الاعتراف بـ"يهودية إسرائيل"، بل ذهب نتنياهو إلى أبعد من ذلك، إذ قال لاحقا لصحيفة "إسرائيل اليوم": "نحن لا نريد للعرب أن يكونوا مواطنين ولا رعايا لنا". فأين يريدهم نتنياهو إذن؟! باتجاه الشرق أم الشمال أم الجنوب يا ترى؟!
وإذا كان وعد بلفور قد منح بلادنا للدولة الصهيونية، وأنتج النكبة والتهجير والتضحيات والمعاناة الفلسطينية المفتوحة منذ ذلك الوقت، فإن الإجماع السياسي الإسرائيلي اليوم على ضرورة "إجبار الفلسطينيين والعرب على الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية نقية"، إنما يراد من ورائه استكمال وعد بلفور، واستكمال تهويد فلسطين، وشطب القضية الفلسطينية بكافة عناوينها وحقوقها التاريخية والحضارية والتراثية، لصالح تلك الرواية الصهيونية المستندة إلى الأساطير المزيفة التي تعتبر أن "فلسطين هي أرض الميعاد لشعب الله المختار -اليهود، بناء على وعد إلهي".
فالاعتراف بـ"يهودية إسرائيل" بالمضامين التي يحملها، سيكون وعد بلفور آخر، تستكمل فيه تلك الدولة الصهيونية مشروعها التهويدي لكامل فلسطين، بما يحمله ذلك من شطب لحق العودة لحوالي ستة ملايين لاجئ فلسطيني إلى وطنهم وممتلكاتهم، ناهيكم عن تجريد من تبقى من العرب -حوالي مليون ونصف- في مناطق 48 من حق البقاء والملكية والمواطنة هناك، مما يحولهم إلى رهائن تحت الطلب!
فما بين الأمس وذلك الوعد، واليوم نقرأ التالي: "أرض فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، فما الفرق إذن؟ فقد يخطر ببال البعض فورا أننا أمام بلفور، أو بوش، أو نتنياهو أو باراك أو أي متشدد صهيوني من جهتهم هناك في "إسرائيل"، ولا يخطر بالبال أن يكون القائل هنا هو الرئيس الأميركي أوباما بقلمه ولسانه!
فمن "بلفور" إلى التقسيم، إلى "النكبة"، إلى "كامب ديفد"، إلى مدريد، إلى أوسلو، إلى وادي عربة، إلى كامب ديفد 2، فخريطة الطريق، ثم إلى "فك الارتباط"، فوعد بوش لشارون، وصولا إلى الرئيس أوباما الذي أطل علينا في ذكرى النكبة، ليقدم ما يشبه وعدا بلفوريا جديدا لـ"إسرائيل"، يمنحها فيه اعترافا متجددا بأن "فلسطين هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي". كلها إذن، وعود بلفورية، تتصل وتتواصل كمحطات على أجندة النكبة الفلسطينية المستمرة، وتكرس حالة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني في فلسطين.
صراع مفتوح حتى التحرير
فالحاصل الإستراتيجي في المشهد الفلسطيني اليوم، في ظل كل هذه الوعود والمؤامرات البلفورية، وفي ظل تكاثر بلافرة النكبة والتشريد والتهويد، أن فلسطين العربية من بحرها إلى نهرها عبر التاريخ، تتحول هكذا، بفعل البلافرة، إلى بلاد صهيونية، والحقوق العربية التاريخية في فلسطين، باتت تختزل اليوم في عملية مفاوضات عقيمة، لم يكن من شأنها وتداعياتها سوى إهدار الوقت، وتمدد وتكريس الاستعمار الاستيطاني، والمطالب العربية بالتحرير الكامل لفلسطين، تتقلص كل يوم، لتغدو بحجم قطعة من مساحة الضفة الغربية، وحق العودة لملايين اللاجئين، بات اليوم في مهب الرياح الصهيونية، بل إن المدينة المقدسة، أخذت تتحول هويتها العربية الإسلامية، إلى هوية صهيونية تجري أدلجتها وتغطيتها بالأساطير التوراتية، فالقدس تتهود بنصوص توراتية على مرأى من العالمين العربي والإسلامي.
" الدول والسياسات العربية الرسمية، تأقلمت مع الأمر الواقع البريطاني أولا، ثم الأميركي الصهيوني ثانيا، لتنتقل في السنوات الأخيرة ثالثا، من موقع اللاءات إلى موقع النعمات، في التعاطي مع المشروع الصهيوني"
والحاصل الإستراتيجي اليوم أيضا، أن كل القرارات الأممية المتخذة في القضية الفلسطينية، لصالح العودة وإقامة الدولة، تساقطت تباعا بفعل السطوة الصهيونية الأميركية على هيئة الأمم المتحدة، فبات حتى مجرد التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة لنيل الاعتراف بـ"دولة غير عضو -تصوروا...!- يقيم الدنيا الصهيونية الأميركية والأوروبية ولا يقعدها، اعتراضا على هذه النية الفلسطينية.
فهم يكشفون اليوم، وهم في ذروة هجومهم على القضية الفلسطينية بغية شطبها عن النوايا والأنياب الحقيقية لديهم، تجاه كافة الاستحقاقات المترتبة والمتراكمة لصالح الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها استحقاق إقامة الدولة العربية وفق قرار التقسيم، فيزعمون من جهة أولى، أن مثل هذه الدولة لن يحصل عليها الفلسطينيون إلا عبر المفاوضات والتسوية، بينما هم يعطلون ويفشلون المفاوضات التي تراوح مكانها منذ نحو عشرين عاما، عبر إقامة وتكريس المزيد من حقائق الأمر الواقع الاستيطاني في كل أنحاء الجسم الفلسطيني، ويزعمون من جهة ثانية، أن الشعب الفلسطيني ليس مؤهلا لإقامة الدولة، وكأنهم قيمون على مقدرات هذا الشعب، ويزعمون من جهة ثالثة، أن الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس لا يسمح بإقامة الدولة... وهكذا!
لا شك أن كبرى الكبائر العربية هنا، أن الدول والسياسات العربية الرسمية، تأقلمت مع الأمر الواقع البريطاني أولا، ثم الأميركي الصهيوني ثانيا، لتنتقل في السنوات الأخيرة ثالثا، من موقع اللاءات إلى موقع النعمات، في التعاطي مع المشروع الصهيوني وتفريخاته التهويدية على الأرض.
فلم يكن "الوعد البلفوري" ليرى النور، ولم تكن فلسطين لتقسم وتضيع وتغتصب وتهوّد، لو تصدى العرب آنذاك للوعد ولمشروع التقسيم البريطاني الصهيوني كما يجب.
وهو ما يعيد القضية والأوضاع كلها إلى بداياتها، ففلسطين تبقى عربية رغم التهويد الجارف، ورغم بلفور والبلافرة الجدد، والصراع سيبقى مفتوحا حتى التحرير، والبشائر في ذلك كثيرة متزايدة.