سيروا في الأرض وانظروا كيف بدأ الفساد
ينظر كبيرهم إليهم من فوق وفي يده خلاصهم ومخرجهم شريطة أن يسرد كل فرد فيهم حال البلاد ومآل العباد، بينما كانوا هم مجتمعين في حفرة لا يمكنها استيعابهم جميعا لضيقها، وإذا تم التعرف على البلد أو معرفة الوطن من طرف جمهور الحفرة ومن صاحبنا بالطبع يتم تحريره وإخراجه من تلكم الحفرة. الجميع توافقوا ووافقوا ثم ذهب كبيرهم للجلوس في مكانه الفوقي ليبدأ في الاستماع طورا وأخرى للتركيز حتى تسهل وتتيسر لديه عملية التعرف والمعرفة على حال البلاد المنهوب ومآل العباد المنكوب.
تقدم من قال إنه أمير لبلد كل ثروة تحت وفوق البر وكل ما في البحر هو تركة لعائلته الأميرية، وكل من يعيش فيها وبها يمتثل لأوامره وبيده كل شيء حتى أنه هو المُغَيِّرُ وهو المانح والممنوح للهدايا وهو المُوَشِّحُ والمُوَشَّحُ بالنياشين والأوسمة وهو الواهب للحياة لمحبيه والقابض لأرواح معاديه ويعمل بمقولة أبيه بأن الأمير لا يكترث بالمرة لرأي القطيع والقطيع في الآداب السلطانية والأميرية هم الشعب، ثم أضاف بأن شعب بلاده ليس راضيا ولا ساخطا ولا رافضا ولا مغتبطا بل كان ساكتا مطواعا وطيعا صامتا يفرح لأميره وعائلته الحاكمة والمتحكمة في زمام الحكم وأمور الاقتصاد والسياسة والرياضة بقوة غير عادلة ولا معتدلة ولم يكد تزهق روحه حتى انضم إليه حكام وملوك وأمراء ورؤساء يؤكدون لكبيرهم أنه بهذا التوصيف والوصف وكأنه يتكلم عنهم شخصيا بالصفة وينطق بلسان شعوب بلدانهم كما هي، احتد النقاش واشتد الجدال وكاد ينشأ الشجار والعراك بينهم فتدخل كبيرهم الذي يعاين من عليائه الشاهقة وأشار لهم بيده بالتجمع في زاوية من برزخ الحفرة الضيقة حتى يقرر في أمر خروجهم من عدمه أو قل أن يتم وأدهم ودفنهم في الحفرة لعدم توافقهم واتفاقهم على عدم ذكر اسم بلد واحد ليحسم ويقضي في الأمر بكلمة ناهية.
ليشير للحاكم الذي كان مزهوا بنياشينه ومفتخرا حد التعالي بتاريخه والذي لا يجد فرصة إلا وذَكًّرَ بأن بلاده تحاك ضدها المقالب والمكائد وأنها فريسة للمطامع لما بها من ثروات غير متناهية، قال بأن بلاده بها من الشباب والبترول والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والنحاس والملذات والحياة الباقية وقد ورثت رئاستها من أبي الذي أخذ مفاتيح حكمها والتحكم فيها عن أجداده، حتى أنه لم يقدر على ذكر عددهم وأرقامهم في عائلته العالية، وتحدث عن شعبه وقال عنه بأنه مثل الشعوب الراضية الباقية من ماء الأطلسي حتى ماء الخليج العربي شرقا وأن حقوقها لا تتعدى حق الطعام اللذيذ وشرب النبيذ والإنجاب العديد. وكسابقه غضب الجميع منه ملوكا وأمراء ورؤساء وكالوا له الاتهامات بأنه بحديثه هذا وكأنه يصف أمصارهم وليس وطنه هو فكان تدخل كبيرهم الذي بيده الأمر وإليه تعود الأحكام والنهى بالرفض أو النفاذ من ضيق مساحة الحفرة.
ثم تلاه من يدعي الخوف من الله ويزعم قيادة المنطقة وترؤس المشيخة وزعامة الطرق الصوفية والزوايا وأتباعها ومريديها وورثة أبا نواس وأبا العتاهية وقال بأنه واحد منهم وزاد بالقول بأنه يريد إقامة شريعة الله ليسمو الإسلام بتخليص الإنسانية من أعدائه الكفرة والملاحدة والزنادقة والمجوس والصابئة المارقين والمشركين بنهج طريقة النحر والتفجير والتدمير ومنهج أسلوب الترعيب والترهيب في سبيل نيل الأجر المقدس والثواب الغير المدنس ثم بالدعاء بالحمد لله والصلاة والسلام على أكرم الخلق ومتمم مكارم الأخلاق وخاتم الأنبياء، مستكملا دعاءه لكل الانتحاريين السابقين في أهل الفسق والشهداء المتفجرين في أهل الرجس والنجس الذين تطايرت أشلاؤهم الطاهرة، دعا لهم ولأجلهم بالتمتع في الجنة بآلاف من حور عين كبيض مدفون وغلمان تطوف عليهم مثل لؤلؤ مكنون والأخطر ينسب الأمر لمالك يوم الدين ورب العرش العظيم، لكن مصيره لم يكن ليخرج عن مصير ومسار سابقيه فامتثل وخضع وخنع لقوة قانون كبيرهم الذي خصه بنفسه وألزمه عليه وأقره عليهم من يوجد بيده مفتاح الخروج من الحفرة الحجرية.
ليأتي الدور على قَصَّاصِ ومحدث يقول بأنه يفتخر بأنه سليل عرق نقي وشريف جذور شجرته من آل البيت ويتفاخر بأن أسلوب الحكم وحيد وإن تعددت أنظمته واختلفت أساليب وطرق شواهد الحكومات في التنفيذ، في بلده وعند خروجك في الصباح الباكر إن كنت محظوظا يصادفك متسول أو متشرد يريد دريهمات لوجبة الفطور أو لشراء دواء لإنسان مريض وفان، وأما إن كان حظك عثرا فستلاقي سارقا يسلبك هاتفك ومحفظة نقودك ليسلمك لآخرين منهم من يمسك منديلا أو منشفة ليمسح زجاج سيارتك إن استطعت إليها سبيلا وأما إن كنت عاجزا وصاحب أجر صغير فستجد إنسا آخر في انتظارك، خصوصا حافلات النقل العمومي أو النقل السري المتعددة والمترامية، يدعون لك بالصحة واليسر وإبعاد شر الخلق من وعلى طريقك مقابل درهم أو درهمين "تدويرة" رشوة أو مقابل أو عطاء، وال "تدويرة" تعكسها أساليب شتى وصور عديدة ومتغيرة في تعدادها وتعددها وإن كانت تصب في نتيجة واحدة واستنتاج أحادي وهو: لديك مال ونحن الفقراء نرفع أصواتنا لنيل أجر وثواب دعاءنا لك فلا تحرمنا من أجرة الداعية، وال "تدويرة" أصبحت نهجا في المطاعم والمقاهي ومنهجا في المشاريع الاقتصادية والمصالح الإدارية بل حتى في المقابر وأمام أبواب المساجد والجوامع والكنائس وقد تمتد للأماكن الأثرية والثرية بمعمارها.
أنى اتجهت في بلده تجد الفقراء ودور الصفيح ومرضى الفشل الكلوي والمصابين بداء السرطان والتهاب الكبد والمتسولين، منهم من يتعفف ومنهم من يتأفف ويتوقف ويتفنن في جعلك تدفع له الدراهم بأسلوب يدغدغ العواطف ويحرك المشاعر بالترهيب والوعيد طورا وأخرى بالرأفة والرحمة واللين من رب العالمين. هؤلاء المتسولون المحترفون وأولئك الشحاذون المجربون أصبح لديهم عباقرة يعلمونهم سر الحرفة وجهابذة يلقنونهم فن المهنة وأساتذة يُنَمُّونَ قدراتهم في المناسبات والمهرجانات والمواسم والمآتم ويحرصون على ظهورهم مُقْنِعِين مُقَنَّعِين ملهمين وكلهم حنين لكل أذن سامعة صاغية؛ انضاف إليهم سرب سائقي الطريبورطورات، التي تغض الدولة البصر عن فوضاهم وتغض الحكومة النظر عن خطورتهم ومخاطرهم، الطريبورطور الذي لا يتطلب رخصة سياقة ولا يشترط تحديد السن بل ولا تربية ولا أخلاق، الراوي لا يكترث البتة برأي المواطنين لأن بإمكانه شَغْل بالهم وإلهاء عقلهم وقلبهم بمقابلة في كرة القدم أو بمشهد من فيلم لممثلة راقصة أو بحديث عن قبلة في فيلم أو بأحداث السخط في مشارق ومغارب البلاد. قاطعوه وعرفوا وتعرفوا على البلاد ولكن كبيرهم لم يصدر أمر العفو والخروج من الهوة والحفرة الحجرية وحتى الناظر من فوق ردم الحفرة بمن عليها وتلا ما تبقى من آيات الكتاب وترك الكل ليوم العقاب والذي ستربط فيه المسؤولية بالحساب ليستفسر عن رؤيته في حلمه هل هي حقيقة بلده هو منه والبلد تعاني بمن عليها وفيها وتطلب الرجوع لرب العباد.
الإنسانية هي الحل