قال لي: الحب أنواع، ثمة حب من طرف واحد، وهو معروف ولا يحتاج إلى شرح، وثمة حب من طرفين، وكذا هو الأمر بالنسبة لهذا الحب، أما الحب من طرف ثالث، فلا أدري عنه شيئا، سألت: فما طبيعة هذا الحب؟ وما مكانة الحديث عن الحب أصلا، في هذه الأجواء الأربعينية الباردة جدا حد الصقيع والتجمد، إن على مستوى طقس الأردن، أو طقس السياسة العربية، وما يعصف بها من أحداث جسام، تأخذنا حينا إلى أقصى المغرب، وترمينا إلى حضن الشام، أو تقذف بنا إلى جنوب الجنوب، حيث سعادة اليمن تلونت بالأحمر القاني!!
هي مناسبة إذاً للخروج من دوامة البث المباشر للدم، والاحتقان، ولعنة اليوتيوب، والـ «بوستات» العاصفة في فيسبوك، والتويتات الهائمة على وجهها في تويتر، فحديث الحب يشبه الركون إلى ملاذ مؤقت، أو استراحة محارب،
قال لي، أن الحب من طرف ثالث، نوع جديد مستحدث من الحب، فرض وجوده هذا الجو الأليف، الذي صنعته مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وفرت معارف وصداقات وعلاقات بين بني البشر، كانوا طيلة الوقت يعيشون في جزر معزولة، يمضغون آلامهم وحدهم، ويتواصلون مع خيالات مفترضة، حتى إذا فرضت مواقع التواصل حضورها، هدمت الجدران وحولت الجزر الواقعية إلى مساحة مفتوحة في الفضاء التخيلي، بل إن تواصل القوم عبر هذه الساحات أصبح متصلا وحميميا أكثر بكثير من التواصل الواقعي بين أهل البيت الواحد، يقول لي، إنه يتواصل مع ابنته التي تسكن بيته عبر الفيسبوك، أكثر من تواصله معها في غرفة الجلوس، التي أصبح استعمالها من الماضي، حيث يجلس كل فرد من أفراد العائلة في ملاذه، يحتضن اللاب توب، ويسترق النظر أحيانا إلى تلفزيونه، ونادرا ما تلتقي العائلة في تلك الغرفة، إلا في مناسبة عائلية تفرض اللقاء، كعيد ميلاد لأحد أفرادها، أو كارثة فجائية حلت، كانقطاع الكهرباء مثلا، وفيما سوى ذلك، هناك جزر وأجنحة في البيت مسكونة بأفراد، تفصل بينهم جدران في الواقع اللوجستي، ويتواصلون مع سكان العالم كله في الواقع التخيلي!
حب من طرف ثالث، لم تتضح الصورة بعد، قلت له، قال لي: هل سمعت بالحكمة العربية القائلة: رب أخ لك لم تلده أمك؟ قلت بلى، قال، أن لها معنى آخر الآن، رب صديق لك لم تره عيناك بعد، ولم تشعر به، إلا عبر الفيسبوك، أو المسينجر، أو التويتر، تشعر أنه غدا قطعة منك، تحزن لحزنه، وتطير فرحا لفرحه، وترتبط به برباط روحي متين، فيما تفصلك عنه أنهار وجبال وصحارى، لكنك تصحو على «تغريده»، أو البوست الخاص به، ناهيك عن المسيج الذي يمكن أن يهمس في أذنك، فيما ثمة من يسكن قربك، وتشعر أن بينك وبينه مسافات لا حصر لها، تفصلك عنه ميلليمترات، لكنه بعيد جدا عنك، ولا يشعر بك، ولا تشعر به، إنها علاقة جديدة معقدة، فرضتها مواقع التواصل، وانهيار جدران الزمن، لصالح توحد رقمي قلب حياة كثير من الناس، فيما لم يسمع به أناس آخرون كثيرون!
حب أو صداقة، أو ألفة، أو رباط، سمه ما شئت، ولكنه من طرف ثالث، قال لي: سيطول الحديث عنه، لأنه نوع من الاتصال السحري، له سمة روحية آسرة، ترفعك حينا وتضعك حينا آخر، تبعا لحالة التواصل والشراكة، وما يشيع فيها من حزن أو فرح، قلت له: لعل الرسالة وصلت، وإن لم تزل بحاجة لمزيد من الإشباع!
الرئيسية 
البوابة 
