الأصالة الإسلامية في عمارة القدس وزخارفها
يعود اسم القدس القديم (مدينة السلام، أورشليم) إلى اليبوسيين الكنعانيين أجداد العرب الذين أنشاؤا هذه المدينة، وتأكيد ذلك من خلال رسائل تل العمارنة التي أرسلت إلى مصر في عهد أختانون، ثم أعاد الحشمونيون استعمال هذا الاسم. ولكن العرب، كانوا ينظرون إلى هذه المدينة بتقدير بالغ، فاستعملوا أولاً أسمها الروماني – البيزنطي (إيليا) ثم أطلقوا عليها اسم بيت المقدس، والقدس.
وبعد استيطان اليهود القدس في بداية القرن العشرين، ابتدءوا بالبحث عن المعالم التوراتية في القدس، وما زالت البعثات الأثرية التي اقتصرت مؤخراً على الإسرائيليين، جادة في البحث والتنقيب دون إحراز أي اكتشاف يؤكد التاريخ اليهودي في القدس.
ولقد قام مازار بالتنقيب في منطقة المدرج الكبير وفي المنطقة الجنوبية من الحرم، كما يتابع أفيغاد التنقيب بالحي اليهودي القديمة وفي القلعة. ويتابع بروسحي الحفر في بساتين الأرمن وفي سفوح الأسوار الخارجية، وتتركز أعمال يادين وشيلوح وبركاي في الحفر في منطقة المقابر بحثاً عن مؤشر تاريخي يهودي، ولقد أعلنوا جميعاً نتائج حفرياتهم في دورية المصنفات لعام 1994، وكان أبعد ما توصلوا إليه هو العصر الروماني،دون أية دلالة على الوجود الإسرائيلي عبر تاريخ القدس، ولم يتضح لهؤلاء أي مؤشر على وجود مدينة داود ذات الأسوار أو على أثر لهيكل سليمان الذي وصفته التوراة بمبالغة.
ويعترف الأثري الإسرائيلي بروسحي بذلك، بل هو ينفي الادعاءات التي تتحدث عن قوس اكتشفه روبنسون يعود إلى عهد هيرودوس. ويعترف مازار أن القدس ورام الله وبيت لحم كانت تحت سلطة كنعانية في عهد أخنانون (قبل ظهور موسى 1350 ق.م تقريباً).
لقد كانت نتائج الحفريات التي قامت بها العالمة البريطانية كينيون منذ عام 1960 في جنوبي الحرم، وفي بساتين الأرمن، وقرب بوابة دمشق، وفي منطقة المرستان، مخيبة لجميع الآمال الصهيونية، بل لقد كشفت عن خطأ التأويلات التوراتية للمكتشفات الأثرية السابقة.
وعندما كانت كينيون تبحث عن الهيكل في جنوبي الحرم الشريف، عثرت فقط على آثار ثلاثة قصور ومسجد، أعلن الإسرائيليان مازار وبن دوف أنها تعود إلى عصر مروان بن عبد الملك، واستمرت قائمة خلال العهود العباسية الفاطمية ثم أصيبت بزلزال عام 1034 م.
وتعترف الإسرائيلية مريام روزن إيليون، أن ما نراه من آثار معمارية ضمن الأسوار في القدس القديمة، يعود إلى العهود الإسلامية، ويمثل جميع العهود التي تعاقبت على القدس بعد الإسلام.
لم تكن مدينة القدس، قبل الفتح الإسلامي سنة 16 هـ 637م، إلا مدينة صغيرة تعرضت لاجتياح الفرس. ومنذ أن زار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه المدينة سنة 16 هـ/ 637م ليستلم المدينة معلناً عن عهد قطعه لحماية أهل الذمة والحفاظ على منشآتهم الدينية، ابتدأ الإعمار الإسلامي، وكان بدائياً مؤقتاً إذ أمر الخليفة عمر أن يبنى مسجد في مكان صلاته.
ويتحدث الرحالة أركولف 670م عن مسجد بسيط كان في جهة الجدار الشرقي رباعي المخطط، وكان يتسع لثلاثة آلاف رجل دفعة واحدة، وكان يطلق عليه اسم مسجد عمر. كما أمر الخليفة عمر بإنشاء مظلة من الخشب على الصخرة المشرفة في قمة جبل موريا، واستمرت حتى عهد عبد الملك بن مروان.
لقد أراد عمر بن الخطاب أن يقوم بزيارة منطقة الإسراء في المسجد الأقصى، كما ورد في الآية الكريمة، {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} (الإسراء:1).
على أن المسجد الأقصى المذكور في الآية الكريمة هنا، لا يعني المسجد الذي أنشأه عبد الملك بن مروان لاحقاً، وإنما يعني المكان المقدس الذي يسجد فيه لله تعالى في مكان يبعد عن المسجد الحرام في مكة المكرمة. المكان الذي يسمى (الحرم الشريف)، وهي أرض واسعة تحيط بها الأسوار بطول يصل إلى 492م من الغرب وإلى 462 من الشرق وعرضه في الشمال 310م وفي الجنوب 281م، وله عدد من المداخل الرمزية مؤلفة من أقواس وأعمدة أطلق عليها اسم الميازين، في هذه الساحة منشآت إسلامية تعود إلى مختلف العهود الإسلامية، هي مدارس ومساجد وقباب وأهمها قبة الصخرة والمسجد الأقصى. وكان العرب الذين يزورون القدس يتبركون بهذا الحرم ويطلقون عليه المسجد الأقصى.
وعندما كان معاوية بن أبي سفيان والياً على القدس والشام في عهد عمر، رمم الأسوار واعتنى بالبساتين والأشجار. وبنى في عكا داراً لصناعة المراكب والسفن. وفي مدينة القدس نودي خليفة على المسلمين، وكان هو مؤسس الدولة الأموية واختار قبل دمشق القدس عاصمة لمكانتها عند العرب.
وفي عهد عبد الملك بن مروان أمر بإنشاء قبة الصخرة سنة 72هـ/ 691م، وابتدأ بإنشاء المسجد الأقصى الذي أتمه فيما بعد ابنه الوليد سنة 97هـ/ 715م، ولقد أنفق عبد الملك مالاً وفيراً في القدس لإنشاء هذين الصرحين للدلالة على قوة الإسلام وانتصاره، وأمر بتعبيد الطرق بين الشام والقدس، لتسهيل سبل الزيارة الدينية المقدسة للحرم القدسي.
وفي قبة الصخرة وبعد إنجازها، تقبل الوليد بن عبد الملك بيعة المؤمنين، خليفة على المسلمين، بينما كان أخوه سليمان ينشئ مدينة الرملة وما فيها من مسجد وقصر، وداراً للصناعيين، ثم جاء أخوه هشام ليبني قصر المفجر في أريحا. وهو أضخم قصور الأمويين.
ورغم إهمال العباسيين لبلاد الشام، فلقد زار القدس عدد من الخلفاء مثل المنصور والمهدي والمأمون، وترك كل منهم أثره في إجراء إصلاحات هامة في المسجد الأقصى وفي قبة الصخرة، ويعود إلى الخليفة المهدي إعادة بناء المسجد الأقصى سنة 158هـ 744م. بعد زلزال أتى عليه.
لقد رزئت بلاد الشام بالاحتلال الصليبي، وكانت القدس أصلاً الهدف الأكثر أهمية، تم ذلك سنة 492هـ/ 1099م، وكان أول ما سعى إليه هؤلاء الغزاة أن جعلوا قبة الصخرة كنيسة رفعوا عليها الصليب، وهدموا أطراف الأقصى وجعلوه مقراً لفرسان الاسبتارية.
ويعود الفضل العظيم للبطل صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس سنة 583هـ/ 1187م وسجل هذا التاريخ على محراب المسجد الأقصى الذي قام بتجديده، وما زالت الكتابة قائمة حتى اليوم في المسجد بعد تحريره. ثم قام بإعادة ترميم مسجد قبة الصخرة، وسجل ذلك في محيط القبة من الداخل.
لقد كان الأيوبيون أبطالاً في التحرير وكانوا قدوة في الإعمار والإنشاء، ففي مدينة القدس وحدها قام صلاح الدين بإعادة بناء سور القدس سنة 587هـ/ 1191م وتابع أولاده ذلك، كما قام بحفر الخندق حول الأسوار، وأنشأ الملك العادل أخ صلاح الدين الجامع العمري سنة 589هـ/ 1193م وبنى سقاية لحفظ الماء وتموين القدس. وأنشأ ابنه الأفضل المدرسة الأفضلية، والمسجد وأنشأ قبة المعراج سنة 598هـ/ 1201م، وقبة سليمان والزاوية الجراحية والمدرسة الناصرية وزاوية الدركاه وزاوية الهنود.
وتابع المماليك آمال البناء وأصبحت القدس أكثر ازدهاراً في عهدهم، وخلال حكم الملك الناصر محمد بن قلاوون المملوكي، الذي امتد ثلاثة وأربعين عاماً، حفلت القدس بالعمائر المملوكية التي كانت نموذجاً رائعاً لتطور العمارة الإسلامية. ولقد قام الملك بإنشاء أروقة المسجد الأقصى التي تمتد من باب الحرم حتى باب الغوانمة، وعمّر السور القبلي عند محراب داود وقام بترخيم صدر المسجد الأقصى إلى حائط المسجد الجنوبي، وجدد تذهيب قبة المسجد الأقصى، وقبة الصخرة سنة 720هـ 1320م، وعمّر الميازين مقابل باب حطة ومقابل باب شرف الأنبياء، وجدد عمارة باب القطانين وعمر قناة السبيل عند بركة السلطان، وهي القناة الداخلة للقدس من عين العروب، وأنشأ جامع القلعة 710هـ/ 1310م ويتكون من حرم ذي محراب جميل.
وفي عهد السلطان الأشرف قايتباي تم إنشاء الأشرفية وسبيل قايتباي في الحرم الشريف، والمدرسة المزهرية، وأنشأ السلطان برقوق المدرسة الجهاركية وبركة السلطان وخان السلطان ودار السبت .
وكان عهد المماليك طويلاً استمر ما يقرب من ثلاثة قرون تركوا في القدس آثاراً كبيرة، وتلا هذا العهد مباشرة العهد العثماني منذ عام 923هـ/ 1517م، الذي ابتدأ بأعمال الترميم التي قام بها السلطان سليمان القانوني في سور القدس وأقام برج اللقلق وبرج الكبريت، وأبراجاً أخرى، كما جدد أبواب القدس، مثل باب العامود، باب دمشق، وباب الساهرة 946هـ/ 1537، وباب ستي مريم وباب الخليل وباب النبي داود 940هـ/ 1540م، وباب المغاربة وباب الخليل 947هـ/ 1538م.
وأنشأ عدداً من السبلان في الطرق المؤدية للحرم القدسي. منها سبيل بركة السلطان وسبيل باب العتم وسبيل سليمان وسبيل باب الناظر وسبيل باب الأسباط.
وكان سليمان القانوني قد اهتم بتوسعة هامة في الحرم المكي في مكة المكرمة، كذلك قام في القدس باستبدال الزخارف الفسيفسائية التالفة في واجهة قبة الصخرة وأمر بتغطيتها بألواح القيشاني التي ما زالت قائمة تحمل اسمه وتاريخ الترميم.
إن المباني الإسلامية التي أنشئت خلال العهود المختلفة تؤكد الشخصية الإسلامية التي تتمتع بها القدس القديمة التي ما زالت محافظة على طابعها التقليدي، رغم انتهاكات اليهود وتغييراتهم الواسعة .
تبلغ مساحة القدس ضمن الأسوار كيلومتراً مربعاً ويقع الحرم الشريف في الناحية الشرقية من المدينة وأسوارها. وتقسم المدينة إلى حارات أو خطط، وفي هذه الأحياء أسواق محلية صغيرة استقلت عن الأسواق الرئيسة، وكانت الأحياء تضم مجموعات سكانية منسجمة في بيئتها الاجتماعية والدينية، وطرق المدينة القديمة متعرجة، غطي بعضها بعقود، وقد تقوم منشآت أو امتدادات عالية للبيوت.
ومن أهم هذه المنشآت المساجد والمآذن والمدارس، وإذا استثنينا قبة الصخرة والمسجد الأقصى فإن أكثر المساجد والمآذن في القدس تعود إلى العصر المملوكي، نذكر منها المئذنة الفخرية 677هـ/ 1278م، وهي مربعة وفوقها شرفة تحمل بيت المؤذن وفوقه رقبة مثمنة ثم قبة صغيرة، ومئذنة باب الغوانمة 730هـ/ 1329م، ومئذنة باب الأسباط 769هـ/ 1367م.
ومن المساجد نذكر مسجد القلعة 710هـ/ 1310م، والمسجد القيمري 674هـ/ 1276م وجامع الخانقاه الصلاحية، وتعود مئذنته إلى عام 798هـ/ 1395م.
ومن المساجد العثمانية مسجد النبي داود الذي أنشأه سليمان القانوني وهو مجمع معماري، ولقد حوّله الإسرائيليون إلى كنيس وأزيلت الكتابات القرآنية منه واستبدلت بكتابة عبرية، وجامع المولولة 995هـ/ 1587 والمسجد القيمري. وبتحليل مساقط ومقاطع هذه المآذن تبين لنا مدى ارتباطها بالأصول المعمارية الإسلامية التي سنتحدث عنها.
إن أكثر المباني الإسلامي في القدس هي المدارس التعليمية. ويذكر أوليا جلبي أن عدد المدارس والزوايا في القدس خلال القرن الحادي عشر الهجري كان 630 مدرسة، ومن أقدم المدارس المدرسة المنصورية التي أنشأها الملك المنصور قلاوون، وهي أكثر المدارس الإسلامية الباقية من العهد المملوكي الذي امتد حتى عام 923هـ/1517م، وقد اهتم المماليك بتأكيد المذهب السني بمذاهبه الأربعة وبخاصة المذهب الشافعي، ولذلك فإن بناء المدرسة يتضمن أربعة أواوين لتدريس الفقه حسب المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي، وكان الإيوان القبلي هو حرم للصلاة ومدرسة لتدريس المذهب الشافعي.
وتمتاز عمارة المدارس بالفناء ذي البركة تشرف عليه الأواوين والغرف، أما الواجهة الجميلة التي تدخل منها إلى المدرسة من خلال دركاه، فهي من ميزات العمارة المملوكية، وإذا كانت المدارس المملوكية في القدس لم ترق إلى مستوى المدارس في القاهرة التي تميزت بالاتساع والفخامة كمدرسة السلطان حسن، فإنها مع ذلك تتمتع بالأناقة والبساطة والوحدة، ومن أهم المدارس المملوكية الباقية حتى اليوم:
المدرسة السلامية 1300م وهي مؤلفة من طابقين وصحن وإيوان كبير، ومدخل جميل، المدرسة الجاؤلية 1320م واستعملت داراً لنيابة السلطنة ثم أصبح داراً للحكم العثماني وأضيف إليها طابق ثالث. المدرسة التنكزية 1329م وكان فيها خانقاه ودار للأيتام ودار للحديث، المدرسة الأمينية 1330م وتتداخل مع المدرسة الفارسية، المدرسة الملكية 1340م. المدرسة الفارسية 153 وتقع فوق الحرم الشريف الشمالي. المدرسة الأرغونية 1356 وفيها ضريح الحسين بن علي. والمدرسة القشتمرية 1358م مؤلفة من طبقة واحدة وفيها مسجد ذو محراب جميل. المدرسة المحدثية 1360م، المدرسة المنجيكة 1360م، ولها قاعة ضخمة تشرف على الحرم القدسي، المدرسة الطشتمرية 1384م وتتألف من مدرسة وتربة وكتّاب وسبيل. وتعود أهمية القدس إلى وجود الحرم الشريف والأبنية القائمة عليه، وبخاصة المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
إن المساجد التي أشرف على بنائها الوليد بن عبد الملك، وهي الأقصى في القدس والأموي في دمشق ومسجد حلب ومسجد الرسول في المدينة، كانت متشابهة، وكان مصدر مخططها مسجد الرسول الأول في المدينة المنورة والمؤلف من حرم وصحن. ولم يبق من المسجد الأقصى الذي أقامه الأمويون إلا بعض العناصر، كما أن المؤرخين لم يقدموا وصفاً شافياً لعمارة هذا المسجد الأولى.
لقد تغيرت معالم المسجد الأقصى بعد الزلزال الذي حدث في عام 130هـ/ 748م وأعاده المنصور 154هـ/ 770م إثر زلزال آخر عام 158هـ/ 774م فأعاد بناءه الخليفة المهدي عام 163هـ/ 780م حيث انقص من طوله وزيد في عرضه، ولم تكن له قبة بل كان غنياً بالرخاميات والفسيفساء، وكان له ستة وعشرون باباً في واجهة الحرم تتصل بأجنحة متجهة نحو جدار القبلة، ثم رمم المسجد في عهد الخليفة الفاطمي الظاهر إثر زلزال عام 406هـ/ 1015م. ولقد وصف كريزويل المسجد في ذلك العهد، وبعد تحرير القدس سنة 583هـ/ 1187م جدد صلاح الدين المحراب القائم حتى اليوم وزينه بالفسيفساء، واستحضر من حلب المنبر الخشبي الذي أحرقه اليهود في آب 1969.
لقد نشر ماكس فان برشيم الكتابات التي تؤرخ أعمال المحراب وعمارة المسجد الأقصى التي أجراها صلاح الدين والملك العظيم عيسى ثم السلطان محمد بن قلاوون وابنه الملك الكامل، والسلطان قانصوه الغوري، وفي هذا القرن العشرين نفذت ترميمات هامة قام بها المهندس التركي كمال الدين. وما زال المسجد الأقصى محافظاً على معالمه الإسلامية ولم تؤثر على هويته فترة الاحتلال الصليبي.
ويجب أن نذكر هنا أن الترميمات التي تمت في فسيفساء الأقصى بإشراف المهندس التركي، أبانت أن هذا الفسيفساء يعود إلى العهد الفاطمي، وهو يختلف بجودته ورسومه وطريقة تنضيده عن الفسيفساء الأموي. والفسيفساء الفاطمي هذا مثال نادر نراه في الأقصى فقط وليس له مثيل في هذا العصر أو في العصر الأيوبي. ولكن العناصر الزخرفية بقيت ذاتها منذ العصر الأموي والعباسي والفاطمي، وحتى في العصر المملوكي مما نراه في مدفن الملك الظاهر بدمشق.
إن أهم ما يميز مدينة القدس ويؤكد طابعها الإسلامي المقدس هو الحرم الشريف الذي تقوم فيه روائع العمارة الإسلامية وبخاصة قبة الصخرة، والحرم هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، فهي صرح لحماية الصخرة المقدسة وعليها همّ إبراهيم الخليل بالتضحية بابنه، كما أن الرسول عرج منها إلى السماء، والحرم الشريف وهذه الصخرة كان قبلة المسلمين في صلاتهم الأولى، ثم نزلت الآية الكريمة {ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام} (البقرة:150) فتحول المصلون إلى الكعبة حيث الحجر الأسود أيضاً .
ولا بد من الوقوف طويلاً أمام قبة الصخرة، هذه الآية الرائعة التي قال عنها المؤرخ بوركهارت "إن إشادة بناء بهذا المستوى من الكمال والإتقان الفني، يعتبر عملاً خارقاً في دولة الإسلام التي لم يكن قد مضى على ظهورها قرن واحد".
ولقد توسعت كتب تاريخ العمارة الإسلامية بوصف تفاصيل هذه القبة، وأهم ما يثير الاهتمام هو المخطط الثماني الذي قامت عليه، والسؤال ما هو مصدر استلهام هذا المخطط، ولماذا قام بشكل متفرد على مخطط ثماني مخالفاً لشروط المسجد التي وضعها الرسول عند بنائه المسجد الأول في المدينة المنورة .
تتجه أبحاث المؤرخين إلى مقارنة بناء قبة الصخرة المثمن بأبنية مماثلة كانت قائمة قبل هذه القبة. ولقد اهتم كريزويل بمقارنة هذا المخطط القائم على قبة قطرها 20,40م مع مخطط كنيسة القيامة في القدس التي تقوم فوقها قبة قطرها 20,44 م.
ويتوسع إيكوشار في تحديد العلاقة بين قبة الصخرة وقبة كنيسة القديسة هيلانة في رافينا – إيطاليا، كما يقارنها مع كاتدرائية بصرى 512م، وكنيسة القديس سمعان العمودي – سوريا. وليس من شك أن استمرارية العمارة الثمانية، ولكن ما يهمنا هو معرفة السبب الذي دعا المعماريين، رجاء بن حياة الكندي ويزيد بن سلام، إلى اختيار هذا الشكل الثماني لبناء آبدة تكريمية تحتضن الصخرة المقدسة أو هي بناء تعبدي، مسجد أو قبلة للصلاة.
لقد وصلت قبة الصخرة إلى أقصى حدود الكمال المعماري كما يشهد بذلك ماكس فإن برشيم الذي درس القبة دارسة متعمقة، وكما تشهد ابنته مارغريت على روعة الزخارف الفسيفسائية في هذا القمة. ولكن أهمية هذه القبة وقد أصبحت رمزاً إسلامياً بعد الكعبة تبدو في احتوائها على معان قدسية رسخت أسس الفكر المعماري الإسلامي، وكانت أصلاً يقتدى في العمارة اللاحقة.
تتألف قبة الصخرة من بناء ثمانية أضلاع تعلوه قبة خشبية مصفحة قطرها 20,40م، ذات رقبة عالية تنفتح فيها 16 نافذة ويعلو القبة جامور نحاسي ارتفاعه 4,10م، وارتفاع القبة عن الأرض 35,30م.
ترتكز القبة على ستة عشر حاملاً هي اثنا عشر عموداً وأربع عضادات متناوبة. وتشكل هذه الحوامل الممشوقة دائرة هي مرتسم القبة، ويحيط بهذه الدائرة مثمن طول ضلعه 20,60 م، وهو مؤلف من جدران ارتفاعها 9,5 تعلوها تصوينة، وبين المثمن والدائرة يقوم مثمن من الحوامل مؤلفة من أقواس تحملها 8 دعائم تربطها ببعضها أقواس محمولة على ستة عشر عموداً. وتنفتح في أربعة من الجدران الخارجية أربعة أبواب تقابل الجهات الأربع وإذا امتدت هذه الجدران الأربعة فإنها تشكل مربعاً طول ضلعه 510 م تقريباً يتقابل مع مربع آخر من الجهات الأربع الأخرى. وهكذا، فإن القبة تقسم إلى 16 مجازاً من الأعمدة الحاملة، يحيطه مثمن من الأعمدة والأقواس الداخلية، يقابلها مثمن الجدران الخارجية المؤلفة من مربعين، مربع بشكله امتداد الواجهات ذات الأبواب ومربع يشكل امتداد الواجهات ذات النوافذ.
وإذا أعدنا رسم مخطط قبة الصخرة، كما أثبته العالم ماوس، فإننا نرسم دائرة كبيرة قطرها 43م تقريباً ومركزها (م) وضمنها نرسم مربعين متقابلين يشكلان نجمة ثمانية ونقاط التقائهما هي مراكز دعائم الرواق الأوسط المؤلف من ثمانية أقواس محمولة على أعمدة، تشكل مسقطاً ثمانياً، وبالتقاء مراكز الدعائم، مع مقابلها نحصل على مربع رؤوس زواياه الأربع هي مراكز عضادات القبة الأربع، وبين كل عضادتين ثلاثة أعمدة مؤلفة مسقطاً ست عشرياً يحتضن دائرة هي مرتسم القبة.
إن الشكل المربع هو جزء من الدائرة بل هو قادر إذا ما تحرك دائرياً حول محوره أن يشكل الدائرة، ويتجلى هذا التحرك في مضاعفة المربعات، المربعان المتقابلان يشكلان نجمة ثمانية، والمربعات الأربعة المتقابلة تشكل نجمة ست عشرية، وهكذا نصل عن طريق تقابل عدد كثيف من المربعات إلى الدائرة .
ولقد اهتم بابادوبولو بهذه الظاهرة واعتمدها لتفسير المنظور اللولبي في رسم المنمنمات، وفي العمارة الإسلامية والزخرفية تأكيد على إبراز هذا الانتقال من المربع إلى الدائرة أو من المكعب إلى الكرة.
ففي المساجد يتحول الشكل الرباعي في مركز الحرم إلى شكل دائري يحمل القبة، عبر عنق مثمن، وفي المآذن، ولنأخذ مئذنة الغوانمة في القدس مثالاً، نراها تتألف من صومعة رباعية متوجة بشرفة مربعة أيضاً، تعلوها منارة مثمنة تغطي وجوهها الثمانية محاريب، وتعلو هذه المنارة قبة ذات عنق أسطواني مرتفع، والأمر نفسه مع مئذنة الفخرية. ويتجلى هذا التحول أيضاً في المحاريب والإيوانات التي يعلوها نصف قبة تتشكل من نصف الشكل الثماني أو نصف الشكل السداسي كما أثبت ذلك إيكوشار.
وقد يبدو هذا التحول إنشائياً لا بد منه، ولكنه في الفكر المعماري الإسلامي له دلالة دينية. إن الانتقال من المربع إلى مضاعفاته وصولاً إلى الكرة المتمثلة بالقبة أو أنصاف القبة، أو الدائرة، يرمز إلى انتقال كوني توحيدي. فالمربع يمثل الأرض بجهاتها الأربع، والمثمن يمثل الكون أي الأرض وقد التحمت بعناصر الطبيعة الأربعة الماء والنار والتراب والهواء، والدائرة أو الكرة تمثل القوة الإلهية، ولذلك فإن القبة أصبحت رمزاً مادياً إسلامياً نراه ماثلاً في جميع المباني الإسلامي.
صحيح أن القبة تقليد معماري قديم وهي طريقة إنشائية ناجحة لتغطية المباني، بيد أنها في العمارة الإسلامية، أصبحت رمزاً لملكوت الواحد الأحد. إليها يتجه الابتهال والدعاء، ومنها تشع الرعاية والحماية .
ومع أنها لا تقوم في العمارة الإسلامية بوظيفة إنشائية لازمة دائماً، فإنها تبدو كموئل للابتهال ماثلة فوق المساجد وفي نهايات المآذن، بشكل مغزلي أو مقبب، أو تبدو نصف قبة من طاسات المحاريب والإيوانات، أو تبدو في القباب التكريمية والأضرحة كمظلة حماية ترمز إلى العناية الإلهية.
وفي بيوت الصلاة أو في المآذن يتم الانتقال تصاعدياً تعبيراً عن الابتهال، ولكن في الأضرحة وقباب التكريم فإن الانتقال يتم من القبة إلى القاعدة تعبيراً عن الرعاية والحماية والتكريم، كما هي قبة الصخرة.
وهذا يعني أن هدف بناء قبة الصخرة لم يكن لمضاهاة كنيسة القيامة كما يقول المقدسي (ص19)، ولم يكن لمجرد تقليدها كما يدعي كريزويل، بل كان هدفاً رمزياً لتحديد علاقة رعاية وحماية.
وابتدأت التجربة لتحقيق هذا الهدف بتصميم قبة السلسلة لتكون نموذجاً أولياً لقبة الصخرة، وأرادها المعماريان المصممان أن تعبر في مقاسها وتشكيلاتها عن رموز وحدانية، وهنا نتذكر أسباب تسمية القبة النموذج بالسلسلة، هذه التسمية التي أطلقها العامة على القبة تعبيراً عن علاقتها بالسدة السماوية، فالمعتقد الشائع أن ثمة سلسلة معلقة في السماء يرقى عليها إلى السدة العليا، المؤمن الصالح دون غيره. هكذا يحمل شكل القبة معنى دينياً محدداً. ثم تأكدت هذه التشكيلات والمقاييس والنسب في قبة الصخرة لتعبر عن هوية البناء باعتباره مظلة للصخرة المقدسة وآبدة رمزية للإيمان والارتباط بالخالق وطلباً لرحمته وعنايته، إذ أن القبة التي تعبر عن الكون والسدة السماوية تغطي حادبة حامية موضع التكريم والتمجيد، وينتقل هذا الرمز الدائري إلى شكل مثمن ومنه إلى شكل مربع.
وقد تقف ضمن حدود التشكيل المثمن كما هو الأمر في قبة الصخرة، ولكن يبقى التحول من الأعلى إلى الأسفل موافقاً لاتجاه العناية الإلهية من السماء إلى الأرض، وبصورة عامة فإن القبة تستقطب الإيمان والدعاء، وتشع الرعاية والحماية. وقد نرمز إلى القبة بطاسة المحراب أو مرمز إليها بالعقد (مرتسم مقطع القبة) والقبوات والأقواس، وتبقى في جميع الأشكال رمزاً لتلك العلاقة التي تربط الإنسان على الأرض بخالق الكون في ملكوته.
إن هذا الرمز المعماري الذي نراه في جميع الأبنية الإسلامية على امتداد الأرض التي آمن فيها الناس بالدين الإسلامي، نراه واضحاً في المنشآت الإسلامية في مدينة القدس على اختلاف وظائفها، سواء أكانت سبيلاً أو كانت مدفناً أو كانت قبة مسجد أو قبة تكريمية أو قوساً أو عقداً، مما يضفي الطابع الإسلامي على مدينة القدس كلها ويؤكد أصالة العمارة فيها.
وتبقى قبة الصخرة منطلق الأصالة المعمارية الإسلامية، فالنجمة الثمانية التي تعبر عن مفهوم الكون وخالق الكون في الفكر الإسلامي، والتي تتألف من مربعين متقابلين بمركز واحد. مربع يمثل الجهات الأربع كما هو مربع الكعبة المشرفة ومربع آخر يمثل عناصر الطبيعة الأربعة – الماء والهواء والنار والتراب، هذه النجمة هي شكل مخطط بناء قبة الصخرة التي كادت أن تصبح قبلة للمسلمين في عهد عبد الملك بن مروان، كما كان الحرم الشريف قبل بناء القبة، القبلة الأولى للمسلمين.
ومرة أخرى نحن لا ننكر أن عمارة القبة لها نظائرها في العمائر الثمانية السابقة للإسلام، نراها في قلعة سمعان (قرب حلب) وفي كاتدرائية بصرى (حوران) وقد درس إيكوشار هذه العلاقة بدقة، ولا ننكر أن كثيراً من الرموز الرياضية المألوفة في الثقافة الإغريقية عند أفلاطون وفيتاغورس كانت معروفة عند علماء المسلمين، ولكن الشيء الجديد في قبة الصخرة، هو تحول الشكل المربع الذي يرمز إلى جغرافية الأرض بأبعادها الأربعة، إلى شكل ثماني مؤلف من مربعين متقابلين في قبة الصخرة يشكلان نجمة ثمانية هي إشعاع القبة، هذا الشكل الكروي المعبر عن قبة الكون، والذي يمثل العناية السماوية على الصخرة المشرفة. وإضافة إلى ذلك لا يخلو جمال تكوين هذه القبة من علاقات رياضية علمية، فلقد لاحظ رشموند أن مقطع القبة يمكن حصره ضمن مثلث متساوي الساقين، نسبة ارتفاعه إلى قاعدته هي نسبة ذهبية 1,6/ 1 وهذا الاستنتاج مقبول ويمكن أن نقلل جمالية مقطع القبة المدهشة إلى هذه النسب الذهبية. ولكن الإدعاء من أن المعمار الذي صمم القبة قد طبق هذه النسبة حرفياً من الفن البيزنطي كما يقول بابادبولو، لا يستقيم مع النسب غير الذهبية التي قام عليها مقطع كنيسة القديسة هيلانة في رافينا، التي اعتبرها النموذج الأسبق للقبة.
ولذلك فإن المعمار المسلم بحدسه السليم، استطاع أن يحكم العلاقة الجميلة بين القاعدة والارتفاع في قبة الصخرة، حتى أصبحت أقرب إلى النسب الذهبية التي تحقق الجمال الأمثل عند الإغريق.
ولا بد أن نقف قليلاً عند الشكل المثلث الذي يحصر مقطع القبة، لنراه ممثلاً للأرض المشرئبة نحو السماء كما في تأويل النجمة السداسية الإسلامية المؤلفة من مثلثين، الأول وقاعدته إلى أسفل يمثل الأرض والآخر يمثل السماء، ولا بد أن نشير هنا أن مخطط قبة السلسلة الذي يقوم على الشكل السداسي ومضاعفاته وصولاً إلى الشكل الدائري لم يكن أمراً عفوياً.
لقد حقق مصممو قبة الصخرة أسساً رياضية في قبة الصخرة، أراد المستشرقون، وبخاصة بابادبولو نسبتها إلى قوانين فيثاغورس وأفلاطون، وهو بذلك يريد أن ينفي عن العمارة الإسلامية والفن، الطابع الصوفي ليربطه بالمنطق الفيثاغوري معارضاً بذلك آراء ماسينون، التي تقوم على نظرية الأشعريين. ويقول ماسينون "ليس في الفكر الإسلامي استمرارية بل هي أنات وهذه الأنات لا تخضع لنظام التتابع اللازم، إنها متقطعة، وعلى هذا فليس من أشكال أو وجود، بل ثمة تجمع ذراتي، فالخط ليس إلا نقطة تحل محل نقطة".
والواقع أن ماسينون اعتمد على موقف (كلامي) خاص بالأشعريين وهذا الرأي ينطبق على الفكر الوحداتي القائم على وحدة العالم والوجود من خلال واحدية الخالق والتي عبر ماسينون في مصدر آخر عندما قال "الشيء الجميل هو شيء مركب، ويتجلى جماله في انسجام عناصر تركيبه"، ومن الواضح أن هذا القول ينفي الذراتية عن الشيء الجميل.
وعندما نتأمل الحركية الكامنة في تحولات الشكل المربع ضمن محيط الدائرة، يتبين لنا ثمة حركية وميضية تنطلق من المربع إلى الدائرة عبر مضاعفات المربع الهندسية 16-32-64 الخ، ضمن نظام السلسلة الهندسية، ونستطيع القول أن جميع القباب التذكارية تقوم على مبادئ قبة الصخرة ذاتها، بل لقد انتقل الشكل المضلع الثماني إلى أبنية لاحقة إسلامية، مثل قبة الصليبية في سامراء ومدرسة كابي آغا في آماسي – تركيا. وبقيت محافظة على مفهوم النجمة الثمانية. ولكنها عندما انتقلت إلى الأبنية المسيحية، مثل كنيسة القديس بطرس في روما، فإن المخطط يتحول من مربعين متقاطعين بشكل نجمة ثمانية، إلى مربع واحد يقطعه في أنصاف أضلاعه صليب (إغريقي) متساوي الضلعين، وقد بدا المربع في مخطط برامانتي أقل وضوحاً، فضخمه مايكل أنجلو في المخطط الذي نفذه، فأصبح أكثر وضوحاً، وذلك عندما أراد توسيع مواضع أركان القبة التي أصبحت أقطارها مضاعفة عن القبة التي صممها برامانتي، وهكذا فإن تحول مخطط الصليب والمربع إلى الدائرة التي تعلو الكنيسة كان إنشائياً مفتعلاً ولم يكن تصعيدياً كما هو في قبة الصخرة.
إن عدداً من القباب التي أنشئت في منطقة الحرم الشريف، كانت تذكارية، ولذلك فإن الرمز الوحيد الذي تتضمنه هو القبة ذاتها وهو الرمز السماوي المعروف والمعبر عن العناية الإلهية، وتحمل هذه القباب أقواس على أعمدة من واجهاتها الست كما هو قبة السلسلة، أو الواجهات الأربعة كما في قبة يوسف التي أنشأها صلاح الدين يوسف الأيوبي، أو في قبة يوسف آغا والقبة النحوية وقبة موسى، أما قبة النبي 945هـ/ 1538م، وقبة سليمان وقبة الأرواح فإنها تقوم على ثمانية وجوده.
وإذا انتقلنا إلى الزخارف الهندسية التي تبدو محفورة على واجهات المباني أو على أبوابها، نراها ترجع إلى المنطق نفسه، كأنها مرتسم التحولات المعمارية اللولبية على سطح ذي بعدين.
ويجب التمييز في الرقش العربي بين الرقش النباتي والرقش الهندسي، فالزخارف الفسيفسائية نباتية المنشأ، وعندما درست "فان برشيم"، و"دولوره" زخارف فسيفساء قبة الصخرة النباتية، كان لا بد من ربطها بتقاليد الزخارف السابقة للإسلام، لاستمرارية التقاليد المعمارية والفنية في المراحل الأولى لتشكل الفن الإسلامي، ولكن دارسة الزخارف الهندسية، تبقى مستمدة من الفكر الجمالي الإسلامي.
إن انطلاق الزخرفة الإسلامية من الشكل المربع ومضاعفاته المثمن والست عشرين نراه في تشكيل الزخرفة المسطحة على الأرضيات أو الجدران أو السقوف الخشبية، أو نراه في الزخرفة المجسمة في طاسات المحاريب وفي المقرنصات، ويرتبط هذا التحول إلى حد بعيد بالأسس الإسلامية التوحيدية التي عبر عنها معمارياً مصممو قبة الصخرة.
وإذا أردنا أن نستعير تحليل إيكوشار الذي أجراه على مقرنصات وزخارف الحمام في قلعة صلاح الدين في (سوريا)، فإننا سنرى أن طاسات المحاريب في مداخل المساجد والمدارس في مدينة القدس تخضع لمفهوم تحول نصف المربع إلى نصف قبة وهكذا، ونادراً ما نراه تخضع لمفهوم الانتقال في نصف المسدس إلى نصف اثنين عشري، وهكذا، أو من نصف المخمس إلى المعشر.
فلقد كانت النجمة الثمانية في الزخرفة والمخطط الثماني في العمارة التي التزمه معماريو قبة الصخرة علامة إسلامية مميزة، ولا ينفي أن المسدس والنجمة السداسية أو المخمس والنجمة الخماسية هي من التقاليد الفنية الإسلامية أيضاً لها تأويلها ومعناها، فالنجمة السداسية مؤلفة من مثلثين، واحد يمثل الأرض ورأسه إلى أعلى تعبيراً عن الإيمان، وآخر يمثل السماء ورأسه إلى أسفل تعبيراً عن عناية الله، والنجمة الخماسية هي إدماج للمثلين.
لقد كان الفكر الوحداني الإسلامي المحور الذي نشأ عليه الفن الإسلامي والعمارة الإسلامية وكانت تجارب المنشئين الأوائل في القدس من معماريين ومزخرفيين وخطاطين، محاولات تأسيسية لفن جديد، تتضح منطلقاته النظرية بتحاشي التشبيه لعدم مضاهاة الله في مقدرته على الخلق، أو فيما يتعلق بالتعبير عن المطلق عوضاً عن المشخص من خلال الشكل الهندسي المجرد، ففي ذلك يتحقق الانتماء إلى العقيدة التوحيدية من خلال الفن.
وإذا كانت ولادة الرقش العربي قد بدأت من هذه المنطلقات، فإن ولادة الخط العربي كعمل إبداعي، تولدت من تجويد كتابة القرآن تعبيراً عن التكريم والتعظيم، ويجب أن نذكر هنا أن أقدم شكل من أشكال الخط العربي البديع نراه على جدران قبة الصخرة، فثمة شريط طوله 240 متراً، يقع في القسم العلوي من المثمن الداخلي بقبة الصخرة يتضمن كتابة منفذة بفصوص الفسيفساء المذهبة على خلفية زرقاء، هي آيات قرآنية من سورة النساء وسورة آل عمران، وثمة كتابة أخرى تتضمن تاريخ بناء قبة الصخرة.
إن هذا الخط المسمى بالجليل الشامي المأخوذ من الخط النبطي المتأخر، قد تكيف مع الفسيفساء أو الألواح النحاسية في تشكيل المدات والمنحنيات، وبصورة عامة فإن هذا الخط المركب من الخط اليابس والخط اللين، يعتبر أساساً لأنواع الخطوط التي جاءت بعده الخط الكوفي وخط الثلث ومشتقاته.
لقد ازدهى مسجد قبة الصخرة بالزخارف النباتية الكثيفة المشكلة بالفسيفساء داخل القبة، أو الزخارف الهندسية المرسومة على ألواح القيشاني في واجهات القبة، ولا بد أن نشير هنا إلى أصالة هذه الزخارف .
في عام 950هـ/ 1543م أمر السلطان سليمان القانوني بترميم زخارف قبة الصخرة الخارجية، وكانت من الفسيفساء المشابه لفسيفساء الداخل الذي ما زال قائماً، ولكن المرمم وجد أنه من الأفضل استبدال الفسيفساء بألواح الخزف، التي نراها اليوم، نظراً للنقص الكبير في الغلاف الفسيفسائي، ولقد كان الاعتقاد أن هذه الألواح صنعت في أزنيك – تركيا، ولكن الدراسات الأخيرة أبانت أن هذه الألواح صنعت في القدس، يقول لين "إن أزنيك لم تكن ناشطة في صناعة الخزف ولم يكن لها دارية بصنعة ما يسمى بالحبل الجاف، ولذلك فإن هذه الألواح قد صنعت عام 959هـ/ 1552م محلياً دون شك، وليس لها نظير"، وكنا توسعنا في تأكيد هوية هذه الألواح الخزفية في بحث مستقل.
أما الفسيفساء الداخلية فهي صناعة محلية قام بتنفيذها صناع محليون، ولقد استبعدت مارغريت فان برشيم أن تكون الفسيفساء في قبة الصخرة مستوردة أو أن يكون الصناع غرباء.
ولا بد أن نتذكر أن كميات الفسيفساء الهائلة التي غطت بوقت واحد المنشآت الأموية في المسجد الأقصى وقبة الصخرة وجامع دمشق، وقصر المفجر وغيرها، لا يمكن أن تكون مستوردة، بل هي وتصاميمها محلية أصلية أنجزها عمال محليون، وتصاميم هذه الفسيفساء مجردة تعبر عن جمال الطبيعة دونما دلالة مادية، لأنها صيغ فردوسية ليس لها علاقة مباشرة بالصيغ الواقعية كالزهرة وغيرها.