أسباب مشكلة البطالة:
ترجع أسباب مشكلة البطالة في الجزء الأكبر منها إلى أسباب هيكلية تعود إلى طبيعة نمو الاقتصاد المصري كاقتصاد نامي يعاني من اختلالات هيكلية داخلية وخارجية تتمثل في الاختلال في ميزان المدفوعات والاختلال في الموازنة العامة للدولة، إلى جانب وجود فجوة كبيرة بين كل من الادخار والاستثمار وبالتالي الإنتاج والاستهلاك.
ولاشك أن البحث في أسباب مشكلة البطالة لابد من ربطه بنمط عملية التنمية السائدة فقد شهد الاقتصاد المصري تقلب في أكثر من نمط من أنماط التنمية فمن نمط اقتصاد الحر الرأسمالي قبل ثورة يوليو 52، إلى نمط الاقتصاد الاشتراكي الموجه مع ما صاحبه من التزام الدولة باستيعاب الجزء الأكبر من العمالة في دولار العمل الحكومي بشقيه الإنتاجي والخدمي، حيث أدي ذلك إلى خفض معدلات البطالة في تلك الفترة فرغم ما مر به الاقتصاد المصري في الفترة من 1968 إلى 1973 من صعوبات نتيجة لتوجيه وتعبئة الجزء الأكبر من موارده لصالح الاتفاق العسكري إلى جانب ما صاحبه ذلك من تدهور معدل الاستثمار المحلي إلا أن معدلات البطالة في تلك الفترة كانت تدور حول معدلات منخفضة إذا ما قورنت بالوقت الراهن (2.2 % من حجم قوة العمل) الأمر الذي قد يرجع إلى استيعاب القوات المسلحة لجزء كبير من قوة العمل مع زيادة سنوات الخدمة العسكرية.
ومع بداية تحول الاقتصاد المصري من نمط التنمية المعتمد على الاقتصاد الاشتراكي الموجه إلى تنفيذ ما سمي بسياسات الانفتاح الاقتصادي في النصف الثاني من السبعينيات اتجهت معدلات البطالة نحو الارتفاع النسبي إلا أن هذا الارتفاع ظل في الحدود المقبولة فقد تراوح معدل البطالة بين 2.3 % و5.6 % طوال هذه الفترة حيث مكن زيادة حجم الإنفاق الحكومي في ذلك الوقت ممن إعادة الإعمار وزيادة موارد مصر من النقد الأجنبي سواء كان ذلك من البترول أو تحويلات العاملين بالخارج أو حصيلة السياحة إضافة إلى القروض الضخمة التي حصلت عليها مصر آنذاك، كما ساهم استيعاب أسواق العمالة بالخليج العربي لأعداد كبيرة من العمال والفنيين المصريين في تأجيل انفجار مشكلة البطالة إلى عقدي الثمانينيات والتسعينيات حيث شهدت فترة الثمانينات العديد من العوامل التي أدت إلى تفاقم مشكلة البطالة.
إذ ساهمت مجموعة من العوامل الخارجية في إضعاف معدلات الاستثمار وبالتالي زيادة حجم البطالة من هذه العوامل انخفاض الحصيلة من بيع البترول المصري نتيجة لانخفاض أسعارها إلى جانب قلة حجم الصادرات المصرية الأخرى. يضاف إلى ذلك تفاقم مشكلة ديون مصر الخارجية وزيادة أعباء خدمة الدين مع ما صاحب ذلك من قيود على قدرة مصر على الاقتراض.
كل هذه عوامل وأسباب ساهمت في تفاقم مشكلة البطالة بدءاً من عام 1991 لبرنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي حيث اتخذت مشكلة البطالة أبعاداًً جديدة فما هو أثر تطبيقه برنامج الإصلاح الاقتصادي على مشكلة البطالة.
ويترتب على الاعتراف بتنوع صنوف البطالة تفهّم أن للبطالة أو نقص التشغيل، فى سياق الاقتصاد الكلى للبلدان النامية، آثاراً وخيمة على الرفاه البشرى. فانتشار البطالة يحرم المتعطلين من الكسب، مصدر العيش الأساسى لسواد الناس فى هذه البلدان. واستشراء البطالة المستترة) يضغط على الأجور، وهى متدنية أصلاً، ويُقلل من قدرتها على اللحاق بمتصاعد الغلاء. وحيث يشتد وقع البطالة على القطاعات الأضعف من المجتمع، الفقراء والنساء، تُساعد البطالة على زيادة التشرذم الاجتماعى.
وفى منظور إمكان التنمية لابد وأن يؤدى اشتداد نقص التشغيل إلى تفاقم قصور الإنتاج عن إشباع الحاجات الإنسانية، معمقاً بذلك الاعتماد على العالم الخارجى، فى الوفاء بهذه الحاجات، ومُزيداً من اللجوء إلى القروض والمعونات، لتمويل شراء هذه الحاجات، مما يُعيد إنتاج التبعية لمراكز الاقتصاد العالمى، فقط على درك أدنى من العجز، وغياب القدرة على التنافس فى المعترك الاقتصادى الدولى. وتكون المحصلة هى استفحال مشكلة التخلف فى حلقة شريرة يتعين العمل على كسرها..
مفهوم "التشغيل الكامل"
التشغيل الكامل هو نقيض البطالة، بالمفهوم الواسع. ولذلك فإن هدف مكافحة البطالة فى بلد نام كمصر يتعين أن يكون بناء البنية الاقتصادية والمؤسسية الهادفة لتحقيق التشغيل الكامل.
وعلى وجه التحديد، يعنى التشغيل الكامل، توافر "عمل جيد" لكل من يطلب عملاً. عمل منتج، يوظف الفرد فيه قدرته وإمكاناته، ويحقق فيه ذاته، وتتوافر له فيه فرص النمو والتطور، تحت ظروف تتسق والكرامة الإنسانية، ويكسب منه ما يكفى لتفادى الفقر والمهانة.
فى هذا المنظور، يتضح أن البطالة صنو للفقر، حينما يعرف الفقر حسب تعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائى- بمعنى قصور القدرة الإنسانية عن الوفاء بأحقيات البشر فى حياة كريمة، والذى يرى فى الضعف الاجتماعى أو قلة الحيلة مسبب أساسى للفقر. حيث تعد القدرة على العمل رأس المال الوحيد، أو الأهم، للغالبية الساحقة من الفقراء. ورغم أن أفقر الفقراء لا يطيقون ترف البطالة السافرة، حيث يتعين عليهم التعلق بعمل ما من أجل البقاء، فإن مستوى الرفاه الناتج عن نوع الأعمال التى يقومون بها، أو ظروف العمل، تكون من التدنى بحيث لا يمكن وصفها بأنها أعمال "جيدة"، وتندرج، من ثم، تحت صنف أو آخر من صنوف البطالة.
وبناء على ذلك، يصبح خلق فرص العمل المنتجة، والمكسبة، فى المجتمعات التى ينتشر فيها الفقر وتتفاقم البطالة وتضعف شبكات الحماية الاجتماعية، أهم سبل مكافحة الفقر، والتخلف بوجه عام.
موقف الحكومة:
لقد تم الإعلان، مرة أخرى، عن أن مكافحة البطالة ستلقى أولوية على جدول أعمال الحكومة وتجدر التذكرة بأن إعلانات مماثلة، سابقة، قد شهدت مشكلة البطالة، خاصة فى منظور التشغيل الكامل، تستفحل.
غير أن الأخبار الواردة من مجلس الوزراء توحى بمحاولة أخذ أولوية مكافحة البطالة جدياً، هذه المرة. وكخطوة أولى فى هذا الاتجاه، أعلنت الحكومة أنها ستخلق 150 ألف فرصة عمل فى الوزارات: فى التعليم والصحة والأوقاف. وإذا قبلنا عدد المتعطلين من تعداد 1996، فإن "حل" مشكلة البطالة، على هذا النحو، لن يستغرق أكثر من عشر سنوات. هذا إن أمكن تكرار المواءمة المالية التى اقتضاها الإعلان عن هذه الشريحة الأولى من الوظائف الحكومية الجديدة.
ولكن، حتى بصرف النظر عن قضايا البطالة المستترة فى الخدمة الحكومية، وهى من جوانب البطالة الأخطر كما أوضحنا أعلاه، يبقى التساؤل عن ما إذا كانت هذه الوظائف الحكومية الجديدة ستعتبر "أعمالاً جيدة" بما يكفى لترغيب الباحثين عن عمل فى الالتحاق بها (فى العام الماضى عينت وزارة التربية والتعليم 50 ألفاً من الخريجين فى وظائف تعليمية، ولكن يتكرر أن أكثر من نصف المعينين لم يقبلوا الالتحاق بالوظائف).
غير أن الحكومة قد صعّدت حملة مكافحة البطالة بالإعلان عن مبادرة أخرى تتضمن إضافة حوالى نصف مليون فرصة عمل إضافية إلى المائة والخمسين ألفاً التى سبق الإعلان عنها.
من هذه الشريحة الجديدة، أعطيت مسؤولية خلق 200 ألف فرصة عمل، فى القطاع الخاص، لمكاتب التشغيل التابعة لوزارة العمل- وهى مسؤولية كانت دائماً من صميم اختصاص هذه المكاتب، وليس واضحاً ما هو الجديد الذى سيمكن مكاتب التشغيل من الوفاء بهذه المهمة الآن.
كذلك أوكلت مهمة خلق 200 ألف فرصة عمل أخرى للصندوق الاجتماعى للتنمية، باستخدام "تمويل متاح فعلاً يبلغ 1.2 مليار جنيه" (الأمر الذى قد يعنى، لأول وهلة، افتراض متوسط تكلفة لفرصة العمل يوازى ستة آلاف جنيه مصرى، وهى ليست إلا جزءاً يسيراً من تكلفة خلق فرصة العمل فى عموم الاقتصاد المصرى، كما سبقت الإشارة). وبالإضافة، فإن برنامج "شروق" للتنمية الريفية، متواضع التأثير، خصص له أن يخلق 33 ألف فرصة عمل. على أن يخلق باقى فرص العمل المعلن عنها من خلال عدد من المبادرات الأخرى (تشمل التدريب على تقانات الاتصال والمعلومات، ومشاتل الأشجار، وجمع القمامة وإصحاح البيئة).
وبالمقارنة بشريحة المائة والخمسين ألفاً من فرص العمل فى الحكومة، فإن النصف مليون فرصة عمل الجديدة تبدو أقل قابلية للتحقق، ويبقى مثاراً بشأنها أيضاً مسائل مستوى البطالة المستترة (خاصة بُعدي الإنتاجية والكسب) المترتبة عليها، ومن ثم، مدى تحقيقها لمنفعة الاقتصاد المصرى ككل، ومن سيقبل على فرص العمل التى سيتم خلقها فعلاً من المتعطلين؟