أقوال العلماء الأعلام على أحاديث عمدة الأحكام
(باب الوتر)
الحديث الأول
118- عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سأل رجل النبي - صل الله عليه وسلم - وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: "مثنى، مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى" وإنه كان يقول: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا".
• مثنى مثنى: أي ركعتين ركعتين.
• الوتر سنة مؤكدة لا ينبغي تركه.
• قال الحافظ: (والوتر بالكسر الفرد، وبالفتح الثأر، وفي لغة مترادفان، وقال البغوي في قوله تعالى: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 3] قرأ حمزة والكسائي الوتر بكسر الواو، وقرأ الآخرون بفتحها)[1]. • قوله: (سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر) وفي رواية: "أن رجلا جاء إلى النبي - صل الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل".
• قال الحافظ: وقد تبين من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل والوصل، وفي رواية محمد بن نصر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "قال رجل: يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلي من الليل".
• قوله: (مثنى مثنى) وعند مسلم: قلت لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين.
• قال الحافظ: (واستدل بهذا على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل، قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل لما صح من فعله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه، ولم يتعين أيضا كونه لذلك، بل يحتمل أن يكون للإرشاد إلي الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالبا وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط لم يواظب عليه - صلى الله عليه وسلم -، ومن ادعى اختصاصه به فعليه البيان، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - الفصل كما صح عنه الوصل، فعند أبي داود ومحمد بن نصر من طريقي الأوزاعي وابن أبي ذئب كلاهما عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين" وإسنادهما على شرط الشيخين، واستدل به أيضا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، وقد اختلف السلف في الفصل والوصل في صلاة الليل أيهما أفضل. وقال الأثرم عن أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، فإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس، وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل قال: وقد صح عن النبي - صل الله عليه وسلم - أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرها إلي غير ذلك من الأحاديث الدالة على الوصل، إلا أنا نختار أن يسلم من كل ركعتين لكونه أجاب به السائل ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا)[2]. • قوله: (فإذا خشي أحدكم الصبح).
• قال الحافظ: (استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو داود والنسائي وصححه أبو عوانة وغيره من طريق سليمان بن موسى عن نافع أنه حدثه أن ابن عمر كان يقول: "من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترا فإن رسول الله - صل الله عليه وسلم - كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر" وفي صحيح ابن خزيمة من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا: "من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له" وهذا محمول على التعمد أو على أنه لا يقع أداء، لما رواه من حديث أبي سعيد أيضا مرفوعا: "من نسى الوتر أو نام عنه فليصله إذا ذكره".
وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله الشافعي في القديم. وقال ابن قدامة: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح، واختلف السلف في مشروعية قضائه فنفاه الأكثر، وفي مسلم وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - "أنه - صل الله عليه وسلم - "كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة")[3]. • قوله: (صلى ركعة واحدة).
• قال الحافظ: (واستدل بهذا على أنه لا صلاة بعد الوتر، وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل هل يكتفي بوتره الأول وليتنفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل ثم إذا فعل ذلك هل يحتاج إلي وتر آخر أو لا؟ فأما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس" وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعلوا الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترا" مختصا بمن أوتر آخر الليل. وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر وجواز التنفل جالسا. وأما الثاني فذهب الأكثر إلا أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وتران في ليلة"، وهو حديث حسن أخرجه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث طلق بن علي، وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر، وقد تقدم ما فيه. وروي محمد بن نصر من طريق سعيد بن الحارث أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صلي ما بدا لك ثم أوتر، وإلا فصل وترك على الذي كنت أوترت. ومن طريق أخرى عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال: أما أنا فاصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة. فقيل: أرأيت إن أوترت قبل أن أنام ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس. واستدل بقوله - صل الله عليه وسلم -: "صل ركعة واحدة" على أن فصل الوتر أفضل من وصله، وتعقب بأنه ليس صريحا في الفصل، فيحتمل أن يريد بقوله: "صل ركعة واحدة" أي مضافة إلي ركعتين مما مضى).
عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا "لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب".
• قال الحافظ: (وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان والحاكم.
عن عائشة أنه كان - صل الله عليه وسلم - يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن. رواه الحاكم.
وروي النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه ولفظه: يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ولا يسلم إلا في آخرهن.
قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبه بصلاة المغرب أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، قوله: "فأوترت له ما صلى وفي رواية "توتر له ما قد صلى" استدل به على أن الركعة الأخيرة هي الوتر وأن كل ما تقدمها شفع، قال واستدل به على تعين الشفع قبل الوتر وهو عن المالكية بناء على أن قوله: "ما قد صلى" أي من النفل. وحمله من لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من النفل والفرض وقالوا: إن سبق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيده حديث أبي أيوب مرفوعا: "الوتر حق، فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها قوله: وإنه كان يقول اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا تقدم الكلام عليه في أثناء الحديث [4] والله أعلم. الحديث الثاني
119- عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله - صل الله عليه وسلم -، من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر.
• قال البخاري: باب ساعات الوتر، قال أبو هريرة: أوصاني النبي - صل الله عليه وسلم - بالوتر قبل النوم.
وذكر حديث ابن عمر قال أنس بن سيرين قال قلت لابن عمر ورأيت الركعتين قبل صلاة الغداة أطيل فيهما القراءة فقال كان النبي - صل الله عليه وسلم - يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة ويصلي الركعتين قبل صلاة الغداة وكأن الأذان بأذنيه، قال حماد: أي سرعة".
ثم ذكر حديث عائشة ولفظه: كل الليل أوتر رسول الله - صل الله عليه وسلم - وانتهى وتره إلي السحر".
• قال الحافظ: (قوله: "باب ساعات الوتر" أي أوقاته. ومحصل ما ذكره أن الليل كله وقت للوتر، لكن أجمعوا على أن ابتداءه مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن المنذر).
• قال الحافظ: (ولا معارضة بين وصية أبي هريرة بالوتر قبل النوم وبين قول عائشة "وانتهى وتره إلي السحر" لأن الأول لإرادة الاحتياط، والآخر لمن علم من نفسه قوة، كما ورد في حديث جابر عند مسلم ولفظه: "من طمع منكم أن يقوم آخر الليل فليوتر من آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة. وذلك أفضل. ومن خاف منكم أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله").
• قوله: (من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلي السحر).
• قال الحافظ: (زاد أبو داود والترمذي "حين مات" ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر في أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر وسطه لعله كان مسافرا، وأما وتره في آخره فكأنه كان غالب أحواله، لما عرف من مواظبته على الصلاة في أكثر الليل والله أعلم. والسحر قبيل الصبح)[5]. وبالله التوفيق. الحديث الثالث
120- عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صل الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها.
• قال البخاري: باب كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل؟ وذكر حديث ابن عمر الماضي، وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عثرة ركعة. يعني بالليل. وحديث عائشة عن مسروق، قال: سألت عائشة - رضي الله عنها -، عن صلاة رسول الله - صل الله عليه وسلم - بالليل فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر[6]. • قال الحافظ: (قوله: "باب كيف صلاة الليل، وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل؟ " أورد فيه أربعة أحاديث: أولهما حديث ابن عمر "صلاة الليل مثنى مثنى" الحديث، وقد تقدم الكلام عليه وأنه الأفضل في حق الأمة لكونه أجاب به السائل، وأنه - صل الله عليه وسلم - صح عنه فعل الفصل والوصل. ثانيهما حديث أبي جمرة، عن ابن عباس، ثالثهما حديث عائشة، من رواية مسروق، رابعها حديثها من طريق القاسم، عنها "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة منها الوتر وركعتا الفجر" وفي رواية مسلم، من هذا الوجه "كانت صلاته عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة" فأما ما أجابت به مسروقا فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعا وتارة تسعا وتارة إحدى عشرة، وأما حديث القاسم عنها، فمحمول على أن ذلك كان غالب حاله، وفي رواية أبي سلمة عنها أن ذلك كان أكثر ما يصليه في الليل.
ولفظه: "ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة" الحديث. وفيه: ما يدل على أن ركعتي الفجر من غيرها فهو مطابق لرواية القاسم. وأما ما رواه الزهري، عن عروة، عنها "كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين" فظاهره يخالف ما تقدم، فيحتمل أن تكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لكونه كان يصليها في بيته، أو ما كان يفتتح به صلاة الليل فقد ثبت عند مسلم، من طريق سعد بن هشام عنها، أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة التي دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند المصنف وغيره: "يصلي أريعا ثم أربعا ثم ثلاثا" فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما في رواية الزهري، والزيادة من الحافظ مقبولة، وبهذا يجمع بين الروايات. وينبغي أن يستحضر هنا ما تقدم في أبواب الوتر من ذكر الركعتين بعد الوتر والاختلاف هل هما الركعتان بعد الفجر أو صلاة مفردة بعد الوتر، ويؤيده ما وقع عند أحمد وأبي داود، من رواية عبد الله بن أبي قيس، عن عائشة بلفظ: "كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ولا أنقص من سبع" وهذا أصح ما وقفت عليه من ذلك، وبه يجمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك والله أعلم.
قال: والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز) [7]والله أعلم. • قال البخاري: باب قيام النبي - صل الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره.
حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فقالت ما كان رسول الله - صل الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا قالت عائشة فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي".
• قال الحافظ: وفي الحديث دلالة على أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، وفيه كراهة النوم قبل الوتر لاستفهام عائشة عن ذلك كأنه تقرر عندها من ذلك فأجابها بأنه - صل الله عليه وسلم - ليس في ذلك كغيره انتهى.
• قال البخاري: باب فضل من قام رمضان [8]، وذكر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صل الله عليه وسلم - يقول لرمضان: "من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". • قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر - رضي الله عنه -، وعن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلي المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله "ثم ذكر حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثت فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها فتوفي رسول الله - صل الله عليه وسلم - والأمر على ذلك" ثم ذكر حديث عائشة ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة الحديث.
• قال الحافظ: والتراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام. سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، قال ابن التين وغيره استنبط عمر ذلك من تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلى معه في تلك الليالي، وإن كان كره ذلك لهم فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث عائشة عقب حديث عمر، فلما مات النبي - صل الله عليه وسلم - حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين، وإلى قول عمر جنح الجمهور إلا أن قال قوله: "قال عمر نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة تاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كان مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. قوله: "والتي ينامون عنها أفضل" هذا تصريح منه بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع.
تكميل: لم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب، وقد اختلف في ذلك ففي "الموطأ" عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة، ورواه سعيد بن منصور من وجه آخر وزاد فيه: "وكانوا يقرؤون بالمائتين ويقومون على العصي من طول القيام" ورواه محمد بن نصر المروزي من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يوسف فقال ثلاث عشرة ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال إحدى وعشرين، وروي مالك من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عشرين ركعة وهذا محمول على غير الوتر، وعن يزيد بن رومان قال: "كان الناس يقومون في زمان عمر بثلاث وعشرين" وروي محمد بن نصر من طريق عطاء قال: "أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر" والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس وبذلك جزم الداودي وغيره، والعدد الأول موافق لحديث عائشة المذكور والثاني قريب منه، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلي الاختلاف في الوتر وكأنه كان تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث - إلى أن قال - وأخرج من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب ابن يزيد قال: كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة، قال ابن إسحاق وهذا أثبت ما سمعت في ذلك، وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي - صل الله عليه وسلم - من الليل [9] والله أعلم. تتمة:
• قال في الاختيارات: (ويجب الوتر على من يتهجد بالليل وهو مذهب بعض من يوجبه مطلقا ويخير في الوتر بين فصله ووصله وفي دعائه بين فعله وتركه والوتر لا يقضي إذا فات لفوات المقصود منه بفوات وقته وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولا يقنت في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة فيقنت كل مصل في جميع الصلوات لكنه في الفجر والمغرب أكد بما يناسب تلك النازلة، وإذا صلى قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر أو نصفه الأخير أو لم يقنت بحال فقد أحسن، والتراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: عشرين ركعة أو: كمذهب مالك ستا وثلاثين أو ثلاث عشرة أو إحدى عشرة فقد أحسن.
كما نص عليه الإمام أحمد لعدم التوقيف فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره ومن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة، ويقرأ أول ليلة من رمضان في العشاء الآخرة سورة (القلم) لأنها أول ما نزل ونقله إبراهيم بن محمد الحارث عن الإمام أحمد وهو أحسن مما نقله غيره أنه يبتدئ بها التراويح، ولا يجوز التطوع مضطجعا لغير عذر وهو قول جمهور العلماء.
وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد وللمالكية وجهان في كراهتها وكرهها مالك وأما قراءة واحد والباقون يتسمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة وهي التي كان الصحابة يفعلونها: كأبي موسى وغيره.
وتعليم القرآن في المسجد لا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر على المسجد وأهله بل يستحب تعليم القرآن في المساجد.
وقول الإمام أحمد في الرجوع إلي قول التابعي عام في التفسير وغيره، وقيام بعض الليالي كلها مما جاءت به السنة، وصلاة الرغائب بدعة محدثة لم يصلها النبي - صل الله عليه وسلم - ولا أحد من السلف، وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل وكان في السلف من يصلي فيها لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة وكذلك الصلاة الألفية. وتقول المرأة في سيد الاستغفار وما في معناه: وأنا أمتك بنت أمتك أو بنت عبدك ولو قالت: وأنا عبدك فله مخرج في العربية بتأويل شخص، وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط وكذا الحج لأن الصلاة ورمضان أعظم منه وكثرة الركوع والسجود وطول القيام سواء في الفضيلة وهو إحدى الروايات عن أحمد.
ونص الإمام أحمد وأئمة الصحابة على كراهة صلاة التسبيح ولم يستحبها إمام واستحبها ابن المبارك عن صفة لم يرد بها الخبر، فيما أبو حنيفة والشافعي ومالك: فلم يستحبوها بالكلية وقال الشيخ أبو محمد المقدسي: لا بأس بها فإن الفضائل لا يشترط لها صحة الخبر كذا قال أبو العباس: يعمل بالخبر الضعيف يعني أن النفس ترجو ذلك الثواب أو ذلك العقاب ومثله التركيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي لا الاستحباب ولا غيره لكن يجوز ذكره في الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإنه ينفع ولا يضر واعتقاد موجبه من قدر الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي، وقال أيضا في التيمم بضربتين والعمل بالضعيف إنما يشرع في عمل قد علم أنه مشروع في الجملة فإذا رغب في بعض أنواعه بخبر ضعيف عمل به، أما إثبات سنة فلا، وكل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي لكن هي من جنس المأمور به: مثل الصلاة وقت النهي وصوم العيد أثيب على ذلك)[10] انتهى والله أعلم.
[1] فتح الباري: (2/ 478).
[4] فتح الباري: (2/480، 481)
[5] فتح الباري: (2/486، 487
). [8] فتح الباري:
(4/ 250).
[9] فتح الباري: (4/ 251).
[10] الاختيارات الفقهية: (1/ 427).