عظم خلق أهل النار
يدخل أهل الجحيم النار على صورة ضخمة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقهم، ففي الحديث الذي يرفعه أبو هريرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع " رواه مسلم . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم - : " ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث " .
وهذا التعظيم لجسد الكافر ليزداد عذابه وآلامه، يقول النووي في شرحه لأحاديث مسلم في هذا الباب: " هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدور لله تعالى يجب الإيمان به لإخبار الصادق به ". وقال ابن كثير معلقاً على ما أورده من هذه الأحاديث : "ليكون ذلك أنكى في تعذيبهم، وأعظم في تعبهم ولهيبهم، كما قال شديد العقاب : ( ليذوقوا العذاب ) [النساء: 56 ] .
طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم
طعام أهل النار الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين والغساق، قال تعالى: ( ليس لهم طعام إلا من ضريع* لا يسمن ولا يغني من جوع ) [الغاشية: 6-7 ]، والضريع شوك بأرض الحجاز يقال له الشبرق. وعن ابن عباس : الشبرق : نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، فإذا هاج سمي ضريعاً . وقال قتادة : من أضرع الطعام وأبشعه.
وهذا الطعام الذي يأكله أهل النار لا يفيدهم ، فلا يجدون لذة ، ولا تنتفع به أجسادهم ، فأكلهم له نوع من أنواع العذاب .
وقال تعالى: ( إن شجرت الزقوم*طعام الأثيم*كالمهل يغلي في البطون* كغلي الحميم ) [ الدخان: 43-46] وقد وصف شجرة الزقوم في آية أخرى فقال: ( أذلك خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم* إنا جعلناها فتنة للظالمين* إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم*طلعها كأنه رؤوس الشياطين* فإنهم لأكلون منها فمالئون منها البطون* ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم* ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ) [الصافات: 62-68 ].
وقال في موضع آخر: ( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون* لأكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون* فشاربون عليه من الحميم* فشاربون شرب الهيم* هذا نزلهم يوم الدين ) [الواقعة: 51-56 ].
ويؤخذ من هذه الآيات أن هذه الشجرة شجرة خبيثة، جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها، وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر ولذلك شبهه برؤوس الشياطين، وقد استقر في النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لا يرونهم، ومع خبث هذه الشجرة وخبث طلعها، إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفراً من الأكل منها إلى درجة ملء البطون، فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلي في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت، فيجدون لذلك الآماً مبرحة، فإذا بلغت الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهى حره، فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب وتشرب ولا تروى لمرض أصابها، وعند ذلك يقطع الحميم أمعاءهم ( وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15 ]. هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم ، أعاذنا الله من حال أهل النار بمنه وكرمه.
وإذا أكل أهل النار هذا الطعام الخبيث من الضريع والزقوم غصوا به لقبحه وخبثه وفساده ( إن لدينا أنكالاً وجحيماً* وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليما ) [المزمل : 12-13 ]، والطعام ذو الغصة هو الذي يغص به آكله، إذ يقف في حلقه.
وقد صور لنا الرسول - صل الله عليه وسلم - شناعة الزقوم وفظاعته، فقال: " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه " رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح .
ومن طعام أهل النار الغسلين، قال تعالى: ( فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون )[الحاقة: 35-37 ]، وقال تعالى : ( هذا فليذوقوه حميم وغساق* وآخر من شكله أزواج ) [ص : 57-58 ] .
والغسلين والغساق بمعنى واحد، وهو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد ، وقيل : ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وقال القرطبى : هو عصارة أهل النار .
وقد أخبر الحق أن الغسلين واحد من أنواع كثيرة تشبه هذا النوع في فظاعته وشناعته.
أما شرابهم :
قال تعالى: ( وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم ) [محمد: 15 ]،
وقال : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ) [الكهف: 29 ]،
وقال : ( ويسقى من ماء صديد* يتجرعه ولا يكاد يسيغه ) [إبراهيم:16-17]،
وقاا : ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) [ص: 57 ].
وقد ذكرت هذه الآيات أربعة أنواع من شراب أهل النار :
الأول : الحميم ، وهو الماء الحار الذي تناهي حره، كما قال تعالى: ( يطوفون بينهم وبين حميم آن ) [الرحمن : 44 ]، والـ ( آن ): هو الذي انتهى حره، وقال: ( تسقى من عين آنية ) [الغاشية:5 ]، وهي التي انتهى حرها فليس بعدها حر.
النوع الثاني : الغساق ، وقد مضى الحديث عنه ، فإنه يذكر في مأكول أهل النار ومشروبهم .
النوع الثالث : الصديد ، وهو ما يسيل من لحم الكافر وجلده ، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: " إن على الله عهداً لمن شرب المسكرات ليسقيه طينة الخبال . قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال : عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار ".
الرابع : المهل . وفي حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي عن النبي - صل الله عليه وسلم - في قوله: " كعكر الزيت، فإذا قرب وجهه سقطت فروة وجهه فيه ".
وقال ابن عباس: في تفسير المهل : " غليظ كدردي الزيت ".
أكلهم النار :
من أصحاب الذنوب من يطعمه الله جمر جهنم جزاء وفاقاً، ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً ) [ النساء: 10 ].
وقال: ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) [البقرة:174 ].
أما لباس أهل النار:
فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه يُفصّل لأهل النار حلل من النار، كما قال تعالى: ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم ) [ الحج: 19 ]. وكان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول: سبحان من خلق من النار ثياباً .
وقال تعالى: ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد* سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) [ إبراهيم: 49]. والقطران: هو النحاس المذاب . وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الاشعري عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليه سربال من قطران ودرع من جرب ".
عذاب أهل النار
شدة ما يكابده أهل النار من عذاب
النار عذابها شديد ، وفيها من الأهوال وألوان العذاب ما يجعل الإنسان يبذل في سبيل الخلاص منها نفائس الأموال ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ) [آل عمران: 91 ]، وقال الحق في هذا المعنى: ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثلهم معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقُبل منهم ولهم عذاب أليم ) [المائدة: 36 ].
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم - : " يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب " .
إنها لحظات قليلة تُنسي أكثر الكفار نعيماً كلّ أوقات السعادة والهناء .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم - : " يقول الله – تبارك وتعالى – لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول : نعم . فيقول أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال: ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك " .
إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة: ( يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه* وصاحبته وأخيه* وفصيلته التي تؤيه* ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه* كلا إنها لظى * نزاعة للشوى ) [المعارج: 11-16 ] .
وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر.
صور من عذابهم
1/ تفاوت عذاب أهل النار
لما كانت النار دركات بعضها أشد عذاباً وهولاً من بعض كان أهلها متفاوتون في العذاب ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم وأحمد عن سمرة، عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال في أهل النار : " إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته " وفي رواية " إلى عنقه ".
وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أخف أهل النار عذاباً، ففي صحيح البخاري عن النعمان بن بشير قال : سمعت النبي - صل الله عليه وسلم - يقول: " إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه ". وفي رواية أخرى في صحيح البخاري أيضاً عن النعمان بن بشير: " إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل في القمقم ".
وفي رواية النعمان بن بشير عن مسلم : " إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار ، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل ، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً ".
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: " إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل نعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه ".
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انه سمع رسول الله - صل الله عليه وسلم - وذُكر عنده عمه أبو طالب، فقال: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه
وقد جاءت النصوص القرآنية مصدقة لتفاوت أصحاب النار في العذاب كقوله تعالى: ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) [ النساء:145] ، وقوله: ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر:46]، وقوله : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) [ النحل: 88].
يقول القرطبي في هذا الموضوع: " هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط ، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة،ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر ،مساوياً لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين ، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي - صل الله عليه وسلم - إلى ضحضاح لنصرته إياه ، وذبّه عنه وإحسانه إليه ؟ وحديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب ، ويصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين " .
2/ إنضاج الجلود
إن نار الجبار تحرق جلود أهل النار ، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق ، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلوداً أخرى غير تلك التي احترقت، لتحترق من جديد ، وهكذا دواليك، ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ) [ النساء: 56].
3/ الصهر
من ألوان العذاب صب الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره ، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما بطونهم والجلود ) [الحج:19-20] .
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: " إن الحميم ليصب على رؤوسهم ، فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعود كما كان "، وقال: حسن غريب صحيح.
4/ اللفح
أكرم ما في الإنسان وجهه ،ولذلك نهانا الرسول - صل الله عليه وسلم - عن ضرب الوجه ، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عمياً وصما وبكماً ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ) [ الإسراء:97]، ويلقون في النار على وجوههم ( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) [ النمل:90].
وتلفح النار وجوههم وتغشاها أبداً لا يجدون حائلا يحول بينهم وبينها ( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ) [ الأنبياء:39]، ( تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ) [المؤمنون:104]، ( سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) [ إبراهيم:50]، ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ) [الزمر:24]، وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) [ الأحزاب: 66]، أرأيت كيف يقلب اللحم على النار، والسمك في المقلى ، كذلك تقلب وجوههم في النار ، نعوذ بالله من عذاب أهل النار .
5/ السحب
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم ( إن المجرمين في ضلال وسعر* يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ) [ القمر:47-48]، ويزيد من آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل ( فسوف يعلمون* إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون* في الحميم ثم في النار يسجرون ) [ غافر:70-72]، قال قتادة : يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة .
6/ تسويد الوجوه
يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) [ آل عمران:106]، وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ يونس: 27].
7/ إحاطة النار بالكفار
أهل النار هم الكفار الذين أحاطت بهم ذنوبهم ومعاصيهم ، فلم تبق لهم حسنة ، كما قال تعالى في الرد على اليهود الذين قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة:81]، ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافراً مشركاً، يقول صديق حسن خان: " المراد بالسيئة هنا الجنس ، ولابد أن يكون سببها محيطاً بها من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة ، وسدت عليها مسالك النجاة ، والخلود في النار هو للكفار والمشركين ، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار ".
ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى : ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) [ الأعراف:41]. والمهاد ما يكون من تحتهم ، والغواش جمع غاشية، وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم ، كما قال تعالى : ( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجهلم ) [ العنكبوت:55]، وقال في موضع آخر : ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) [ الزمر:16]، وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر : ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) [ التوبة:49]. وقد فسر بعض السلف المهاد بالفرش ، والغواش باللحف .
وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، ذلك أن للنار سوراً يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى : ( إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ) [ الكهف:29]. وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها.
8/ إطلاع النار على الأفئدة
ذكرنا أن أهل النار يضخم خلقهم في النار شيئاً عظيماً، ومع ذلك فإن النار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم ( سأصليه سقر* وما أدراك ما سقر* لا تبقي ولا تذر* لواحة للبشر ) [ المدثر:26-29]، قال بعض السلف في قوله: ( لا تبقي ولا تذر ) ، قال: " تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك "
وقال الحق تبارك وتعالى: ( كلا لينبذن في الحطمة* وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة ) [ الهمزة:4-7].
قال محمد بن كعب القرظي: " تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه ". وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: " تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء، لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي ".
9/ اندلاق الأمعاء في النار
في الصحيحين عن أسامة بن زيد عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال: " يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه ، فيقولون: أي فلان، ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ".
ومن الذين يجرون أمعاءهم في النار عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين العرب ، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجر قصبه في النار، ففي الصحيحين عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: " رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب " .
10/ قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم
أعد الله لأهل النار في النار سلاسل وأغلالاً وقيوداً ومطارق ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا ) [ الإنسان:4]، ( إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً ) [ المزمل:12-13]، والأغلال توضع في الأعناق ( وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) [ سبأ:33]، ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ) [غافر:71]، والأنكال : القيود ، سميت أنكالاً لأن الله يعذبهم وينكل بهم بها ( إن لدينا أنكالاً وجحيماً ) [ المزمل:12]، والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم ( خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ) [ الحاقة:30-32].
وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد ، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم، ( ولهم مقامع من حديد* كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ) [ الحج:21-22] .
11/ قرن معبوداتهم وشياطينهم بهم في النار
كان الكفار والمشركون يعظمون الآلهة التي يبعدونها من دون الله ، ويدافعون عنها، ويبذلون في سبيل ذلك النفس والمال، وفي يوم القيامة يدخل الحق تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله النار إهانة لعابديها وإذلالاً لهم ، ليعلموا أنهم كانوا ضالين، يعبدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ( إنكم وما تعبدون من دون حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) [ الأنبياء:98-99].
يقول ابن رجب: " لما عبد الكفار الآلهة من دون الله، واعتقدوا أنها تشفع لهم عند الله ، وتقربهم إليه ، عوقبوا بأن جعلت معهم في النار إهانة لهم وإذلالاً ، ونكاية لهم وإبلاغاً في حسرتهم وندامتهم، فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه وحسرته ".
ومن أجل ذلك يقذف في يوم القيامة بالشمس والقمر في النار، ليكونا مما توقد به النار ، تبكيتاً للظالمين الذين كانوا يعبدونها من دون الله، ففي الحديث : " الشمس والقمر مكوران في النار ".
يقول القرطبي: " وإنما يجمعان في جهنم ، لأنهما قد عُبداً من دون الله لا تكون النار عذاباً لهم، لأنهما جماد ، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم ، هكذا قال بعض أهل العلم ".
ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم ليكون أشد لعذابهم: ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون* حتى إذا جاءنا قال يا ليت بين وبينك بعد المشرقين فبئس القرين* ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) [الزخرف:36-39].
12/ حسرتهم وندمهم ودعاؤهم
عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم ،ولات ساعة مندم ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) [يونس:54] . ، وعندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله، فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النار ، فإنه يدعو بالثبور والهلاك ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبوراً *ويصلى سعيراً ) [ الانشقاق : 10-12].
ويتكرر دعاؤهم بالويل والهلاك عندما يلقون في النار، ويصلون حرها ( وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً* لا تدعوا اليوم ثبوراً واحدة وادعوا ثبوراً كثيراً ) [ الفرقان:13-14]. وهناك يعلو صراخهم ويشتد عويلهم ،ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار ، ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ) [فاطر:37]، وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقلة عقولهم ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [الملك:10]، ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) [ غافر:11].
ولكن طلبهم يرفض بشدة ، ويجابون بما تستحق أن تجاب به الأنعام ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين* ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون* قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون:106-108].
لقد حق عليهم القول ، وصاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ولا يقبل فيه رجاء ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون* ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) [ السجدة:12-14].
ويتوجه أهل النار بعد ذلك بالنداء إلى خزنة النار، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئاً مما يعانونه ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب* قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) [غافر:49-50].
عند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ) [الزخرف:77].
إنه الرفض لكل ما يطلبون، لا خروج من النار ،ولا تخفيف من عذابها ، ولا إهلاك ، بل هو العذاب الأبدي السرمدي الدائم، ويقال لهم آن ذاك : ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ) [الطور:16].
هناك يشتد نحيبهم ،وتفيض دموعهم، ويطول بكاؤهم ( فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ) [ التوبة:82]، إنهم يبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون دماً ، وتؤثر دموعهم في وجوههم كما يؤثر السيل في الصخر، ففي مستدرك الحاكم عن عبد الله بن قيس أن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: " إن أهل النار ليبكون ، حتى لو أجريت السفن في دموعهم، لجرت وإنهم ليبكون الدم – يعني – مكان الدمع ".
وعن أنس بن مالك مرفوعاً بلفظ : " يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم كهيئة الأخدود ، لو أرسلت فيه السفن لجرت ".
لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان، واستمع إلى عويلهم وهم يرددون حال العذاب ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول *وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا* ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ) [ الأحزاب:66-68].
وتأمل قوله تعالى يصف حالهم ، ونعوذ بالله من حالهم ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق* خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) [ هود:106]، قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين وهو المرتفع جداً . وقيل : الزفير : ترديد النفس في الصدر من شدة الخوف حتى تنتفخ منه الأضلاع ، والشهيق النفس الطويل الممتد ، أو رد النفس إلى الصدر ، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه.
وقال الليث : الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه ، والشهيق أن يخرج ذلك النفس .