يشهد العالم اليوم حرباً عالمية ثالثة ساحة معاركها من هونغ كونغ الى بوليفيا.. لكن القوى الكبرى تدير معاركها بواسطة الوكلاء المحليين.. وآخر اوراقها سياسة (اقصى العقوبات) والثورات الملونة
د. عبد الحي زلوم
كما يقول المؤرخون والجيوسياسيون بأن انهيار الإمبراطوريات يصاحبه حروب وفوضى بل وبربرية فإننا نعيش اليوم أزمة نظام عالمي تديره عن طريق الوكلاء امبراطورية الولايات المتحدة المأزومة والتي بدورها هي الذراع التنفيذي للمجمع المالي والامني والعسكري. وقد وصل هذا النظام الامبراطوري الامريكي الى طريق مسدود لكنه كالثور المذبوح يَنثر الدم من حوله بعد ذبحه ولفظ آخر انفاسه . الحروب والفوضى والاضطرابات واقصى العقوبات تنتشر في كل مكان بدءاً من هونغ كونغ وافغانستان وباكستان وايران والعراق وسوريا ولبنان بل وتركيا والجزيرة العربية كما تنتشر في اكثر دول شمال افريقيا العربي التي يعتريها حروبٌ أو اضطرابات أو ثورات ملونة . دول امريكا اللاتينية الجنوبية هي ايضاً في قلب هذه الحرب بدءاً من فنزويلا والبرازيل والارجنتين وليس انتهاءاً بكولومبيا وبوليفيا . حتى اوروبا تعاني من عقوبات حمائية اقتصادية من (حليفها) الاكبر الولايات المتحدة ويعتريها تغييرات جوهرية بتعاظم قوة اليمين والأزمات الاقتصادية . انظروا الى ازمات السترات الصفراء التي حولت شارع الشانزليزيه كأنه ساحة حرب في أواسط أفريقيا أو انظروا آلى بريطانيا التي تقاسي من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية تعتقد ان حلها هو الخروج من الاتحاد الاوروبي .
مشكلة دول الاستعمار القديم والجديد انها نمت وعاشت على العبودية والاستعمار ونهب الثورات وارهاق الدول النامية بالديون . عبر عن ذلك بوضوح قول البروفيسور رونالد ديفيس Ronald Davis من جامعة ولاية كاليفورنيا في نورث ريدج “لا نبالغ حين نقول إن الأرباح التي نتجت عن نظام وتجارة الرقيق من 1600 وحتى 1860 قد ساهمت إلى حد كبير في بروز الغرب في غرب أوروبا والولايات المتحدة كالقوى المهيمنة على العالم”.
حسب معايير صندوق النقد الدولي لتصنيف متانة الدول الاقتصادية بمعيار(المديونية/ الناتج الاجمالي المحلي) يجب تصنيف الولايات المتحدة كدولة فاشلة يجب أن تخضع الى اقصى برامج التقشف التي يُجبر صندوق النقد الدولي الدول المستضعفة على تنفيذها. وحسب ذلك المعيار فالاقتصاد الأردني مثلا افضل تصنيفا من الاقتصاد الأمريكي!!! فالاقتصاد الأمريكي يعيش على فرض الدولار كعملة الاحتياط العالمية وعلى اكذوبة مطابع الدولار التي تُحول الاوراق بكلفة طباعتها الى عملة ذات قيمة مادية يتم استبدالها بسلع حقيقية، فمثلا يتم استبدال النفط او القمح بهذه الأوراق يتم استبدال هذه الأوراق باوراق أخرى اسمها سندات الخزانة لسداد مديونية الولايات المتحدة. هذه هي أكبر وأحقر وأخطر عملية احتيال وسرقة في التاريخ! وهذا هو النظام الرأسمالي في عصر العولمة الذي يسعى التجمع المالي والأمني والعسكري على فرضه عن طريق العولمة بواسطة ذراع الولايات المتحدة العسكرية والأمنية. لكن هذا النظام الرأسمالي يعيش آخر أيامه فهل هذه مبالغة أو أمنيات ؟
كتب البروفيسور ليستر سي ثورو عميد كلية الاقتصاد آنذاك في أحدى أعرق الجامعات الامريكية (MIT) في كتابه مستقبل الرأسمالية الصادر سنة 1997 “إن الأنظمة المنافسة للنظام الرأسمالي من فاشية واشتراكية وشيوعية قد انهارت جميعها . ولكن ، بالرغم من أن المنافسين قد أصبحوا طي الكتمان في كتب التاريخ فإن شيئاً ما يبدو وكأنه يهز أركان النظام الرأسمالي نفسه “
هناك اليوم محوران تتمتعُ دولهما المركزية بالردع النووي مما يضطرهما لادارة الحروب عن طريق الوكلاء الذين يستمدون شرعيتهم من خارج اوطانهم . هؤلاء الوكلاء يخوضون الحروب حتى على شعوبهم للدفاع عن من اعطوهم الشرعية، و حروبهم بالوكالة هذه هي حروب وجود .
***
أزمة النظام العالمي:
خلال هذا الشهر نقلت وكالة الصحافة الفرنسية أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن أن النظام السياسي العالمي يعاني “أزمة غير مسبوقة”. وجاء تحذير ماكرون بعد أيام على صدور مقابلة أجرتها معه مجلة “ذي إيكونوميست” رأى فيها أن الحلف الأطلسي في حالة “موت دماغي” وأن “أوروبا أمام خطر كبير بأن تختفي عن الخارطة الجيوسياسية مستقبلا أو أقله ألا نعود أسياد مصيرنا”. وشدد على ضرورة إيجاد “سبل تعاون جديدة و تحالفات جديدة بين الدول والمنظمات”، مشيرا إلى أن الأمم المتحدة نفسها باتت “مشلولة”.ورأى أن الأنظمة السياسية والمالية العالمية التي عملت بشكل جيد بعد الحرب العالمية الثانية هي اليوم في أزمة.
بعد أزمة 2008 المالية العالمية التي نتجت عن ممارسات شارع المال الامريكي وول ستريت كتبت سنة 2009 كتابا بعنوان “أزمة نظام : الراسمالية والعولمة في مأزق”ومحتوى الكتاب يُقرأ من عنوانه. كان ذلك قبل 11 سنة مما قاله ماكرون بحرفيته ، وتوصلت في ذلك الكتاب أن المشكلة هي هيكيلية في نفس النظام الرأسمالي وتوصلت الى نتيجة ان نهاية هذا النظام قد اصبحت وشيكة وستكون بسكتة قلبية اقتصادية .
في برنامج حواري على قناة الجزيرة بتاريخ 29/10/2008 بعنوان “الأبعاد السياسية والإستراتيجية للأزمة المالية” كنت انا احد ثلاثة استضافهم البرنامج كما كان الدكتور حازم الببلاوي (والذي اصبح بعد ذلك أول رئيس وزراء لمصر في عهد السيسي ) من بين الضيوف الثلاثة. كان موقفي أن أزمة 2008 هي ازمة النظام الرأسمالي وأن النظام قد وصل الى نهاية صلاحيته وأنه يلعب في الوقت الضائع بينما كان راي الدكتور الببلاوي أن هذه هي ازمة عابرة كما سبقها من ازمات سيتم معالجتها كما تم معالجة الازمات الماضية . والمقابلة كانت لساعتين يمكن مشاهدتها على الرابط
http://studies.aljazeera.net/ar/events/2008/201172212231796302.html***
اين نحن من كل هذا ؟
مؤسس العلوم الجيوسياسية والاستراتيجية هالفورد ماكندر وكان (زبغنيو بريجينسكي من تلاميذ مدرسته) ان الإمبراطورية العظمى في أي عصر لا تقوى ان تكون كذلك دون الهيمنة على أوراسيا والذي يمثل وطننا العربي احدى مكوناتها الرئيسية. لذلك فساحتنا العربية هي من اهم ان لم تكن اهم ساحات الصراع في هذه الحرب الكونية ليس فقط لاهميتها الجيوسياسية بل ايضاً لاهميتها كأحد أكبر مصادر الطاقة في العالم.
ما نعيشه اليوم من حراكات (ثورات ملونة) هي حروب بالوكالة ما بين محورين ، محور النظام العربي الوظيفي واسرائيل وكيلاً عن الولايات المتحدة وهو المحور المأزوم ، ومحور الدول والحركات التحررية وتمثلها المقاومة والتي تحاول الانعتاق من ذلك النظام الظالم والمتهاوي متحالفة مع المحور الصاعد وهو محور الصين وروسيا والذي يعاني هو ايضا من مظالم ذلك المحور الذي يقوم اليوم باستعمال آخر اوراق الضغط الاقتصادي والمالي مباشرة وعبر وكلائه المحليين من دول واحزاب تدافع عن وجودها . وهي حرب وجود فلذلك فهي حرب طحن عظام بين قاتل و مقتول وليس هناك حل وسط في هذا المجال. السلاح الاقوى في ايدي المحور المأزوم هو السلاح الاقتصادي حيث سيحاول ايصال دول المحور الاخر الى دول فاشلة عن طريق الفشل المالي والاقتصادي . وعندها ستتحول الحراكات الى ثورات عارمة للخروج من بؤسها ولن يكون امامها شيئا تخسره سوى بؤسها ولن يكون ذلك سوى عن طريق تغيير نهجها السياسي والاقتصادي الذي كان عماده الفساد والتبعية. وعندها سينقلب السحر على الساحر . لكن الثمن سيكون باهظا.
كنت قد أبديت في مقال سابق تخوفي من اختطاف الحراكات الوطنية في لبنان والعراق ذات المطالب المحقة العادلة والمشروعة لحرفها عن اهدافها المشروعة لتصبح مطية لمطالب غير مشروعة لتحويل كلمة الحق ليراد بها باطل – وهذا ما يحصل هذه الايام. يريدون إصلاحات تحتاج الى تشريعات من مجلس الامة وتحتاج لحكومة لتنفيذها. في لبنان مثلاً تم تقديم تنازلات اصلاحية تحت ضغط الحراك. كان الاولى المطالبة بتنفيذها وتأليف قيادة وطنية من الحراك لمتابعة تنفيذها. اليوم يقود الحراك نفس ملوك الطوائف الفاسدين وأحزابهم وهم نفس الفاسدين الذي يطالب الحراك باسقاطهم.
كذلك فمن المفارقات أن جماهير الحراك العراقي لها نفس المطالب المشروعة والمحقة ولكنها نسيت ان الفاسدين قد جاؤوا على ظهور دبابات الاحتلال الامريكي وان الدستور الطائفي كان من تأليف الاحتلال وأعوانه وان جنود الاحتلال ما زالوا يقبعون في اراضي وقواعد العراق وطائراته في سماءه. هل من المصادفة أن الحراك لا يذكر هذا او لا يتذكره؟
من الصعب او غير الممكن ان يتم محاربة الفساد من نفس النظام الذي انتجه وضمن نفس النهج السياسي والاقتصادي والفرضيات والتي هي الحاضنة للفساد. كذلك من الصعب أو من غير الممكن محاولة معالجة ازمات قطرية ذات حدود افتراضية بعيداً عن التأثيرات الدولية والاقليمية في عصر العولمة وفي مثل هذه المحاولات ستكون محاولات عبثية .
الايام القادمة ستكون مليئة بالمفاجئات و العواقب غير المحسوبة والتي كثيرا ما غيرت وجه التاريخ.
مستشار ومؤلف وباحث
تعليق
1. ارى ان موقع وطننا العربي اليوم لم تعد له الاهمية الاستراتيجية التي نؤمن بها. أوراسيا لا تزال في صدارة المناطق الحاكمة، والشرق الاوسط على هوامش هذه المنطقة. إضافة لقدرات القوة الجوية، حاملات الطائرات، والغواصات والصواريخ الموجهة بعيدة المدى دفعت اقليمنا للتراجع في أهميته الاستراتيجية، امام شرق وجنوب شرق أوراسيا. ربما لن نختلف على غزارة الإنتاج العالمي من الطاقة وصدارة أمريكا وروسيا في هذا المجال، ومشاريع الصين الطموحة في مجال الطاقة في سيبيريا ودول آسيا الوسطى بكلف فلكية، والاكتشافات شبه اليومية لحقول نفط وغاز في مناطق مختلفة في العالم مثل شرق المتوسط خليج البنغال وبحر الصين الجنوبي وهي كافة نزعت أهمية الخليج من أيدي العرب ولم نعد قادرين على وقف الإنتاج بل مضاعفته.
2. ازمة الامة انها في سبات عميق إلا من رحم ربي، مفككه مشوشة، تسودها بيئة الريبة البينية، وكراهية غير مسببة، انظمة حكم على مقاس ضعف المواطن الذي استمرأ دور شاهد ما شافش حاجة إلا من قلة مؤمنة مرابطة . ولكن ضوء آخر النفق بدء يعيد شيء من الثقة والأمل في مستقبل أفضل. الربيع العربي في امواجه المتعاقبة ولو انه بدون بوصلة وتحت رصد وتدخل خبيث من أعداء الداخل والخارج إلا أنه يبشر بخير بعد يأس وطول انتظار. التشكيك في الاحتجاجات وبعضها فوضوي، مثل من يضع العصي في الدواليب ويضع نفسه في رهط الشد العكسي يعمل بقصد او بدونه في صف الاعداء.
3. يؤسفني ان اقول عن قناعة تناهض عواطفي وامنياتي أن القوة الأمريكية الهائلة ، لا تزال فتية ولا مؤشرات على وصولها للذروة بعد ، لنأمل في تراجع دورها وقوتها. روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي اليوم مثل الصين وربما الهند ليس أكثر قوى إقليمية كبرى، بعيد أي منها منفردا من أن يكون ندا للكاوبوي المتوحش. هذه الحال غير مرجحة للتغير ما لم تحدث معجزة حتى لو تحالفت روسيا مع الصين في مواجهة أمريكا وحلفائها وهو أمر مستبعد لخطورته البالغة على هذه الدول اولا وعلى الأمن الدولي . إصلاح أوضاعنا الداخلية بالمزيد من الحرية، الشفافية العدالة تداول السلطة الاستثمار بالإنسان، والحياد الإيجابي، ومقاطعة الكيان الصهيوني وتطويقة وغيرها كثير قد تصلح احوالنا وتعيد لنا كرامتنا المهدورة.