عبد الحافظ الصاوي
بعد الأزمة المالية العالمية ذهب كثير من المحللين إلى مجموعة من الاستنتاجات كان من أبرزها أن الضعف الذي اعترى اقتصادات أميركا وأوروبا من شأنه أن يؤدي إلى تغير خريطة القوى الاقتصادية الدولية، وأن ثمة بزوغا لنجم الدول الصاعدة سوف يؤدي بها إلى موقع متقدم على خريطة القوى الاقتصادية العالمية.
وتعالت الصيحات بضرورة تغيير سياسات المؤسسات المالية الدولية، وإعادة تشكيل مجالس إداراتها بحيث يكون للدول الصاعدة والنامية تمثيل يؤدي إلى علاقة متوازنة مع الدول المتقدمة. ولم يتوقف سقف المطالب عند هذا الحد، بل ذهبت بعض الأصوات لتنادي بضرورة إزاحة الدولار كعملة وحيدة للتسويات التجارية والاقتصادية الدولية، وهو ما قابلته أميركا بعنف وصل لتهديد الصين إذا ما طالبت بهذا الأمر مرة أخرى.
هذه الأماني دعمتها بعض المؤشرات الاقتصادية، مثل ارتفاع نصيب الدول الصاعدة والنامية في الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 60% مقابل 40% للدول المتقدمة، وشهود الاستثمارات الأجنبية المباشرة لأول مرة في تاريخها تحولات بمعدلات كبيرة من دول الجنوب لبعضها بعضًا. ووصول حجم التبادل التجاري للصين مع العالم إلى 3.87 تريليونات دولار، متجاوزا لأول مرة حجم التبادل التجاري لأميركا مع العالم والبالغ 3.82 تريليونات.
لكن الأوضاع الاقتصادية على المسرح العالمي حاليًا عكست صورة ذهبت بتلك الآمال الخاصة بتغير خريطة القوى الاقتصادية العالمية أدراج الرياح، فأوروبا وأميركا برهنتا على أن نظرية المركز والمحاور ما زالت تحكم طبيعة العلاقات الاقتصادية في هذا العالم من الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. وثبت أن علاقتهما الاقتصادية يمكنهما التحكم بمسار مصالح العديد من الدول الصاعدة والنامية بشكل كبير.
"أوروبا وأميركا برهنتا على أن نظرية المركز والمحاور ما زالت تحكم طبيعة العلاقات الاقتصادية بهذا العالم من الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. وثبت أن علاقتهما الاقتصادية يمكنهما التحكم بمسار مصالح العديد من الدول الصاعدة والنامية بشكل كبير"
الأزمة الروسية
فالصين مثلا، التي تعد من أقوى الاقتصادات في العالم من حيث قيمة الناتج المحلي أو حجم التجارة مع العالم، تشكل أميركا وأوروبا نحو 1.1 تريليون دولار من إجمالي تجارتها مع العالم البالغة 3.8 تريليونات دولار، أي أن أميركا وأوروبا تمثلان 30% تقريبًا من حجم تجارة الصين الدولية. وتحقق الصين فائضًا تجاريًا في علاقتها مع أميركا وأوروبا.
أما الأزمة الروسية وما تبعها من انهيار في أسعار النفط، فتدلل على مدى إمساك أوروبا وأميركا بقواعد اللعبة الاقتصادية، فهذا الحزم حول رقبة الاقتصاد الروسي عبر هبوط قيمة أسعار النفط، وانسحاب الاستثمارات الأوروبية من روسيا، وتدمير سوق المال والعملة الروسية (الروبل) يبرهن على أن الاقتصاد العالمي تديره أميركا والغرب.
إن المكاسب التي تحققت لأوروبا وأميركا من انخفاض أسعار النفط، سوف تعوضهما عن الكثير من الخسائر الناجمة من الأزمات المالية، وبخاصة أنهما تستهدفان إطالة أمد الأزمة حتى يضيق الخناق على روسيا، وتخضع لمتطلبات الملف السياسي لأميركا وأوروبا فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية وغيرها من ملفات تخص منطقة القوقاز أو الشرق الأوسط.
إن تفريغ ثروة الدول النامية والصاعدة يتم على قدم وساق من خلال آليات متعددة، مرة بخفض قيمة سعر الفائدة ليصل إلى الصفر، فتنعم دول أوروبا وأميركا باستخدام مدخرات غيرها بأسعار فائدة متدنية، بما يحميها من ارتفاع معدلات التضخم، وبما يخرجها من معضلة التمويل، أو اللجوء للسوق التجارية الدولية.
مظاهر سيطرة الكبار
ومرة أخرى عبر آلية خفض قيمة العملة، فبين انخفاض قيمة الدولار مطلع الألفية الثالثة، والتي استمرت إلى منتصف عام 2014، وبين انخفاض قيمة اليورو حاليًا، تفقد ثروات ومدخرات الدول النامية والصاعدة جزءًا كبيرًا من قيمتها، لمجرد تطبيق أوروبا وأميركا سياسات نقدية تصب في صالحهما، ولا تعبآن بما يرتبط بهما من عملات متمثلة في احتياطيات الدول من تلك العملات.
"لقد نجحت أوروبا وأميركا في خلق المصالح الاقتصادية وربطها بأجندتهما، وفشلت الدول النامية في إيجاد هذا الرابط فيما بينها لمواجهة مخطط أوروبا وأميركا"
ومرة ثالثة عبر شروط الحماية غير الجمركية في التجارة الدولية، فهما تمسكان بزمام حركة التجارة الدولية بما يسمح لمنتجاتهما باختراق الأسواق الدولية، إذ توضع العديد من العراقيل والعوائق في وجه صادرات الدول النامية أو الصاعدة من أجل حماية الصناعات المحلية في أوروبا وأميركا، سواء بشروط تتعلق بالبيئة أو الصحة والسلامة، أو عمالة الأطفال، وغيرها من العوائق غير الجمركية، التي لا يمكن أن تمثل دليل إدانة عليهما في منظمة التجارة الدولية.
فمنذ سنوات، ومطلب الدول النامية والصاعدة وجود تجارة دولية عادلة تعمل على تحقيق مصالح تلك الدول بأسعار تعكس قيمة ثرواتها، ولكن أميركا وأوروبا تصران على وجود تجارة حرة، وهو ما يشهده الواقع بالفعل، فالتجارة الحرة بطبيعتها لا تحقق مصالح الدول النامية والصاعدة لغياب المنافسة العادلة، ولإخلال أميركا وأوروبا بشرط رئيس عند اعتماد اتفاقية التجارة العالمية عام 1994، وهو ما يتعلق بنقل التكنولوجيا للدول النامية والصاعدة.
لقد نجحت أوروبا وأميركا في خلق المصالح الاقتصادية وربطها بأجندتهما، وفشلت الدول النامية في إيجاد هذا الرابط فيما بينها لمواجهة مخطط أوروبا وأميركا، فالدول النامية حريصة على علاقتها بهما أكثر من توطيد علاقتها ومصالحها الاقتصادية ببعضها البعض، مهما تعددت الروابط المعلن عنها، بدءًا من مجموعة الـ77 في الستينيات وحتى تجمع بيركس مطلع الألفية الثالثة.
فقد يجمَع الدول النامية والصاعدة موقف على الصعيد العالمي، ولكن تفرقها المصالح الاقتصادية الأحادية عندما تدعو الحاجة للارتباط بأميركا وأوروبا، وخير دليل على ذلك موقف البرازيل من إنتاج الوقود الحيوي على الرغم مما يسببه ذلك من أضرار بغذاء الدول الفقيرة والنامية، والبرازيل ثاني أكبر منتج للوقود الحيوي في العالم بعد أميركا.
"قد يجمَع الدول النامية والصاعدة موقف على الصعيد العالمي، ولكن تفرقها المصالح الاقتصادية الأحادية عندما تدعو الحاجة للارتباط بأميركا وأوروبا، وخير دليل على ذلك موقف البرازيل من إنتاج الوقود الحيوي رغم ما يسببه ذلك من أضرار بغذاء الدول الفقيرة والنامية، والبرازيل ثاني أكبر منتج للوقود الحيوي بعد أميركا"
أو موقف الهند المساند لأميركا في إنتاج الغذاء المنتج وفق تكنولوجيا الهندسة الوراثية، وهكذا، تتفرق الدول النامية وفق مصالحها، ولا تجمعها مصالح مشتركة فيما بينها، كما تربطها المصالح الاقتصادية بأميركا والغرب.
استشراف المستقبل
تدلل الأحداث الجارية على استمرار أوروبا وأميركا في طليعة القوى الاقتصادية العالمية، بعكس الاستنتاجات التي قيلت عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، والتي ذهبت لتراجع مكانتيهما على الرغم من بقائهما قوتين على الخريطة الاقتصادية الدولية.
أثبتت أزمة أسعار النفط أن أوروبا والغرب تشكلان قرار منظمة "أوبك" بشأن الاستمرار في عدم خفض الإنتاج على الرغم من موجة انخفاض الأسعار، وبذلك تستخدم "أوبك" ورقة ضغط على روسيا بما يحقق أمرين، الأول فقدان روسيا لأكبر مصادرها لتدفق النقد الأجنبي، والثاني إفقادها لاستخدام النفط كورقة ضغط على أوروبا.
إن أبجديات علم الاقتصاد أنه إذا قل العرض زاد الثمن، وهو ما تحتاجه "أوبك" الآن، فهي متضررة بشكل كبير من انخفاض أسعار النفط بنسبة تصل إلى 40% خلال الشهور الستة الماضية، ومع ذلك فهي مستمرة في نفس مستوى الإنتاج، ليجني الغرب ثمارًا إيجابية باستهلاك النفط الرخيص، وليعيد بناء مخزوناته الاستراتيجية لسنوات مقبلة.
فالمسرح الاقتصادي العالمي يدار بإتقان: توزيع للثروة هنا، وإمساك لها في أماكن أخرى، وتحريك للتجارة هنا، وكساد لها في أماكن أخرى، وهبوط للبورصات في أوقات معينة وصعودها في أوقات أخرى. ولا مانع من دفع ثمن بعض المواقف من قبل أوروبا وأميركا، ولكن في النهاية: المحصلة تصب وفق ما يراد لمصلحة الكبار.
ليس ذلك من قبيل التشاؤم، ولكنه من قبيل قراءة للواقع، فكاتب هذه السطور من دولة نامية، ولَكَم تمنى أن تسود العدالة في مقدرات الاقتصاد العالمي، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فالدول النامية والصاعدة لا تسعى لتكوين لوبي يعبر عن مصالحها، ولا تحرص على العدل في توزيع مقدراتها الاقتصادية داخليًا، فتخضع لمعادلة الكبار الظالمة وسيطرتهم على خريطة القوى الاقتصادية الدولية.