ما لم يعرفه العموم بين ظلم الساسة وتحليلات الخائبين عملت مديراً للإدارة والمالية في مكتب الدكتور أحمد الجلبي 2000 الى نهاية 2002. أنشأنا مكتب المؤتمر الوطني العراقي بطهران العاصمة الايرانية في وقت صعق فيه قادة الاحزاب العراقية المعارضة وتشكيلاتهم الاسلامية من موافقة ايران بفتح المكتب في ابهى بقاع طهران. إنه الجلبي (العميل الامريكي البريطاني الداهية الاقتصادي السياسي المخضرم).! هكذا يصفونه.
مات الجلبي بالسكتة، جلطة، بالسم غيلة او وفاة طبيعية على كرسيه والهاتف بيده.! لا يهم فالنتيجة ان الجلبي المعروف رحل عن المسرح السياسي فتقاذفته الظنون والتقولات. وكعادة ساسة العراق في النزو الى الافادة من هكذا ميتة وتجييرها لاحزابهم وتكتلاتهم سواء مصلحتهم النفعية او في الكيد بخصومهم ومناوئيهم الساسة. وهو ما تمظهر به شريك لدود بالحزن الشديد اثناء التشييع الى جانب خصم حميم تهور في الضحك الى ثالث متلون يدعي علاقة عريقة بالجلبي ورابع حرامي إتخذ التأثر على فقد الجلبي ورقة ضغط لإخفاء فضيحة. وايضا النتيجة واحدة انهم كلهم في ورطة أكيدة. فالبلاد لازالت تمور في الضياع بسببهم أجمع.
الجلبي قاهر البعثيين ومبير الصداميين (اجتثاث البعث)، كثر اللغط والهراء في امواله وحياته وفي موته وبعد دفنه. إما المدفن فنقول ان اظلم الطواغيت قد دفن عند مقامات اهل البيت عليهم السلام فذاك مثلا هارون العباسي الخليفة الظالم مدفون عند قدمي الامام الرضا عليه السلام في مشهد، فاي فائدة سيجنيها هارون وجهنم في انتظاره؟ وذاك محمد بن ابي بكر رضوان الله عليه التقي الذي احبه وبكاه امير المؤمنين علي عليه السلام دفنه معاوية في جوف حمار واضرم النار فيه. فاي ضرر مسّ محمد بن ابي بكر والجنة مثواه؟
المكان ليس بمهم. المهم ان قبر الجلبي حق له من أبيه عبد الهادي الملاك الثري المعروف. فمدينة الحرية باكملها مع منطقة البستان والسيف والسلام الى محاذاة الوشاش وقطاع عظيم من البساتين المحيطة بالضريح المقدس للامام الكاظم عليه السلام كانت ملكا صرفا للجلبي الجد والاب. وكان اباؤنا وكبار شيبة الكاظمية يسمون مدينة الحرية بمدينة الهادي نسبة الى ابيه عبد الهادي الجلبي.
الاهم من هذا ان الجلبي لم يستحوذ على أرض وقصر او ممتلك دولة وشعب. بل اكتفى بملكه الصرف عند ساحة عدن في الكاظمية. كان بامكان الجلبي الاستحواذ إلا انه لم يفعل قط. في وقت أستحي من سرد شناعات قام بها غيره من الساسة ودعاة الدين والمذهب في الاستيلاء والحرمنة التي يعرفها كل البغداديين بل وحتى الذين لفوا على بغداد من القرى والفيافي والمدن النائية بعد ان كانوا لا يرون بغداد حتى في المنام وفي التخيل.
الجلبي مهندس عملية سقوط نظام صدام التكريتي. وهو العقل المدبر لإقناع مراكز القرار الامريكية (خديعة) بالاندفاع لخلاص العراق. ولولاه لبقي العراق تحت امبراطورية صدام وعائلته حتى الساعة وربما الى ساعة غير منظورة. نعم خدع الجلبي الامريكان في أسلحة الدمار الشامل المحظورة، وأحدث الجدل الشديد بين البنتاغون (الدفاع) والخارجية ومن ثمّ دخول السي آي أي. واليكم القصة كما عايشتها شخصياً:
عام 2001 طهران/ مكتب الدكتور الجلبي (المؤتمر الوطني العراقي) المدعوم ماليا ولوجستيا من أمريكا. جلب الشخص الاول المعتمد عند الجلبي واعني به (آراس حبيب كريم) أجهزة كشف واتصال متطورة جدا من امريكا واودعها عندي في خزانة غرفتي الخاصة ذات الأزرار السرية بمكتب طهران. كل جهاز تضمه حقيبة تشبه حقيبة تلميذ المدرسة الابتدائية. الجهاز له قدرة فائقة في التقاط الصور من بعد السماء والاستلام والارسال الفوري، وهو مؤمن من قبل ارصدة امريكية بحيث لا يمكن استمكان موقعه واحداثياته المستلمة والمرسلة عبر الاقمار الاصطناعية، وله قابلية النفوذ التصويري الى عمق لا يصدق. يمكنه تأيين الاجواء حوله. وهو ما اذهل المخابرات الايرانية انهم يعلمون بالجملة وجود اسرار ههنا لكن ماهي وكيف وعلام؟ هذا ما جعلهم يراقبون ويتابعون المكتب وافراده ليل نهار. وباعتقادي لو كانوا يعلمون بنية الجلبي واجهزته لمحو مكتبه ومن فيه في الذاريات.
كانت 14 حقيبة صغيرة باجهزتها و14 حقيبة اكبر باجهزتها تُحمل على الظهر تشبه اجهزة الراكال المتطورة، وزعت الاجهزة من قبلي مع مبالغ كبيرة جدا بالدولار الامريكي سلمتها بايعاز من آراس وبأمر من الدكتور الجلبي على شخصيات عراقية معينة (عربية وكوردية) بعد تدريب داخل مقر المكتب اشرف عليه شخصيا اراس حبيب الداهية. وبعد دورة التدريب بشهر تقريبا جاءت النتائج تذهلني فيها عقلية اراس حبيب وبترتيب مع تفكير الجلبي على شفافات عسكرية (خرائط) الكترونية تعنى بمواد محرمة دوليا ذات تقنية عالية جدا كلها محددة في بغداد في منطقة تسمى المدائن (سلمان باك). شفافات استنفر لها الجلبي كل عبقريته الرياضية في مجسات غاية في الدقة وارقام مذهلة ارعبت القرار الامريكي الذي منح الرئيس بوش صلاحية الاستعجال بالقضاء على صدام ونظامه.
عملية اخذت من الجلبي اشهر صفق لها الرئيس الامريكي بوش وهللت لها البنتاكون لكن الخارجية التزمت الصمت واما المخابرات فقد لجأت الى اياد علاوي الذي أبق متمرداً على الجلبي لاسباب ربما نطرق بابها.
نجح الجلبي بإقناع امريكا ومن في ركبها من مراكز قوى دولية في ضرورة استئصال صدام ونظامه. تماما كما نجح في اسئصال شأفة المخابرات العراقية خارج العراق بتصفية بعض رموزها الكبيرة كالسفير ويس التكريتي الاخطبوط المخابراتي المتهور والمفضل لدى صدام بعملية هندسها احمد الجلبي بصيغ اقنعت المخابرات العالمية بضرورة تصفية ويس المساعد الخطير لايمن الظواهري.
خديعة اسلحة الدمار الشامل وارتقاء الجلبي كرقم سحر انظار العالم كان يمكنه الاستحواذ والتفرد بالملف العراقي برمته دون منازع الا ان الجلبي رغب بمشاركة كل اطراف المعارضة العراقية وخاصة القادة الكبار المعروفين. ارادها قضية عراقية وطنية لذلك تحرك منفتحا على الجميع مع علمه بازدراء وامتعاض الكثير منهم واستيائهم من اسمه وسمعته وشهرته.
بكلمة اخرى كانوا يخشون اسمه لقوته، فلجأ العديد منهم الى لعبة التقزيم والتهميش واطلاق المواصفات للتقليل من شأنه (علماني خمار غير متدين حرامي عميل ....). لقد رأيته أكثر تحرقا على العراق وعلى المذهب وكانت لي معه لقاءات مباشرة بخصوص الدين والمذهب ودفاعه المستميت عن المذهب وايعازه باحياء مناسبات اهل البيت في مكتبه بطهران ومبادراته التي خلا منها غيره من الاسلاميين وغيرهم بخصوص دعمه لذوي ضحايا سفينة اللجوء التي غرقت عند سواحل استراليا عام 2001 وتوزيع المبالغ بيدي انا على اسرهم لاقامة مجالس الفاتحة وغير ذلك كثير.
لم ار الجلبي يصلي امام عيني، كما لم أسمع انه يتعاطى الخمرة او يميل الى الملاهي. نعم كان يميل الى رياضة الفروسية فالرجل يهوى ركوب الخيل اذ لا يمر عليه اسبوع حينما يكون في ايران إلا ويذهب الى نادي الخيل بطهران لممارسة هوايته المفضلة. والرجل يمارس بشكل يومي ودؤوب رياضته الصباحية سيراً لمسافة بعيدة.
طلب مني يوما عام 2001 ان اتصل بمكاتب السيد محمد باقر الحكيم والسيد محمد تقي المدرسي والاستاذ ابي ياسين البصري وشخصيات في الدعوة. كان الجميع يرفض اللقاء.
الجلبي يصر ويجدد محاولاته حتى اذا حان وقت الحصاد وتحرك القطار (كما كان يسميه)، اتصلت شخصيا بمكتب السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق والقائد العام لقوات بدر انذاك – باعتبار علاقتي الشديدة مع سماحة السيد رحمه الله تعالى- كان الحكيم من اشد المعاندين والرافضين لامريكا ومن يحوم في فلكها وقد رفض الكثير من العروض، لكني نجحت في ايصال معلومة عن تحرك القطار وقيادة الجلبي فوافق على لقاء الدكتور الجلبي بمكتبه بطهران وكنت انا مرافقا للدكتور الجلبي. بعد حديث وترحاب ابداه الحكيم، افلح الجلبي بانتزاع قناعة السيد خاصة بعد عبارة اطلقها الجلبي مؤداها: ان القطار تحرك، لابد من ركوبه فلو عبر محطة واحدة فلن نتمكن من دخول العراق عبر حدوده.
ومنذ ذلك اللقاء اهتم السيد محمد باقر الحكيم بالتوجه الدولي لاسقاط صدام واوفد ممثله (السيد عبد العزيز الحكيم) الى مؤتمر لندن ثم صلاح الدين الى اخر القصة.
اما السيد محمد تقي المدرسي عن منظمة العمل الاسلامي فبعد ان حدد موعد اللقاء بحسب مكتبه وكان الاستاذ جواد العطار مسؤول الجناح العسكري للمنطمة وقتئذ على علم وحضور، إتصل بنا مدير مكتب المدرسي يعتذر عن السيد المدرسي الذي غادر لضرورة الى مدينة قم. وحينما وافقنا ان نتبعه الى قم، اخبرونا بان السيد سيغادر منها الى اصفهان. فعرفنا انه الهروب من اللقاء.
وتم اللقاء مع المفكر الشهيد عز الدين سليم (ابي ياسين) عن حزب الدعوة الاسلامية بنجاح ومباركة وهكذا مع شخصيات قيادية اخرى.
اما البقية الباقية فرفضوا الجلبي حين الانطلاق خشية على سمعتهم.! لكنهم تمالؤه محاباة وتشفعوا اليه حين تحقق سقوط نظام صدام، وقد همّشوه حين تسلقوا كراسي الحكم.. ثم بكوه بدموع التماسيح حين موته.
كامل مصطفى الكاظمي/ ملبورن