في رحاب عمر بن عبدالعزيز
إخوة الإيمان:
ما أروعَ الحديثَ حينما يكونُ عن الإصلاح! وما أجملَ الكلماتِ حينما تدور حولَ المُثُل والعدل! ولكن أروع من ذلك وأجمل أن نرى المُثُل والعدلَ رجالاً، والإصلاح فعالاً، أن نرى ذلك كله في شخصياتٍ عاشتْ ذلك واقعًا ملموسًا، وشاهدًا محسوسًا.
نقف - إخوة الإيمان - مع عَلَمٍ من أعلامِ الدنيا، وشامةٍ من شاماتِ الإسلام، مع عَلَمٍ أدهشَ التاريخ، وأذهلَ البَشَريَّة، إذا ذُكِر العدلُ تَلأْلأَتْ مَسَامتُه، وإذا ذُكِرَ الزُّهْد رَفْرَفَتْ رايتُه، وإذا ذكر الخوف تَأَلَّقَتْ نساكتُه، وإذا ذُكر الإصلاحُ والإصلاحيون كان هو أوَّلَهم، وحامل رايتهم؛ لقد كان بحقٍّ عَالَمًا في فرد، فأصبحَ بعد ذلك فردًا في العالَم، نحن اليوم في رحاب ابن عبدالعزيز الأغر، في رحاب ابن عبد العزيز عمر.
ذاك الرَّجُل الذي كان نَبَؤُه عَجَبًا، فماذا عسانا أن نأخذَ من سيرتِه؟ وماذا ندع؟
ذاك الرجل الذي كان دعاتُه يسيحيون في الأمصار: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كل هؤلاء.
ذاك الرجل الذي كان عُمَّالُه يطوفون مملكتَه؛ يحملون الزكاة فلا يجدون من يأخذها.
ذاك الرجل الذي عمَّ في عهده الأمنُ والأمان، فهدأت الثورات، وصلح المعاش، واختفتْ مظاهرُ الظُّلم، وغابت مَعالِمُ الفِسْق، وازدانت الأرض بعدْلِه وصلاحِه وإصلاحه.
إن سألتمْ عن سرِّ عظَمَةِ عمر، وندرةِ تَكرارِ شخصية عمر، فهو ذاك التَّحَوُّل العجيب في حياته؛ لقد كان ابن عبدالعزيز قبل الخلافة يعيشُ حياةَ البَذَخِ والتَّرَف، فكان يمتلك أعلى القُصُور، وتُضَمَّخ ثيابُه بأغلى العُطُور، وَيركَبُ أحسنَ المراكب، ويَلْبَسُ أبْهى الحُلل، حتى قال عن نفسه: ما لبسْتُ ثوبًا قط، فَرُئِي عليَّ، إلاَّ خُيِّلَ إليَّ أنه قد بَلِي.
هذا الرجلُ المُتْرَفُ الذي بلغَ في المظهريةِ غايتَها، تَحَوَّلَ منَ النقيضِ إلى النقيض، من الغِنى الفاحش إلى الزُّهْد المعضل.
لم تتغَيَّرْ حالُه بسبب موتِ قريب، ولا بفجيعةٍ لعزيز، ولا أنه قد كبر في السِّنِّ، أو اعتلَّه المرض، كلاَّ، لقد كانتْ نقطةُ التحوُّلِ في حياةِ عمر أن تولَّى الخلافة، فأصْبَحَتْ خزائنُ الدُّنيا بحذافيرها بين يديه في هذه اللَّحظة، التي تضعف فيها النُّفوس، كانت نقطة الاستقامة والتحوُّل في حياة عمر.
عندها غيَّر عمر مسار حياته؛ لأنه تَيَقَّن أنَّه قد تَحمَّلَ حِملاً عظيمًا كبيرًا، فَرفَضَ أطايبَ الحياةِ ومناعمها، ولاذَ بِتَقَشُّفٍ وشَظَفٍ، لا يَكاد يُطاق.
بدأ ابن عبدالعزيز خلافته بإصلاح مملكتِه، فبدأ بنفسِه، فنظَر إلى ثروتِه، فرأى أن ذلك ثراء حَصَّلَه من بيت مال المسلمين، فباعَ ما يملك، وردَّه في بيت المال، ثم غدا على زوجته فاطمة بنت عبدالملك، ابنة الخليفة، وزوجة الخليفة، وأخت الخليفة، والتي قال فيها الشاعر:
بِنْتُ الخَلِيفَةِ وَالخَلِيفَةُ جَدُّهَا أُخْتُ الخَلاَئِفِ وَالخَلِيفَةُ زَوْجُهَا
|
غدا إليها فخيَّرها بين ثَرَائِها وحُليِّها، وبين أن تَبْقَى معه، فاختارتْ زوجَها، وتَخَلَّت عن كلِّ حُليِّها وأموالِها إلى بيتِ المال، ثم كَتَبَ إلى بني عُمُومته من أمراءِ بني أُمية فوعَظَهُم، وذكَّرهم أن يردُّوا الأموال إلى خزائنِ الدولة، ثم قَطَعَ عنهم كلَّ صلاتٍ كانوا يأخذُونها، وهدايا كانوا يستلمونها، وأبلغهم برسالةٍ واضحةٍ أن الناس في سُلطانِه سواء، ثم التَفَتَ إلى الوزراء والقادة والعمَّال، فعزلَ مَن ليسوا أهلاً للمناصب، ثم تَخَيَّر من رعيتِه مَن يثقُ في دينِه وأمانتِه، ويعرفُ قوَّتَه وأهليَّته، فعينَهم تلكَ المناصب، وأرفقهم برسائل يذكِّرهُم فيها بِعِظَم ما تحمَّلوه، وأمانة ما كلفوا به.
وأثارتْ تَصرُّفات عمر وحِفْظه للمالِ العامِّ بعضَ أقاربه، ممَّن عاشوا على الأعطياتِ والمخَصَّصات، فأرسلوا من يُبَلِّغُه غضبَهم، وعدمَ رضاهم عنه؛ فكان جوابُ عمرَ للرسول: قل لهم: إن عمرَ يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].
أتاه عنبسةُ بن سعيد أحد بني عُمُومته، وكان سليمان بن عبدالملك قد أَمَر لَه بعشرينَ ألف دينار، فمات سليمان قبلَ أن يقبضَها، فأتى عنبسةُ يرجو من عمرَ أن يمضي عطاء سليمان، فلما جلس إليه، قال: يا أمير المؤمنين، إنَّ أقاربَك وبني عمك يشتكونك، قال: وما ذاك؟ قال: يذكرون أنَّك لا تُعطيهم كما يُعطيهم الخلفاء قبلك، قال: يا عنبسة، إن مالي لا يتَّسع لهم، فأَقسمه بينهم، قال: يا أمير المؤمنين، إنهم لا يسألونك من مالك، ولكنْ يسألونَك من بيتِ المال، قال: مِن بيتِ المال يسألونني؟! والله، ما هُم ورجلٌ في أقصى المغربِ في بيتِ المالِ إلا سواء. قال: يا أمير المؤمنين، إن سليمان قد أَمَر لي بعشرين ألفًا، وإنه مات قبلَ أن أَقْبِضَها، وأنت أحقُّ من أَمضى عطاءه، فانْتَفَضَ عمر، وقال: لا والله، لا أُعْطِيكها أبدًا، فقام عنبسة يائسًا منه. فلما وصل الباب ناداه عمر، قال عنسبة: فحدَّثتُ نفسي، وقلتُ: ذكر أمير المؤمنينَ قرابتي، وسابقَ صَداقَتي، فأشفَقَ عليَّ، وَرَجَع عما كان قاله. قال: فلما أتيتُ إليه، قال: يا عنبسة اذْكُرِ الموتَ؛ فإنه ما ذُكِرَ في قليلٍ إلا كثَّره، ولا ذُكِر في كثيرٍ إلا قلَّله، ثم انصرف عنبسةُ من مجلس عمر، بعد أن أخذ من عمر عطاء، ولكن من المواعظ التي تحيي القلوب.
نعم، لقد استشعر عمر بن عبدالعزيز الأمانة، فخافَ، فَعَفَّ، فَعَدَل.
كان همُّه الذي عاشَ له: كيف يَعيشُ الناسُ حياةَ الكرامةِ والإيمان؟ فكان قلبُه مع كلِّ يتيمٍ وفقيرٍ، وكل أرملةٍ ومسكينٍ وأسير، كان هؤلاءِ كلُّهم قابعين في ضَمِيره، تَتَلَجْلَجُ حاجاتُهم في داخلِه.
كان يستشعرُ حقًّا وصِدقًا شكواهم، وأنينهم، وبؤسَهم، وحنينَهم، أمسى ذاتَ ليلة فصلَّى ركعتين، ثم أطفأ سراجه، فجعل يبكي ويبكي طوال ليلته إلى أن بَزَغَ الصبح!! فسألتُه زوجه: يا أمير المؤمنين، أَأَمْرٌ أَلَمَّ بكَ، أم ماذا دهاك؟ فأجاب الرجلُ - الذي نَصبَ خوفَ الله أمام عينيه -: قال: إنِّي تذكرتُ البارحة رعيتي، فتذكرتُ الأسيرَ المقهور والفقير المحتاج، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، وذا العيال الكثير والمال القليل، فعلمتُ أن ربِّي سائلي عنهم، وأن محمدًا - صل الله عليه وسلم – حجِيجي فيهم، فخشيتُ ألا يقومَ لي أمامَ الله عُذْر، ولا يثبت لي أمامَ رسولِ الله حُجَّة، فَخِفْتُ على نفسي، فذاك الذي أبكاني.
حدثتْ زوجُه فاطمةُ فقالتْ: كان عمر يَذكر اللهَ على فِراشِه، فينتفضُ كما ينتفضُ العصفور، ثم يستوي جالسًا يبكي، حتى إنِّي لأخاف أن يصبحَ المسلمون، ولا خليفة لهم.
سُئِلَتْ زوجه عن عبادته، فقالتْ: والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صيامًا، ولكني والله ما رأيتُ أحدًا أخوف لله منه.
كان عمر يذكر الآخرة؛ فإذا ذَكَرَهَا فكأنما هو رجلٌ وقف على شفيرِ جهنَّم، فرآها يحطم بعضُها بعضها، فقيل له: هذه دارُ الظالمين، ثم رُدَّ إلى الدُّنيا، فهو يخافُها خوفَ مَن رآها رأي العين.
خطب الناس يومًا فقرأ: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 13 - 14]، فتَلَجْلَجَ لسانُه، واشتدَّ بكاؤُه، ولم يستطعْ إكمال خطبته.
بكى ليلةً في بيته، حتى بكتْ زوجُه لبُكائه، وبكى أهلُ الدار لبكائهما، لا يدري هؤلاءِ ما أبكى هؤلاء، فلما تجلَّت العبرةُ عنهم، سألتُه زوجه: ما يُبكيك؟ قال: ذكرتُ منصرفَ الناس بين يدي ربِّ العالمين، فريقٌ في الجنةِ، وفريقٌ في السعير.
أما زُهْدُه - رحمه الله - فما ظنُّكم برجلٍ أتتْه الدُّنيا، تَتَهَادَى فأَعْرَض عنها، وهو قادرٌ على أن يأخذَ ما يشاء منها، كانت مملكتُه من الهندِ إلى المغرب، ومن تركيا إلى اليمن.
ومع ذلك ما عاش كما يعيش الناس؛ بل عاشَ كما يعيشُ أقلُّ الناس، لقد تحوَّل عمر من الفراشِ الوثير إلى بساط الحصير، ومنَ الجبين الرقيق إلى الوجه الشاحب، ومن ثوبِ الحرير إلى القميص الخشن، فعل ذلك كله عن طوعِه واختياره وإرادته.
كان يخطبُ الناس، فينظرُ الناظرُ إليه؛ فإذا كلُّ بدنه وثيابه تقوَّم باثني عشر درهمًا.
دَخَلَ عليه يومًا محمد بن كعبٍ القُرظي، فجعل يُقلِّبُ النظرَ فيه، فليس هذا عمر الذي قد رآه قبل الخلافة، لقد عرف محمدٌ عمرَ، ليِّن العيش، زاهي الثياب، ناعم البشرة؛ فإذا هو يرى رجلاً شاحب الوجه، نحيل البدن، خشن الملمس.
فجعل محمد بن كعب يتعجَّب مما رأى، فَفَطِنَ عُمَر وقال: مالك يا كعب؟ قال: عجبتُ يا أميرَ المؤمنين من تَغيُّرِ حالك!
قال: يا محمد، لو رأيتني بعد ثلاثٍ من دفني، وقد سالتِ العينان، وانخَسَفت الوجنتان، وعاثَت في الجوفِ الدِّيدان - لكنتَ من حالي لحالي أشد عَجَبًا، وكنت أعظمَ إنكارًا، فتأثَّر محمد بن كعب مما سمع، حتى غطَّى وجهه وبكى.
أتتْ إلى عمر امرأة منَ العراق؛ تشكو ضعفَها، وكثرةَ بناتِها، فلما دخلت دارَه قلبتْ طرفها فيه، فإذا هي ترى دارًا وضيعة، وهيئةً متواضعة، فجعلتْ تَتَعجَّبُ مما ترى.
فقالتْ لها فاطمة زوجة عمر: ما لكِ؟ قالتْ: لا أراني إلا جئتُ لأعمر بيتي من هذا البيتِ الخراب، فقالت لها فاطمة: إنما خرَّب هذا البيتَ عِمارةُ بيوتِ أمثالك.
معاشر المؤمنين:
وعَرَف عمر قدْرَ نفسه، فكان يَزْدَريها ويحاسبها على كلِّ صغيرٍ وحقيرٍ، عرف عمر قدْر نفسه، فتزيَّن بالفعال، ولم يكترث بالمدائح والأقوال، فما كان يطربُه الثناء، ولا يستهويه الإطراء؛ لذا كانت بضاعةُ الشُّعراء والمدَّاحين كاسدةً في زمن عمر.
دخل عليه جرير الشاعر المشهور، فَقَلَّبَ له وُجوه القول، فلم يلتفتْ إليه عمر، فخرج من عنده وهو يقول: أتيتُ من رجلٍ يُعطي الفقراء، ولا يُعطي الشعراء.
ويوم أنْ بارَتْ بضاعةُ المَدَّاحين والأَكَّالين، راجتْ عندئذٍ بضاعةُ الناصحين منَ العلماءِ والفقهاء، فكانوا هم بطانةَ عمر وجلساءه، وكانت أفعالُ عمرَ وقرارتُه ترجمانًا لنصحائهم وتوجيهاتهم، كان حديثُ الخليفةِ مع خاصتِه وبطانته ليس حديثًا عن إنجازاته ومآثره، وإنما كان حديثُه وحديثُهم لا ينفك من ذكرِ الموتِ، والقبرِ، والدارِ الآخرة.
قال عطاء: كان عمرُ يجمعُ في بيته كل ليلةٍ الفُقهاء؛ فيتذاكرون الموت والقيامة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
عباد الله:
ومِن ملامح شخصية عمر:
أنه كان كثير الصَّمْت، دائم التَّفكير، ولكن كان إذا تَكَلَّم أعجب السامعين ببلاغتِه وفصاحتِه وبيانِه، حتى لكأنما كلماتُه تخرجُ مِن مشكاة النبوة، ولذا فلا عجبَ أن حُفظتْ كلماتُه، ودوِّنتْ عباراتُه، لا لأنَّها منَ الخليفة، وإنما لِمَا فيها منَ العِبَر والحِكْمة.
ومن مأثور قوله:
"إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعْمَلْ فيهما".
وقال: "أيُّها الناس، أصلحوا سرائركم تَصْلُح علانيتُكُم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دُنياكم".
وقال: "قيِّدُوا النِّعَمَ بالشُّكر، وقيِّدوا العلم بالكتابة".
وقال: "ملاقاةُ الرجال تلقيح للألباب".
وقال: "ليس الأحمقُ من بَاع آخرتَه بدنياه، الأحمقُ من بَاع آخرتَه بدينا غيره".
إخوة الإيمان:
ولما كانت هذه سيرةَ عمر، وهذا عدله، وهذا خوفه - فاضَ المال، وكَثُرَ الخير، وعَمَّت البَرَكة، ولهج المسلمون له بالدُّعاء والثناء، حتى إن غير المسلمين تعجَّبوا، وأُعجبوا بحياةِ عمر؛ ذكر ملكُ الرومِ لويس الثالث عمر بن عبدالعزيز، فقال: لو كان رجلٌ يُحيي الموتى بعد عيسى، لكان عمر.
والله لا أعجب من راهب جلس في صومعته، وقال: إني زاهد، ولكني أعجبُ ممن أَتَتْهُ الدنيا حتى أنَاختْ عند قدمِه، فأعرض عنها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومَن اجتبى، أما بعدُ:
فيا إخوة الإيمان:
وما زال عُمر مَرْضِيَّ السيرة، محمود الطريقة، محبوبَ الرعية، حتى أتاهُ أمرُ ربِّه الذي لن يُخطئ أحدًا منَ البَشَر، فقد باغته المرضُ، ولازَمَه الوجعُ أيامًا عدة، فحان وداعه، ولاحَ فراقُه، فدخلَ عليه في آخرِ لحظاتِه مسلمةُ بن عبدالملك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنه قد نَزَلَ بك ما أرى، وإنك قد تركت صبية صغارًا لا مال لهم، فأوصِ بهم إليَّ، أو اقسم لهم من المال، فقال عمر: ادعُ لي بَنيَّ، فجِيء بهم، وكانوا بضعةَ عشر صبيًّا، أتى بهم إلى عمر كأنهم أفراخ.
فنظر إليهم بحنان الوالد، وعطف الأبوَّة، نَظَرَ إلى ضعفِ الطفولة وبراءتِها، فلم يتمالك عمر دمعاته، وهي تتحادر من عينيه، ثم قال: يا بني، إنِّي قد تركتُ لكم خيرًا كثيرًا، فإنكم لا تمرُّونَ بأحدٍ من المسلمين، أو أهلِ ذمَّتِهم إلا رأوا أن لكم عليهم حقًّا، إن ولِيِّي عليكم الذي نزَّل الكتابَ، وهو يتولَّى الصالحين.
ثم قال: اصرفوهم عنِّي، فجعلَ عمرُ يبتهل إلى الله ببكاء صامت، ودعاء خاشع، يقول: "رباه، أنا الذي أمرتني فَقَصَّرت، ونَهيتني فعصيتُ؛ فإن غَفرتَ فقد مَنَنْتَ، وإن عاقبتَ فما ظلمْتَ".
ثم بعدها نزل الموت، وحضر الأجل، وحان الاحتضار، نزل الموت الذي طالما أفزع عمر، وأقلقه، وحركه، نزل بعد طولِ استعداد، وطولِ عمل، ثم فتح عمرُ عينيه، وأحدَّ نظره، ثم قال: إني لأرى حضرةً، ما هم بإنس ولا جانٍّ!! ثم حَرَّك شفتيه، فسمعوه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وأسلم عمرُ الروحَ إلى باريها. قال: "وحال رأسٌ طالما أثقلتْه هموم أمَّته، واسترخت يدان طالَما قامتا بأمر الله، وأُغمضت عينان هَطَلَتَا مِن خشية الله".
وودَّع عمرُ الأمَّة الإسلامية، ودعها بعد أن أشبعَ الجائعين، وأمَّن الخائفين، ونصر المستضعفين، ودع عمر الأمة بعد أن وَجَدَ فيه اليتامى أبًا، والأيامى كافلاً، والتائهون دليلاً.
ذهب عمر وقد حَقَّق للأمة العدل والأمان، والأمن والإيمان، والسكينة والاطمئنان، حقَّق ذلك كله ليس في عشرين أو ستين سنة، ولا عشر سنين، ولكن في سنتين، وخمسة أشهر وبضعة أيام.
فسلامٌ على عمر في الصالحين، سلامٌ على عمر في العادلين.
تلك - عبادَ الله - طرفٌ من سيرة عمر، وشيءٌ من خبره وأخباره.
وَاللهِ مَا ادَّكَرَتْ رُوحِي لِسِيرَتِهِ إِلاَّ تَمَنَّيْتُ فِي دُنْيَايَ لُقْيَاهُ
|