تاريخيًّا، ظلّ المجتمع الذكوري يتكالب على النساء، وفي الوقت نفسه ينظر إليهنّ نظرةً دونيَّة. لا فرق في ذلك بين غرب وشرق، ولا بين أتباع دينٍ وآخر. وفي العصر الحديث تعدَّدت الأقنعة، من وأد المرأة اجتماعيًّا وثقافيًّا، إلى تعريتها، وتسليعها، والمتاجرة بها، وحَيْوَنَتها. في الغرب كانوا حائرين أ بَشَرٌ هي، أم حيوان، أم شيطان؟! وقد اجتمع مؤتمر (ماكون)، في القرن الخامس عشر الميلادي، لبحث هذا الإشكال العويص، وانتهى من مباحثاته إلى أن المرأة النصرانيّة حطبُ جهنم؛ لأنها بِلا روح، واستثنى منهنّ جميعًا (مريم العذراء)، فقط لا غير! لا لشيء إلّا لكونها أُمّ (المسيح بن مريم)؛ وذلك يشفع لها في النجاة من جهنم! وقد عُدَّ ذلك تطوُّرًا تاريخيًّا في النظرة إلى المرأة! وقبل ذلك، وفي عام 568م، عقد (الفرنسيّون) مَجْمَعًا عِلميًّا مهيبًا خاصًّا لدراسة هذا الموضوع الجَلَل: تُرى هل المرأة إنسان؟ أم شيطان؟ أم ماذا؟ وبعد بحثٍ مستفيضٍ، توصَّلوا إلى نتيجةٍ مفادها: أن المرأة إنسان «في الظاهر»، ولكن إنما خُلِقت لخدمة الرجل، بوصفه «الإنسان الحقيقي»! ولذا كانت المرأة إلى القرن الثامن عشر تُباع وتشترى، كالمتاع في (أوربا). وجاء في القانون الإنجليزي لعام 1805م جواز بيع الرجل زوجته. وكان ثمنها المنصوص عليه (ستة شلنات) لا أكثر! وقد عُدَّ كذلك تطوُّرًا حضاريًّا لافتًا في ذلك القانون أن وَضع شرطًا لبيع الرجل امرأته، أن توافق هي!
-2-
إن الشكّ في إنسانيّة المرأة، والموقف العنصري منها في النصرانيّة، على سبيل الشاهد، إنما جاء مستندًا على مواقف الكنيسة من المرأة. مواقف كانت تذهب، تارةً، ووفقًا للكتاب المقدس، إلى أن شهادة مئة امرأة بشهادة رجل واحد، حسب العهد القديم. أمّا حسب العهد الجديد، فإن عليها أن تَخْرَس في الكنيسة، وأن تكون خاضعةً، خادمةً، لزوجها. وأن خير ما تتعلَّمه المرأة «السكوت والخضوع للرجل»! وأنْ ليس الرجل من المرأة، بل المرأة من الرجل، وهو تاج رأسها. وتكفيها جريرةً أنها أغوته للخروج من الفردوس، فقد اقترفت إثمًا أبديًّا مبينًا وخطيئة لا تُغتفر! وأن على المرأة إمّا أن تغطِّي شَعرها أو أن تحلقه نهائيًّا. استنادًا إلى ما ورد في (الإنجيل): «فأُريد... كذلك أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتهنَّ بِلِبَاسِ الحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وتَعَقُّل، لا بضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ، بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ مُتَعَاهِدَاتٍ بِتَقْوَى اللهِ بِأَعْمَال صَالِحَةٍ. لِتَتَعَلَّمِ المَرْأَةُ بِسُكُوتٍ في كُلِّ خُضُوعٍ. ولكِنْ لَسْتُ آذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ ولا تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتٍ، لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ، وآدَمُ لَمْ يُغْوَ، لكِنَّ المَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ في التَّعَدِّي. ولكِنَّها سَتَخْلُصُ بِوِلاَدَةِ الأَوْلاَدِ، إِنْ ثَبَتْنَ في الإِيمَانِ والمَحَبَّةِ والقَدَاسَةِ مَعَ التَّعَقُّلِ.» «وأُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُل هُوَ الْمَسِيحُ، وأَمَّا رَأْسُ المَرْأَةِ فَهُوَ الرَّجُلُ، ورَأْسُ المَسِيحِ هُوَ اللهُ. كُلُّ رَجُل يُصَلِّي أَوْ يَتَنَبَّأُ ولَهُ عَلَى رَأْسِهِ شَيْءٌ، يَشِينُ رَأْسَهُ. وأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ ورَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا، لأَنَّهَا والمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. إِذِ المَرْأَةُ، إِنْ كَانَتْ لا تَتَغَطَّى، فَلْيُقَصَّ شَعَرُها. وإِنْ كَانَ قَبِيحًا بِالمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ، فَلْتَتَغَطَّ. فَإِنَّ الرَّجُلَ لا يَنْبَغِي أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ لِكَوْنِهِ صُورَةَ اللهِ ومَجْدَهُ. وأَمَّا المَرْأَةُ فَهِيَ مَجْدُ الرَّجُلِ. لأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنَ المَرْأَةِ، بَلِ المَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ. ولأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ أَجْلِ المَرْأَةِ، بَلِ المَرْأَةُ مِنْ أَجْلِ الرَّجُلِ. لِهذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى رَأْسِهَا، مِنْ أَجْلِ المَلاَئِكَةِ...». وكذلك ما ورد في «العهد القديم/ التوراة»: «وكَانَتِ الحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ البَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لا تَأْكُلا مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» فَقَالَتِ المَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الجَنَّةِ نَأْكُلُ، وأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي في وَسَطِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ اللهُ: لا تَأْكُلا مِنْهُ ولا تَمَسَّاهُ لِئَلَّا تَمُوتَا». فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلانِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وتَكُونَانِ كاللهِ عَارِفَيْنِ الخَيْرَ وَالشَّرَّ». فَرَأَتِ المَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وأَكَلَتْ، وأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. وسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا في الجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ في وَسَطِ شَجَرِ الجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟!». فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ في الجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». فَقَالَ: «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لا تَأْكُلَ مِنْهَا؟» فَقَالَ آدَمُ: «المَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ». فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: «مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟» فَقَالَتِ المَرْأَةُ: «الحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ». فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ البَهَائِمِ ومِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ البَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وبَيْنَ المَرْأَةِ، وبَيْنَ نَسْلِكِ ونَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ». وقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ».»
وتارةً أخرى، كان يحدث ذلك الاضطهاد للمرأة اتِّباعًا لبقايا موروثات اجتماعيّة، إغريقيّة أو رومانية أو غيرهما، كانت لا ترى المرأة إلّا شرًّا في الحياة، وإنْ كانت شرًّا لا بُدّ منه! ومَن شاء معرفة تاريخ المرأة في بعض المجتمعات الأوربيّة، وما جاورها، كـ(روسيا)، فليقرأ «رحلة ابن فضلان»، (-312هـ= 924م)، حيث وصف أنه كان لبعض ملوكهم أربعون امرأة، لفراشه فقط. وكان إذا مات سيّدٌ، لا بُدّ أن تُقتل إحدى نسائه معه وتُحرَق، بعد ممارسات طقوسيَّة بذيئة، وفي غاية الوحشيَّة والبشاعة.
على أن حقوق المرأة ليست مرتبطة بالتحضّر بالضرورة، كما أن الهيمنة الذكوريّة اجتماعيًّا لا علاقة لها بالمجتمعات البدائيّة، بالضرورة كذلك. فكم من مجتمعٍ بدائيٍّ أكثر عدلًا وعقلًا من مجتمع يدّعي التحضّر!
-3-
أمّا العرب الأقدمون، فلقد كانت معظم آلهتهم العتيقة مؤنَّثة، وتصوَّروا ملائكة الرحمن إناثًا. ولكن يا لمفارقات المجتمعات البشريّة وما بينها من تضادّ القِيَم، وتحوّلات الاتجاهات، حتى في الأُمّة الواحدة. فجاء فيهم وأد المرأة، لأسباب اقتصاديّة واجتماعيّة، وتوارثوا سبي النساء في الحروب واضطهادهن. ورسّخ الشِّعر العربي صورة المرأة العورة، المرأة التي لا تستحقّ الحياة، وهي عِبء على الرجل وعلى الحياة، مثلما جد في شِعر (البحتري) و(أبي تمام) و(المعرّي). [انظر كتابي "نقد القِيَم العربيَّة الإسلاميَّة"، (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2005]. وصوّروها دُميةً، ومادّة لذّةٍ للرجل، بلا حياء ولا ضمير.
أجل، ما انفكّ الشِّعر العربيّ- في صورته الشوهاء- يُغذِّي روح التفاخر القَبَلِيّ، ومضامين الغزو، والنهب، والسلب، والسبي، والإعلاء من عادات استباحة الخصوم، دمًا ومالًا وعِرضًا. وقد بقي فخر الشعراء العرب معروفًا بالغَدر، وبالظُّلم، ووأد البنات- جسديًّا أو ثقافيًّا- وهجاء خصومهم بأنهم: «قُبَيِّلة لا يغدرون ولا يظلمون»، كما في بيت (النجاشي الحارثي، -40هـ= 660م) في هجاء (بني العجلان):
قُـبَيِّـلَةٌ لا يَغـدرون بذِمَّـةٍ ** ولا يظلمون الناسَ حـَبَّةَ خَـرْدَلِ
فمن العيب لدى العرب أن لا يكون المرء غدَّارًا ظلومًا! و«الظُّلم من شِيَم النفوس»، كما قال حكيم الشعراء الأكبر (أبو الطيِّب المتنبي).
ثمّ ها هم أولاء كبار الشعراء الإسلاميين يتفاخرون ويمدحون أسيادهم بالبربريّة الهوجاء في استباحة الأعداء، وبسبي النساء والأطفال في الحروب. ها هو ذا (أبو تمام الطائي) يمدح الخليفة العباسي (المعتصم) في بائيَّته المشهورة في فتح (عموريّة)، بقوله:
كَم نيلَ تَحتَ سَناها مِن سَنا قَمَرٍ
وتَحتَ عارِضِها مِن عارِضٍ شَنِبِ
كَم كانَ في قَطعِ أَسبابِ الرِقابِ بِها
إِلى المُخَدَّرَةِ العَذراءِ مِن سَبَبِ
أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاِسمِهِمُ
صُفرَ الوُجوهِ وجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ
بيضٌ إِذا اِنتُضِيَت مِن حُجبِها رَجَعَت
أَحَقَّ بِالبيضِ أَترابًا مِنَ الحُجُبِ
ويقول (أبو فراس الحمداني) كذلك:
إِنْ زُرتُ خَرشَنَةً أَسيرا
فَلَكَم أَحَطتُ بِها مُغيرا
وَلَقَد رَأَيتُ النارَ تَنـ
ـــتَهِبُ المَنازِلَ وَالقُصورا
وَلَقَد رَأَيتُ السَبيَ يُجــ
ــلَبُ نَحوَنا حُوًّا وحُوْرا
نَختارُ مِنهُ الغادَةَ الــ
ــــحَسناءَ والظَّبيَ الغَريرا
أمّا (أبو الطيِّب المتنبي)، فيقول:
وأَمسى السَّبايا يَنتَحِبنَ بِعَرقَةٍ ** كَأَنَّ جُيوبَ الثاكِلاتِ ذُيولُ
إنها ثقافة عالميَّة عريقة في ظلم الرأة. لا علاج لأمراضها إلّا بتحكيم قوانين في العدالة الإنسانيّة، تعلن القطيعة مع تلك الموروثات المريضة. فالإنسان ما لم يعصمه عقل، ويحكمه قانون إنساني صارم، هو أكثر توحُّشًا من الحيوان. وما الظواهر «الدواعشيَّة» والإرهابيّة اليوم إلّا وليدة تلك المدارس الثقافيَّة
-4-
في مقابل ذلك، وفي متابعة سيرورة السلوك الاجتماعي الغربيّ مع المرأة، يُلحظ أنه لمّا تقرّر لدى حكماء الغرب أن المرأة لا تخلو من بشريّة، انتقلوا إلى مرحلة جديدة، إنما طوّروا فيها سلوكهم القديم ليجعلوا المرأة سلعةً معروضةً، ومتعةً عموميّةً للذكور، وَفق سلوكهم الحديث. والغريب أن المرأة نفسها ظلّت تستسلم لذلك حديثًا، كما استسلمت لمثله قديمًا، بل هي كثيرًا ما تُناضِل من أجله باستماتة، وتراه حُريَّتها؛ فهي بذاك حفيدة تلك الجارية التي كانت تَنْذُر نفسها للقتل والحرق مع سيِّدها، كي تَلْحَق به في الجنّة، حسب وصف ابن فضلان لمشاهداته في المجتمعات الأوربيّة! وهنا يتجلَّى الارتهان للسلطة الذكوريّة. والمرأة حينما ترضى بدرجةٍ أقلّ من تلك الدرجة التي هيّأها الله لها، عقلًا وروحًا وجسدًا، متنازلةً عن كامل حقوقها الإنسانيّة، إنما تُسهم في إهانة نفسها بنفسها، على نحوٍ أفظع من الإهانة الذكوريّة لكرامتها.
لقد اتُّخذت المرأة وفق الحضارة الغربيّة- العريقة في نظرتها المحتقرة إلى المرأة- مطيّةً تجاريّة؛ لأنها في نظرهم تصلح لتلك الوظائف الحيوانية والشيطانية الإغرائيّة جميعًا؛ لتوافرها على خصائص المخلوقات الثلاثة: الحيوان، والشيطان، وبعض الإنسان. وما أزياء المرأة، التي ابتكرها الغرب في العصر الحديث، دون سائر الشعوب «المتخلّفة»، إلاّ إرثٌ تاريخيٌّ عن نظرته السلبيَّة إلى المرأة. وما كانت المرأة الغربيَّة هكذا تلبس قبل القرن العشرين.
-5-
لا فرق إذن، فواقعنا المعاصر وريث تراث التخلّف والظلم، اختلفت الأقنعة والوأد واحد! مع أن المتتبع سيلحظ أن وضع المرأة العربيّة وحقوقها العامّة قد آلت إلى تدهور في القرون الأخيرة، وذلك بسيادة تيارات دينيّة ومذهبيّة متشدّدة، عزّزت نزوعًا اجتماعيًّا موروثًا. وبذلك انحطّت مكانة المرأة المعنويّة عن ذي قبل؛ إذ يشهد تاريخنا الاجتماعي أنها كانت أفضل ممّا هي عليه الآن، كما تشهد الوثائق المكتوبة على مقدار ما كانت تحظى به من احترام لا تعرفه اليوم. فلقد كانت تلقّب، مثلًا، بـ"السيِّدة"، وبـ"الحُرّة"، وهما لقبان يستنكف بعض من في نفوسهم جاهليّة عن منحهما المرأة، دون أن يدركوا بأنهم بذلك الاستنكاف إنما يهينون أنفسهم هم، بإهانة أُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم أو احتقارهن! بل إن بعضًا ليشتمّ من لقبين مثل هذين دعوة إلى تحرير المرأة، بما يكتنف مفهوم "تحرير المرأة" في تلك العقول من رِيَب وارتيابات؛ ما ينمّ، في ذاته، عن موقف من المرأة، على أنها غير جديرة أصلًا بأن تكون "حُرّة"، بل أن تكون "أَمَة"، أو شِبْه أَمَة!
-6-
كُـلُّ الدُّنْـيَــا الأُنـْـثَـى ، وعَلَـيْـــ
ـها كُـلُّ الأُخْـرَى سَـوْفَ تَـدُوْرْ
* * *
مَـنْ قـالَ : « الأُنـْـثَـى شـَـيْـطـَانٌ »؟
فابْـنُ الشَّيْطَانِ هُـوَ الـمَـغْـرُوْرْ!
مَـنْ قـالَ : « الـمَـرأةُ عـارٌ » فَـهـْـ
ــوَ وَلِـيْـدُ الـعَـارِ أَتـاكَ يَـخُـوْرْ
الـمَـــرأةُ مَـنْــزِلَــةٌ عُـلْـــيــَــا
بَـيْـنَ الإِنسـَــانِ وبَـيْـنَ النُّـــوْرْ
وُئِـدَتْ فـي بَـحْـرِ غِـيَــابٍ ، وابْـــ
ـتُـزَّتْ - دَجَـلًا - في بَـرِّ حُضُوْرْ
* * *
سَـلْ (لَـيْـلَى) / (لُـوْ أَنـْـدِرْيـَـاسَ):
ما ذَنـْـبُـهُما إنْ جُــنَّ صُقُــوْرْ؟!
مَـنْ كُــلُّ الـمَـرأةِ صَــيْـدُهُــمُ:
جِـنْـسًا ، أو مُـلْكَ يَـدٍ ، وبَخُـوْرْ
مُـذْ (قَـيْـسٍ) حـتى (نِـتْـشَـةَ) والسَّــ
ــوْطُ الـضَّارِيْ بـَـرْقٌ مَـسْطُـوْرْ
وكـذا يَـحْـكِــــيْ (زارادِشـْـــتُ)
فـي جَـهْــلٍ نِـسْـبِـيٍّ مَشْهُــوْرْ
كَـتَـبُـــوا : هِـيَ حَـيَّــــةُ آدَمَ ، أو
قـالُوا : مَـوْتُ الرَّجُـلِ الـمَغْـدُوْرْ
* * *
أَ ذُكُـــوْرَةُ هـذا الكَــوْنِ بِـــنـَـا؟
أَمْ أَنَّ الأُنـْـثَـــى داءُ ذُكُـــوْرْ؟
هَـمَـسَـتْ ، فـارْتَـفَّ نَـوارِسـُـهـــا،
وتَـكَـسَّــرَ صَمْـتٌ مِنْ بَـلُّـوْرْ:
أُنـْـثَـى .. ذَكَــرٌ .. ذَكَــرٌ .. أُنـْـثَــى،
لا فَـرْقَ ، ضَحـايـا هُمْ ونُـذُوْرْ
تَـئِـدُ الأُنـْـثَـى الأُنـْـثَـى ، وتُـمَـــزِّ
قُ شَـرْنَـقَـــةً أُنـْـثَى الزَّنْـبُـوْرْ!
وسَـيَـلْـتَـهِــمُ الجُـــبُّ يُـوْسُـفَـــهُ
ويـُحَمْلِـقُ فـي وَجْهِـيْ كالعُـوْرْ
* * *
لا تُـغْمِـضْ عَـيْـنًا ، وافْـتَــحْ بِــــيْ
فـي الشَّمْسِ نـَهارًا .. جَنَّـةَ حُـوْرْ!
وارقُصْ- قالتْ - رَقْـصَ « التَّـنْـغُوْ »،
بـِيْ مُلْـتَـحِـمًـا وبِـلا مَـحْـظُـوْرْ
تَـرَ (مَـرْيَــمَ) فـي عَـيْـنِـيْ تَصْحُـوْ
و(خَـدِيْـجَـةَ) مِنْ شَفَـتَيَّ تَـفُـوْرْ
فالـمَــرأةُ مَعْـدِنُــــكَ الأَرْقَـــــى
وبِمَعْـدِنِـكَ الأَرْقَـى سَـتَـثُــوْرْ!
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي